حسام جاد:
إذا كان الأساس الذي يقوم عليه الجدل حول تسمية دخول جيوش العثمانيين إلى مصر عام 1517 وغيرها من بلدان المنطقة ناتجاً عن تصوّرنا أن مصطلح "الفتح" يحمل دلالات إيجابية، بينما مصطلح "الغزو" قد يحمل عند البعض دلالات سلبية؛ فمن المؤكد أنّ هذا الموقف من المصطلحين ودلالة كل منهما يرتبطان في المقام الأول بوعينا التاريخي في العصر الذي نعيشه الآن، وطبيعة إدراكنا الحالي لماضينا البعيد.
لذلك من الواجب أولاً مراعاة السياق التاريخي لمصطلحَي (غزو / فتح)، واختلاف دلالات استخدامهما اللغوي عبر أزمنة متتالية ومختلفة عن الزمن الذي نعيشه، ذلك أن القدماء من المسلمين (العرب-الترك)، وغير المسلمين كذلك، لم يُحمّلوا أياً من المصطلحَين دلالات سلبية أو إيجابية بشكل قاطع.
فنجد السلاطين من المماليك والعثمانيين كانوا يحملون من بين ألقابهم لقب (الغازي)، وفي مقدمتهم "السُلطان الغازي أبي الفتح والمعالي محمد خان الثاني بن مُراد بن محمد العثماني"، وهو من أكثر السلاطين العثمانيين شهرة ودموية، والمعروف لدى أغلبنا بـ "محمد الفاتح"، وها هي المفارقات التاريخية تضعنا أمام سلطان جعلت منه الألقاب فاتحاً وغازياً في آن واحد، كذلك فإن معارك المسلمين زمن النبي محمد توصف بالغزوات، حتى أن فتح مكة تصفه عدة مصادر تاريخية عربية قديمة بأنّه "غزوة فتح مكة".
ونحن هنا لا ندافع عن فعل الغزو، بل نؤكد أن السؤال التاريخي يجب أن ينطلق من البحث عن سياقات الحدث التاريخي وأسبابه، لا أن يقف جامداً أمام البحث عن دلالاته اللفظية؛ ذلك أن الغزو -كفعل تاريخي يحمل دلالات اقتصادية- إذ كان عملاً مقبولاً في عصور ولّت، بل ولا تحمل لفظة "غزو" أيّة دلالات اصطلاحية سلبية في العصور التاريخية السابقة، ثم ما لبث الغزو (معنى/ اصطلاحاً) أن اكتسب دلالاته السلبية في عصرنا، وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية.
وهو ما يضعنا داخل مغالطة منطقية (غير متعمدة / متعمدة) أثناء محاولاتنا قراءة أحداث الماضي عبر سياقات عصرنا نحن، لا عبر سياقات عصر الحدث نفسه، ومن خلال مفاهيمنا الحالية، لا من خلال مفاهيم زمن حدوث الفعل التاريخي، وهو ما يقدمه عماد أبو غازي بوضوح في دراسته، "1517 - الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك".
بالإضافة إلى مغالطة منطقية أخرى تنطلق من صبغ أحداث التاريخ بـصبغتنا الأيديولوجية، ما ينتهي بنا إلى تقديم قراءة تاريخية أحادية تخدم توجهاتنا السياسية فقط، خاصة في ظل احتدام الصراع الإقليمي الحالي مع صعود نجم "العثمانيون الجدد" شمال المتوسط، بالإضافة إلى صعود امتدَادهم الفكري المتمثل في جماعات الإسلام السياسي "الإخوان" إلى رأس السلطة في مصر، وما تبعه من استقطاب سياسي واجتماعي حاد داخل المجتمع المصري.
يجعلنا هذا الآن على تنوع انتماءاتنا السياسية مختلفين حول ما فعله العثمانيون بنا، وما أضافه الفرنسيون إلينا، وهو في الحقيقة اختلافاً عظيماً، إذا ما نُظر إليه باعتباره انعكاساً إلى غنى هويتنا الوطنية وتعددها، وإذا ما أنتج هذا الاختلاف أسئلة تسعى إلى البحث عن معبر آمن لهذا الوطن نحو مستقبل أفضل يتيح التعددية الفكرية والسياسية، ويضمن استغلال أمثل للموارد وتوزيعها.
