عن الحياة الثقافية ومكانة المرأة… هل كان عصر جاهلية حقا؟! 2/2 - مقالات
أحدث المقالات

عن الحياة الثقافية ومكانة المرأة… هل كان عصر جاهلية حقا؟! 2/2

عن الحياة الثقافية ومكانة المرأة… هل كان عصر جاهلية حقا؟! 2/2

حسن الحو:

 

تابعنا في الجزء الأول، كيف تمت شيطنة عصر ما قبل الإسلام ووصمه بالجاهلية والانحطاط، ووقفنا في المقابل، على بعض القيم التي كانت سائدة خلال هذه الحقبة، خصوصا منها ما يتعلق بالحرية والتعددية الدينية، وأيضا من خلال التفصيل في بعض القيم الأخلاقية التي سادته.

في هذا الجزء الثاني، نواصل التنقيب في بعض مقومات هذا العصر، من خلال التوقف عند الحياة الثقافية ومكانة المرأة داخل مجتمعات ما قبل الإسلام.

■︎ الحياة الثقافية: لم تكن الحياة بالمجتمع الجاهلي، كما وصفتها السردية الإسلامية، جاهلة ومتخلفة، بل كانت حياة غنية زاخرة بالمظاهر الثقافية، فإلى جانب براعة العرب في الخطابة وفنون الشعر، ونبوغهم في تصوير بيئتهم الصحراوية والعادات الاجتماعية، وتنوع الأغراض الشعرية لتشمل كل اهتمامات الفرد والمجتمع، فقد اهتمت الطبقة المثقفة بتنظيم أسواق ثقافية تُعد حدثا موسميا للسياحة والتجارة، وتسوية النزاعات وتنظيم المسابقات الشعرية للتباري بين شعراء القبائل. من أبرز هذه الأسواقسوق عكاظ، سوق الرابية، سوق المشقر، سوق دومة الجندل، سوق ذي المجاز، سوق مجنة، سوق نطاة خيبر، سوق هجر.

كما عرفت مكة طائفة من المهتمين بالفلك ودراسة النجوم سموا بـالقلامسة، كانت مَهمتهم إفتاء العرب في تواريخ مناسكهم وضبط شهور السنة القمرية، عن طريق عملية الكبس، لتكون شهور السنة ثابتة على مدار الفصول، وهي عملية تم إهمالها بعد مجيء الإسلام، فاختل نظام الأشهر وأصبحت السنة الهجرية لا تصلح لتقويم فلاحي ولا لغيره، فالعرب سمت رمضان بهذا الاسم لأن مجيئه كان يأتي في فصل الحر، فاشتق له اسم من الرمَض أي شدة الحر، وسمت شهرا بشوال لأنه كان يوافق موسم تزاوج النوق وشَوَلانها بذيولها، وسمت شهرا بجمادى لتجمد الماء فيه، وهكذا، لكل شهر دلالة على حدث يتكرر كل سنة، واليوم أصبحت الشهور تدور وتوافق كل فصول السنة، لإهمال التقويم الذي اعتمده القلامسة.

وكان العرب عامة يكتبون ويقرؤون بعد نقلهم حروف الهجاء من الحضارة النبطية، كما شاع بينهم نوع من التطبب المبني على المشاهدات اليومية والتداوي بمنقوع الأعشاب. يقول الدكتورغالب السرجاني في كتابه قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية: إن عرب الجاهلية استعانوا بالأدوية البسيطة والأشربة الطبيعية، من قبيل العسل الذي اعتبر حينذاك أساس العلاج لأمراض البطن وعلله، وفي جوانب أخرى، قام العرب بتنفيذ بعض العمليات الجراحية الصغرى ومن بين تلك العمليات؛ الحِجامة والبتر والكيِّ والحِمية والفصد”. وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب”: “وفي مُداواة الجروح تقليدٌ عربيٌ قديم هو تعبيرٌ أصيلٌ عن عبقريةِ العرب، ذلكَ أن عَرَب الجَاهلية قد أبدعوا في مُداواة الجُروح المُعدية ووجدوا لها وسيلة لم تُكتَشَف إلَّا في قرننا العشرين، وكانَ لها صدىً عظيم، ونعني بها مُضادَّات الجراثيم، فمِن سُرُوج حميرهم ودَوابِّهِم حصلوا على الموادِّ المُضَادَّة للجراثيم (البنسلين) وعلى دواء الهليون، وصنعوا منها مَرَاهِم وعالجوا بها جِراحَاتِهِم المُلتَهِبَة، كما أنَّهُم نفخُوا غُبار الخُبز العَفِن في الحَلْق لدى التهابه، كما هُوَ معهودٌ لدى البدو حتَّى أيَّامِنا هذه”. ويقول عباس محمود العقاد: “يبدو لنا أنَّ اشتغال العَرَب الطَّويل برعي الماشِية؛ قد بَاعَدَ بينهُم وبين طِب الكهانة والخُرافة، وقَارَب بينهم وبين طِب التَّجارُب العملية، لأنَّهُم راقبوا الحَمْلَ والوِلادة والنُّمو وما يتَّصِل به من الأطوارِ الحيوية، وشرَّحوا الأجَسام، فعرِفوا مواقِع الأعضاء منها، وعرفوا عمل الأعضاء في بُنية الحيوان نحْوَاً من المعرفة السَّليمة، فاقتَرَبُوا من الإصابة في تعليل المَرَض والشِّفَاء.” المصدر: (أثر العرب في الحضارة الأوربية).