وعليه فإن اختيارنا لأسئلة تاريخية أكثر اتساعاً تحاول الفكاك من الأيديولوجية، وتتجاوز ضيق ثنائية الخير والشر إلى رحابة فهم طبيعة الصراعات السياسية والتحديات الاقتصادية داخل السياقات التاريخية والجغرافية، ربما يمكننا من فهم تحديات عصرنا ومواجهة صراعاته الحالية التي لا تنفصل عن ماضينا.
تفسخ العسكرية المملوكية
لقد بدأ القرن الأخير لدولة سلاطين المماليك بفترة مفجعة في ظل حكم فرج بن برقوق "1399-1412"، وانتهى بهزيمة قاطعة أمام العثمانيين 1517، ولا نبالغ إذا ما كنا نتبنى القول بأنه كان قرناً ممتداً من الانحطاط السياسي والتمزق الاقتصادي (تخلله محاولات إصلاح من السلطان قايتباي)، وموجات متتالية من الأوبئة والكوارث الطبيعية وجفاف النيل، (بسبب الغضب الإلهي وفقا لتصور مؤرخي هذا العصر)، حيث عانت مصر في هذا القرن من تأثيرات عدة تغييرات مناخية حادة، أدت إلى هلاك الأهالي وانتشار المظالم، وانتجت حالة من التردي والعنف الاجتماعي، وفقا لكتاب حامد زيان غانم، "الأزمات الاقتصادية والأوبئة في مصر في عصر سلاطين المماليك".
وقد ساد هذا القرن طموح مستمر وإصرار من قبل سلاطين المماليك على توريث الحكم للأبناء، في محاولات عاجزة لتنظيم عملية انتقال السلطة، إلا أنها دائماً ما باءت بالفشل، وهو ما فتح الباب أمام صراعات داخلية شرسة بين الفرق المملوكية، احتاج حسمها في بعض الأحيان لاستمرار القتال لعدة شهور في ساحة القلعة وميدانها، وقد ساعد ذلك أيضا على انتشار حالات متكررة من انفصال ولاة الأقاليم وعصيان النواب وخروجهم عن طاعة السلطان، خاصة تلك المدن البعيدة في أطراف بلاد الشام، وهو ما جعل من حلب في نهاية المطاف معبراً رئيسياً للجيوش العثمانية عام 1516م نحو القاهرة نتيجة خيانة أمرائها.
وبعد أن كان باستطاعة سلاطين القرن الرابع عشر تعبئة 50 ألف فارس بالإضافة إلى قوات المشاة، فقد واجه سلاطين القرن الخامس عشر صعوبات كبيرة في تجهيز الفرق العسكرية، بعد أن ارتفع مجموع الرواتب الشهرية لـ مماليك السلطان وحدهم من 11 ألف دينار عام 1412 إلى 46 ألف دينار في 1468 وفقاً لكتاب "القاهرة تاريخ حاضرة"، لـ أندريه ريمون، وقد أثقل ذلك كله كاهل خزينة السلاطين الذين سعوا لسد هذا العجز باستجلاب مماليك كبار قادرين على القتال، نظراً لطول الوقت وارتفاع الكلفة الناتجة عن تربية وتعليم المماليك صغار السن، إذ وصلت كلفة معيشة الواحد منهم إلى 10 ألف دينار سنوياً. إلا أن الاعتماد على الجلبان فتح الباب أمام مصاعب جديدة انهكت البلاد، حيث أصبح هؤلاء الجلبان الجدد مصدراً لا ينقطع للإضرابات وعمليات النهب، بعد أن عجز السلاطين عن تلبية حاجاتهم إلى المال خاصة عند خروجهم في حملة، حتى بات تجهيز حملة عسكرية يشكل ورطة مالية حقيقة.
في النهاية فإن الجيش المملوكي بات في أغلبه مكوناً من فرق جلبان غير متجانسة الولاء، ولاءهم لسلاطين سابقين "قرانصة"، تتقاتل تلك الفرق فيما بينها رغبة في المزيد من الأموال (تكاد تكون مرتزقة)، ويقودهم مجموعة من الأمراء التجار المتنافسين على السلطة والمال، غير مكترثين بتطوير مهام وظائفهم القتالية، وقد كان على هذا الكهل المملوكي المثقل بالدروع الحديدية، مواجهة جيوشا عثمانية شابة تمارس الغزو كنمط إنتاج ومصدر رئيسي للحصول على الثروة، وقوامها تشكيلات عسكرية شبه نظامية من الانكشارية التركية والأسباهية الأوروبية خفيفة الحركة تجيد استخدام بنادق البارود والمدافع النارية، وفقا لما ذكره ابن زنبل الرمال، صاحب كتاب "آخرة المماليك".
حتمية الصدام المملوكي - العثماني
شكلت تجارة الرقيق القادمة من أعالي آسيا ووسطها من شعوب (السلاف - الترك - التتر - الجراكس) عبر موانئ البحر الأسود، القوام الأساسي للدولة المملوكية، وخصص لها السلاطين الأموال الطائلة في شرائهم وتربيتهم كما نعرف من كتاب هايد، "تاريخ تجارة الشرق الأدنى في العصور الوسطى".
على أن العثمانيين الذين توددوا إلى القاهرة وأغدقوا عليها بالموارد والعبيد البيض في فترات الود الأولى، ولحظات الخطر المشترك (المغول التيمورية - الدولة الصفوية)، ما لبثوا منذ عام 1461م، وفقاً لـنعيم زكي في كتاب "طرق التجارة الدولية ومحطاتها بين الشرق والغرب"، أن سدوا منافذ تجارة الرقيق في وجه التجار الإيطاليين وكلاء سلاطين المماليك، وحرموا عليهم حمل العبيد المسلمين من مواني البحر الأسود، ثم ما لبثت أن انقطعت الطرق البرية لمرور تجارة الرقيق عبر الشام، بعد أن استولى العثمانيون على ولاياتي (قرمان - دلغـار) بآسيا الصغرى.
ونعرف من المقريزي أن ما فعله العثمانيون قد كبد سلاطين المماليك خسائر طائلة، ودفعهم إلى تخصيص أموال إضافية يُقرضونها إلى التجار كوكلاء عنهم لـجلب الرقيق، وهو ما ساهم في إشعال نار الصراع بين الطرفين، كما أن تمدُّد نفوذهم جنوب الأناضول على تخوم سلطنة العثمانيين، جعل من حالة التنافس السياسي بين العثمانيين وسلاطين المماليك حالة ممتدة خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وفقا لـ غيثاء نافع في كتابها "العلاقات العثمانية المملوكية 1464-1517"، وهو ما تسبب بشكل مباشر في استنزاف المنظومة العسكرية المملوكية التي عجزت في النهاية عن ردع جميع أعدائها.
وباتت الحدود الشمالية لدولة سلاطين المماليك مستباحة للجيوش العثمانية ومن اتبعهم من تركمان الأناضول، وانكسرت الحملة المملوكية تلو الأخرى حتى انتهكت حرمة سلطان مصر كما يخبرنا ابن إياس، وهو ما دفع السلطان قايتباي نحو تأجيج النزاع الذي دب بين ورثة العرش العثماني، من خلال تقديم الدعم المالي والعسكري لأحد الأطراف المتنازعة، إلا أن ذلك لم يزد الصراع بين القاهرة وإسطنبول إلا تأزماً، وبرغم النصر الخاطف الذي حققه أمراء المماليك على قوات العثمانيين عام 1485م، إلا أنه وتحت ضغط الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وأمام عجز سلطان مصر عن دفع رواتب جنوده، أرسل موفداً إلى اسطنبول يحمل الهدايا ويطلب إزالة أسباب الصراع بين الدولتين.
وفي خلفية ذلك، كرر العثمانيون نهجهم في التحالف مع دولة سلاطين المماليك لردع مخاطر التوسع المغولي بقيادة تيمورلنك القادم من وسط آسيا نحو الأناضول في بداية القرن الخامس عشر، ولكن في نهايته؛ عندما سعوا لاستعادة تحالفهم مع مماليك مصر لردع التوسع الصفوي؛ اختار سلطان المماليك قنصوة الغوري "الإصلاح بين المسلمين" في تحرك عسكري من دون استعدادات حقيقية نحو حلب، لم يسهم سوى في أن ينظر السلطان سليم الذي وثب على عرش اسطنبول، إلى السلطان الغوري باعتباره أخطر منافسيه في المنطقة، فلما استطاعت جيوشه العثمانية وحدها وبدون مساعدة حقيقية من الغوري تحقيق انتصار حاسم في معركة "جالديران" أغسطس/ آب 1514 على عدوها التاريخي الدولة الصفوية، كانت حلب ودمشق ومن بعدهم القاهرة أقرب للجيوش العثمانية من اسطنبول.