ورغم أن هذا الطب كان مقترنا بالكهانة والعرافة، لكنه كان في بعض جوانبه معتمدا على أسس صحيحة، واشتهر من أطباء العرب قبل الاسلام: الحارث بن كلدة الثقفي، ابن حذيم، زينب طبيبة بني أود، عبد الملك بن أبجر الكناني.

■︎ مكانة المرأة في المجتمعات قبل الإسلام: كانت الحرائر من النساء مصونات الأعراض، ذوات ذمة مالية مستقلة، يتمتعن بقدر وافر من الكرامة والحقوق، ولعل وضع السيدة خديجة، كتاجرة مشهورة في قريش، ومبادرتها لخطبة الرسول قبل بعثته، دليل واضح على مكانة المرأة الاعتبارية في المجتمع قبل الإسلام.

كما كانت النساء مهوى أفئدة الشعراء، يُطلب وصلهن بالقصائد الغزلية الرقيقة، ويُبدل في سبيل خطبتهن الغالي والنفيس، ولم ترض المرأة أن تكون موضوعا للشعر الغزلي فقط، بل شاركت الشعراء في مضمارهم وبزتهم في صناعتهم، واشتهر من شاعرات العصر العربي قبل الإسلام، جليلة بنت مرة والخنساء بنت عمرو، التي كان شعرها لا يختلف في جودة صياغته وجزالة ألفاظه عن فحول الشعراء، حتى ارتضوها أن تكون حكما بين المتنافسين.

بجانب الشعر، نبغت النساء في العرافة والكهانة، التي كانت تُعتبر علما روحانيا يتطلب التمتع بقدر لابأس به من الرصانة والحكمة، وتملك قواعد اللباقة والقدرة على السجع المنمق، وحظيت الكاهنات بقدسية دينية ونفوذ كبير، فكانت آراؤهن تؤخذ على محمل الجد ولا يراجعن في القول.

من أشهر كاهنات العرب، التي كان يلجأ إليهن لطلب خبر الغيبياتطريفة الكاهنة وكانت باليمن، وفاطمة الخثعمية وكانت بمكة، والزرقاء بنت زهير، وزبراء كاهنة بني رئام، وأم قرفة
أما في الحروب، فقد كانت المرأة مدار رحى بعض الحروب، دفاعا عن عرضها واستجابة لاستغاثتها، فهذا عمرو بن كلثوم يستل سيفه ليقتل عمرو بن هند بعد نداء أمه “واقوماه” ثم يمضي منشدا معلقته الشهيرة:

أَلا هُبّي بِصَحنِكِ فَاَصبَحينا ## وَلا تُبقي خُمورَ الأَندَرينا

مُشَعشَعَةً كَأَنَّ الحُصَّ فيها ## إِذا ما الماءُ خالَطَها سَخينا

صَبَنتِ الكَأسَ عَنّا أُمَّ عَمرٍو ## وَكانَ الكَأَسُ مَجراها اليَمينا

وَما شَرُّ الثَلاثَةِ أُمَّ عَمرٍ ## بصاحِبِكِ الَّذي لا تَصبَحينا

وَكَأسٍ قَد شَرِبتُ بِبَعلَبَكٍ ## وَأُخرى في دِمَشقَ وَقاصِرينا

أَبا هِندٍ فَلا تَعَجَل عَلَينا ## وَأَنظِرنا نُخَبِّركَ اليَقينا

بِأَنّا نورِدُ الراياتِ بيضا ## وَنُصدِرُهُنَّ حُمراً قَد رَوينا

وَأَيّامٍ لَنا غُرٍّ طِوالٍ ## عَصَينا المَلكَ فيها أَن نَدينا

ويكفي، لنعلم مكانة المرأة في المجتمع قبل الإسلام، أن أشهر حروب العرب المسماة بحرب البسوس، قامت من أجل ناقة “البسوس” خالة كليب بن ربيعةحربٌ دامت أربعين سنة، قامت بين قبيلة تغلب بن وائل وأحلافها، ضد بني شيبان وأحلافها من قبيلة بكر بن وائل، بعد قتل جساس بن مرة الشيباني البكري لكليب بن ربيعة التغلبي، ثأرا لخالته البسوس بنت منقذ، بعد أن قتل كليب ناقة كانت لجارها سعد بن شمس الجرمي. كما أنيطت بالمرأة أدوار محورية في الحروب، فهن المسعفات وهن المشجعات… فعندما استحكم الصراع بين الغساسنة والمناذرة، قامت حليمة بنت الحارث الغساني تتفقد جنود أبيها بنفسها، وتدهن أيديهم بالطيب والعطر، وهي تبث فيهم روح الحماسة والإقدام.

وكان من بين نساء العرب طائفة تدعى بـالعَمَّاريات أو بنات طارق، نساء ذوات جمال وحسن باهر، اقتصر دورهن على مصاحبة الجيوش في الحروب، لعقد عزائم الرجال على الاستبسال، ودفعهم للاستماتة في القتال، مقابل تسلميهن لأنفسهن بعد النصر والظفر على الأعداء. وكانت العماريات يركبن هودجا بين المقاتلين، ويُشِرن بأيديهن ليحرضنهم على القتال. يقول المفكر والباحث السوري تركي علي الربيعو في دراسته الوصفية طقوس الخصب عند البدو، معرفا المرأة العمارية: “امرأةٌ ذات حسبٍ ونسبٍ وأصلٍ رفيعٍ تحضّ الرّجال على القتال، وهي عادةٌ بدويّةٌ معروفة، ولازلت العمارية من طقوس الأعراس المغربية حيث تجلس العروس على هودج مزخرف، وتشير بأيديها للمدعوين ويرافقها أحيانا شباب بلباس الفرسان يمتطون أحصنة خشبية.

وسميت بنات طارق بهذا الاسم، انتسابا للنجم الطارق، تعبيرا عن شرفهن وحسنهن، يقول ابن قتيبة في المعاني الكبير: “نحن بنات طارق إنّما أردن بالطّارق النّجم، وأنّهنّ شبّهن أباهنّ بنجمٍ في علوّه وشهرة مكانه”.
وبلغ من جمالهن أن فضلتهن السيدة عائشة على الخيول العربية الأصيلة. أخرج أبو الفرج الاصبهاني في كتابه الأغاني عن شيخه الحرميّ قال: حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمّد بن يحيى عن جدّه غسّان بن عبد الحميد قال: رأت عائشة زوج النّبيّ بنات طارق اللّواتي يقلن: نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ * نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ، فقالت: أخطأ من يقول: الخيل أحسن من النّساء”.

ولم تكن بنات طارق يستحيين من إثارة حمية الجنود بالكشف عن مواضع جمالهن والتعري الفاضحجاء في الأغاني: “قال ابن الكلبيّ: لمّا كان يوم التّحالق [يوم لبكر على تغلب من أيّام حرب البسوس]، أقبل الفِنْدُ الزِمَّانِي [شاعر وفارس ربيعة من بني زِمَّان بن بكر بن وائل] إلى بني شيبان، وهو شيخ كبير قد جاوز مائة سنة، ومعه بنتان له…، فكشفت إحداهما هَنَهَا (فرجها) وتجردّت، وجعلت تصيح ببني شيبان ومن معهم من بني بكر:

وَعَا وَعَا وَعَا حُرَّ الجَوَادُ وَالْتَظَى

 وَمُلِئَتْ مِنْهُ الرُّبَا يَا حَبَّذَا

يَا حبذا الملحقون بِالضُّحَى

ثمّ تعرت الأخرى وأقبلت تقول:

إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ وَنَفْرُشُ النَّمَارِق أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ

القصد من إيراد هذه التفاصيل، هو الوقوف على الحرية الممنوحة للمرأة في العصر الذي سبق الإسلام، ودورها في الحرب والسلم. حرية، لم تمنع بعضهن من نصب رايات على خيامهن، إعلاما للراغبين في المتعة وقضاء أوقات حميمية مدفوعة الأجر، ثم إذا حدث وحملت إحداهن، دعت كل من عاشرها ثم نسبت لأحدهم الابن، فيقبله دون معرة أو استهجان من المجتمع.