مصر أرض السلطان العثماني
كان غياب تصور سياسي منضبط يسهل عملية الانتقال السلمي للسلطة داخل الدولة المملوكية أحد الأبواب التي يسرت عملية السيطرة العثمانية على أرض مصر، حيث استطاع السلطان العثماني من خلال اتصاله المباشر بمجموعة من أمراء المماليك، أن يستغل الصراعات الممتدة بينهم على العرش، وكان ذلك سبباً مباشراً في الهزيمة الموجعة التي تلقاها المماليك على يد العثمانيين في مرج دابق 1516، ثم في الريدانية 1517.
"وباتوا على غير حرب، ولم يهنأ لأحد منهم نوم من مكر بعضهم لبعض، فكان العسكر كله مختلفا في بعضه، مفسود النية، ليس لهم رأي يرجعون إليه، ولا تدبير يقفون عليه، كل من تكلم كلاما يقول الآخر بضده، فمن ذلك انخرط نظامهم"
ابن زنبل الرمال، آخرة المماليك
ويبدو أن السلطان العثماني لم يكن يطمح لأكثر من هزيمة موجعة يسددها نحو غريمه الشخصي السلطان الغوري، يحصل من خلالها على تمركز داخل حلب يمهد له الطريق نحو أراضي الصفويين. ويحدثنا ابن زنبل الرمال أن السلطان العثماني كان يميل إلى الاكتفاء بالسيطرة على دمشق، ويخشى التقدم إلى مصر خوفاً من بعد المسافة بين القاهرة وبين عاصمته اسطنبول، إلا أن مجموعة من كبار أمراء المماليك شجعوه على القدوم إلى القاهرة، وكان أغلب المماليك الجلبان يميلون لعدم مقاومة السلطان العثماني لتأكدهم من أنه سيرحل سريعاً، ويترك لهم تدبير الأمور، ومن ثم "صاروا يختفون في الإسطبلات خوفاً من القتال".
ولما كان العثمانيون رغم قوتهم العسكرية لا يمتلكون القدرة الفعلية على إدارة منفردة لبلد بحجم مصر، فإن السلطان سليم قد طلب من السلطان "طومان باي" آخر السلاطين المماليك أن يبقى على عرش مصر يديرها بالنيابة عنه، إلا أن طومان باي اختار المقاومة، فلما انتهى أمره مقتولاً على يد العثمانيين، لم يملك السلطان سليم سوى أن يُبقي على المماليك في مواقعهم الإدارية نفسها، وبات للعثمانيين شرعية احتلال أرض مصر (الشعار-الخطبة-الضريبة)، وللمماليك إدارتها الفعلية (مشيخة البلد - الالتزام - الكُشوفية).
وقد جاء قرار العثمانيين هذا بمثابة قبلة الحياة إلى النظام المملوكي، وفقا لـكتاب أنور زقلمة، المماليك في مصر، حيث أنهى صراعهم على العرش وأبقى يدهم مطلقة في أرض مصر، يعَّتصرونها وينزحون أموالها ومواردها الزراعية نحو أسطنبول.
وإن كان المؤرخ البريطاني "أرنولد توينبي" يطلق مصطلح "السلام العثماني" للدلالة على حالة السلام والاستقرار الذى فرضه العثمانيون بالقوة على منطقة شرق البحر المتوسط عقب السيطرة على أراضيها، إلا أن هذا الاستقرار النسبي ما لبث أن تلاشى وعادت الأمور أسوأ مما كانت عليه قبل الغزو من تأزم واضطراب، وجاءت محاولات انفصال القاهرة عن اسطنبول مبكرة للغاية في 1524 من الوالي العثماني أحمد باشا الملقب بالخائن، بل وأصبحت فكرة انفصال القاهرة عن اسطنبول حالة ممتدة في تاريخ مصر سواء من قِبَل الباشوات العثمانلية أو المماليك المصرية، وفقا لـ كتاب أنور زقلمة، المماليك في مصر.
وتحولت مصر العثمانية إلى ساحة صراعات مفتوحة بين الفرق العسكرية والباشاوات، وقد جاء ذلك مبكراً أيضاً في 1589وفي محاولة من عسكر "الأسباهية" فرض "ضرائب الطلبة" على الفلاحين المصريين، وشارك المماليك الجراكسة وأمرائهم في هذه الاضطرابات على عادتهم. ورصد مؤرخي العصر العثماني هذه الحالة من الاضطرابات العسكرية والصراعات السياسية التي لا تكاد تنتهي الواحدة منها حتى تشتعل أخرى جديدة، ونظموا العديد من المؤلفات التاريخية لتسجيل تلك الوقائع ورصد هذه المظالم، مثل محمد بن أبي السرور البكري في كتابه "كشف الكربة في رفع الطلبة"، ومحمد البرلسي السعدي في مؤلفه "بلوغ الأرب برفع الطلب".
ويبيّن كتاب أيمن محمود، "الأرض والمجتمع في مصر في العصر العثماني 1517-1658م"، أن نظام الالتزام الذي وضعه العثمانيون لإدارة الاراضي الزراعية المصرية، كان سبباً في إعادة تشكيل خريطة القوى الاجتماعية في الريف المصري، حيث أدى العمل به إلى خلق نوع من التمَايز الحيازي، نتج عنه بالتبعية تمايز طبقة الفلاحين إلى شرائح غير حائزة وشرائح حائزة للأراضي، إلا هذا النظام الزراعي الجديد لم ينج من الفساد الإداري والمالي، ووقع الفلاحون من جديد تحت ضغط الملتزمين وجشع الجباة وخراب ذمم الصيارفة، وعسف العسكر وثورات العربان، وبارت أراضيهم وخربت قراهم فـعاودوا الانسحاب منها هرباً إلى القاهرة والمدن الساحلية، وبذلك لم يؤدي نظام الالتزام على المدى الطويل إلى أي تطور جوهري في المنظومة الزراعية السائدة، لا على مستوى أدوات الإنتاج في الريف، ولا على مستوى العلاقات الإنتاجية في المجتمع الريفي.
أما فيما يخص الانتعاش التجاري الذي ساد تجارة المرور عبر أراضي مصر والذي تحقق بعد أن مالت الدولة العثمانية إلى مسالمة الأوروبيين الإيطاليين، فإن هذا الاستقرار التجاري لم ينعكس على التجارة الداخلية بالقدر نفسه، كما غرق النشاط الصناعي المحلي في تردي شديد بعد أن أصبح مسار تجارة السلع عكسياً، وغزت السلع الأوروبية الجيدة الأسواق الشرقية، فهجر الحرفيون مصر إما قسراً أو بحثاً عن فرص جديدة فى اسطنبول، وسرعان ما عادت الأزمة المالية إلى الظهور مرة أخرى، واتجهت الدولة العثمانية إلى اتباع الأساليب القديمة نفسها التي اتبعها سلاطين المماليك في مواجهة تلك الأزمات، من تخفيض قيمة العملةوتقليل نسبة المعدن الثمين فيها، وفرض نظام ضرائب شديد القسوة.
وحال انتماء الدولة العثمانية إلى عالم العصور الوسيطة ـ بفكرها وبنظامها الاجتماعي والاقتصادي - دون محاولات حقيقة نحو الترقي الحضاري، وبات أسياد مصر، النخبة المملوكية التى أرعبت الفرنج الأوروبيين وحطمت أسطورة التتار الشرقيين في الماضي، تجدد نفسها من نفس المصادر القديمة عن طريق استجلاب العبيد المقاتلة (ترك - جراكسه)، ولكن لمساعدة أسيادهم العثمانيين للسيطرة على أرض مصر ونهب خيراتها، وأصبح الباشا العثماني في أغلب الوقت مجرد ظل للسلطان لا يملك أمر البلاد، وهو ما يعني استمرار سياسات القرن الخامس عشر نفسها التي أنتجت مزيد من الانهيار الاقتصادي والانحطاط الاجتماعي وتردي الحياة الفكرية.
وهكذا فُرضت على مصر حالة من التجمد الحضاري ثلاثة قرون كاملة من أوائل القرن السادس عشر إلى بدايات القرن التاسع عشر، أعجازها عن إنتاج نخب وطنية مدنية وطبقات اجتماعية محلية متناغمة، أو نظام سياسي واضح يكون المصريين جزءاً منه، في ظل تحول حضاري أوروبي أدى إلى تغيرات عديدة في موازين القوى في حوض البحر المتوسط، وإشراق شمس عالم جديد سيكون للغرب الأوروبي فيه السبق والصدارة، وإذا بالنخبة العسكرية ذاتها التي سحقتهم نيران العثمانيين في مرج دابق والريدانية 1517، يجدون أنفسهم، وبنفس عقلية الفروسية القرن أوسطية، في مواجهة جيوش نابليون النظامية بمدافع حديثة تحصد أرواحهم دون رحمة في إمبابة 1798.
رصيف 22