روى البخاري في صحيحه وأبو داود في سننه عن عائشة “أنَّ النِّكاحَ كانَ في الجاهليَّةِ على أربعةِ أنحاءٍ فكانَ منها نكاحُ النَّاسِ اليومَ يخطبُ الرَّجلُ إلى الرَّجلِ وليَّتَهُ فيُصدِقُها ثمَّ ينكحُها ونكاحٌ آخرُ كانَ الرَّجلُ يقولُ لامرأتِهِ إذا طهُرَت من طمثِها أرسلي إلى فلانٍ فاستبضعي منهُ ويعتزلُها زوجُها ولا يمسُّها أبدًا حتَّى يتبيَّنَ حملُها من ذلكَ الرَّجلِ الَّذي تستبضعُ منهُ فإذا تبيَّنَ حملُها أصابَها زوجُها إن أحبَّ وإنَّما يفعلُ ذلكَ رغبةً في نجابةِ الولدِ فكانَ هذا النِّكاحُ يسمَّى نكاحَ الاستبضاعِ ونكاحٌ آخرُ يجتمعُ الرَّهطُ دونَ العشرةِ فيدخلونَ على المرأةِ كلُّهم يصيبُها فإذا حملت ووضعت ومرَّ ليالٍ بعدَ أن تضعَ حملَها أرسلت إليهم فلم يستطع رجلٌ منهم أن يمتنِعَ حتَّى يجتمعوا عندَها فتقولُ لهم قد عرفتُمُ الَّذي كانَ من أمرِكم وقد ولدتُ وهوَ ابنُكَ يا فلانُ فتسمِّي من أحبَّت منهم باسمِهِ فيَلحقُ بهِ ولدُها ونكاحٌ رابعٌ يجتمعُ النَّاسُ الكثيرُ فيدخلونَ على المرأةِ لا تمتنعُ مِمَّن جاءها وهنَّ البغايا كنَّ ينصبنَ على أبوابِهنَّ راياتٍ يكنَّ علمًا لمن أرادهنَّ دخلَ عليهنَّ فإذا حملت فوضعت حملَها جمعوا لها ودعوا لهمُ القافةَ ثمَّ ألحقوا ولدَها بالَّذي يرونَ فالتاطهُ ودُعيَ ابنَهُ لا يمتنعُ من ذلكَ”.

ومن الشخصيات المشهورة التي نتجت عن هذه العلاقات الرضائية، زياد بن أبيه أو “زياد بن أبي سفيان” القائد الأموي وأحد أعلام الخلافة الراشدة الذي استلحقه معاوية كأخ له، بعد اعتراف أبيه “أبو سفيان” بأنه زنى بأمه “سمية” بالطائف.

إن ما ورد في الحديث من حرية جنسية، يرتضيها المجتمع ويتعايش معها، ولا يرفض ما نتج عنها من حَمْل، عرفها المجتمع ” الجاهلي” منذ قرون، ولازالت مطلب المنظمات الحقوقية وحركات التمرد النسوية في المجتمعات المعاصرة، التي لا تعتبر نفسها جاهلية. فالإنسان العربي قبل الإسلام كان يرضى بحكم القائف، وهو المتخصص في إلحاق المتشابهين بعضهم ببعض، الذي يمكن تعويضه اليوم، بتحليل ADN ليتحمل تكاليف تربية ابنه دون حرج.

إن ما تقدم ذكره من مميزات المجتمعات العربية قبل الإسلام، هو صورة مصغرة، واختصار مُخِلٌّ، لا يعطي تلك المجتمعات حقها وما عرفته من شيم أخلاقية وقيم إنسانية رائدة، شوهتها الدراما السينمائية والسردية التاريخية المنحازة. فما عرفه المجتمع العربي قبل الإسلام موضوع يدعو لتعميق البحث حول الحقبة الموسومة بالجاهلية، لمعرفة الفرق بين شعوب كانت تحض على التعايش وشعوب تقتل المخالفين. بين قبائل كانت تستشير النساء… وفتاوى شيوخٍ تجعلهن عورة.

ماريانا

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*