حسن منيمنة:
ثمة حقيقة تستحق المتابعة، التقدير، الاعتبار. عدد المنتسبين للديانة اليهودية، أو للهوية اليهودية، في أرجاء العالم، مهما تراخت معايير الانتساب، لا يتجاوز العشرين مليون، من مجموع عام للبشر قد بلغ الثمانية مليارات أخيراً. أي أن نسبة «اليهود»، بالمعنى الجامع الرحب، هي قرابة الربع من واحد بالمئة من الأسرة الإنسانية. لا يحتاج المرء إلى جهد كبير لتبين حقيقة أن المساهمات «اليهودية» في كافة المجالات الحضارية، العلمية الفكرية الفنية، النظرية التطبيقية، وضمن كافة التوجهات، يسار وسط يمين، تفوق بأضعاف مضاعفة النسبة العددية. هي حالة نجاح فريدة، حريّ أن تكون موضوع تقصي وبحث وتأمل.
للأسف ليست كذلك، بل هي، وسط ظروف تاريخية مأساوية مؤلمة، قد وقعت أسيرة موقفين متناقضين. أحدهما، في جميع حالاته تقريباً، يختزل التجربة المتشعبة المعقدة بقراءات تعميمية، بل تسطيحية، بل تعسفية، تتيح المجال لتمكين الضرر، من أتفه أشكاله الكلامية إلى أعتى فصوله القاتلة. والآخر، من باب الاحتياط والوقاية، وانطلاقاً من الشعور المفهوم بتكرار التجربة المريرة، يتحفظ حازماً جازماً عن النظر بالموضوع، ويصرّ على الالتزام المبدئي بحماية رسمية وأهلية، اجتماعية وثقافية وقضائية، تغلق الباب الذي يمكن أن يتسرب منه العداء، ويتراكم معه الاستهداف.
ربما أن الأقرب إلى الصواب هو أن العالم، سياسياً وفكرياً، ليس مستعداً للتفاعل مع القراءات البناءة المنتجة، والتي كان من شأنها مقارعة التسطيح والتعسف، وتمكين «اليهود» من أن تكون تجاربهم كتجارب غيرهم، أي موضوع بحث ونقد، وتقدير وانتقاد. وربما أن هذه القراءات، وإن كان العالم قابلاً لأن يكون مستعداً لها، ليست هي جاهزة على أي حال، لافتقاد العديد من المسائل «اليهودية» الأبعاد العلمية في التعرض لها.
وفي الأمر مفارقة، وذلك للحضور «اليهودي» الواسع النطاق في الأوساط البحثية. فعلى سبيل المثال، لا يزال الغموض يكتنف الأصول التاريخية لليهود الأشكناز، أكبر مجموعة يهودية معاصرة، مع الإشارة هنا إلى أن ربطهم بمملكة الخزر التي عاصرت الأمويين والعباسيين لا يتعدى أن يكون نظرية، باحتمالات دنيا من الرجحان، وإن اعتنقت هذه النظرية الكثير من الطروحات المعادية لليهود.
غير أن الأكيد اليوم هو أن اعتماد مبدأ التحفظ والتمنع عن الخوض بالموضوع، وإن كان لا يزال على قدر من الفعالية في مواقف، فإنه يستولد نتائج عكسية في مواقف أخرى.
لا بد أولاً من التنبيه إلى أن الحديث عن «اليهود»، أو المسائل «اليهودية» ينضوي على إجمال يقتضي ألا يودي إلى التعميم. هو في حالات العداء لـ «اليهود» غالباً لا يقتصر طبعاً على التعميم، بل يدفع باتجاه التأحيد. المواقف المعاصرة المعادية لليهود في الغالبية العظمى من الحالات مبنية على افتراض «إرداة» يهودية واحدة، عدائية استغلالية، مكائدية، تهدف إلى الإضرار بـ «الأغيار»، وتسخيرهم لمصالحها، والاستيلاء على أموالهم.
لم تعتمد المواقف الإسلامية المعادية لليهود في الماضي الغائية نفسها، ولكنها وإن بدرجات متفاوتة استقرت هي أيضاً على افتراض الإرادة الواحدة، الشريرة. فالفقه الإسلامي لم يميّز بين اليهود وغيرهم من أهل الكتاب، كما كان ليفعل لو ماثل التصويرات المسيحية لطبيعة الشر الاستغلالي اليهودي. بل كان التمييز على أساس العقيدة، لا السلوك، بين «شرك» المسيحية في تثليثها، وبين «جحود» اليهودية في إنكارها لرسالة نبي الإسلام. هو كفر في الحالتين، ولكن تمييز اليهود إسلامياً قبل القرنين الماضيين لم يكن منسجماً مع القراءات الغربية، بأوجهها الدينية (اليهود قتلة المسيح)، أو العرقية (اليهود أدنى مرتبة من البيض، وهي «معاداة السامية» بالمعنى الأصلي للمصطلح)، أو السلوكية (اليهود مفسدون مستغلون). خلال القرنين الماضيي، شهد الفكر الإسلامي استيعاباً ومزجاً ودمجاً للمقومات الغربية، ضاعفها عجز الفكر السياسي في المحيط العربي عن معالجة التداخل بين اليهودية والصهيونية وإسرائيل.
أما الوصف الإجمالي المنسجم مع المتابعة الوقائعية فهو الذي قد يرى في «اليهود» مجموعات وطوائف وفئات وشرائح مختلفة في العديد من قناعاتها وتجاربها وتوجهاتها وانتماءاتها وولاءاتها، إنما يجمعها قاسم مشترك في التماهي مع صفة «اليهودية»، حتى دون إجماع على مضمون هذه الصفة. لا يعني ذلك أن هذه «الصفة» اليهودية هي على درجة واحدة أو مرتفعة دوماً من الإبهام، بل الواقع الثابت أنها تعبير قوي وأولى عن الهوية، الدينية أو القومية أو الثقافية، بالنسبة للعديد من اليهود في أنحاء مختلفة من العالم، فيما هي مرجعية تاريخية فكرية أخلاقية هوياتية ذات مكانة أو تراتبية عند الدرجة العليا أو دونها بالنسبة لأخرين. مكانة إسرائيل هامة، تاريخياً ووجودياً، وتقييم الحركة الصهيونية إيجابي على الغالب، إنما دون إجماع. أي أن الكلام عن «اليهود» مع تقصد وحدة الحال، استشفافها للشرّ، يجانب الحقيقة في انتقاء المشترك، على دقته في العديد من الحالات، والإعلاء من شأنه اعتباطياً، ويطمس الطبيعة المركبة للمضمون اليهودي لدى من يعتمده.
مسألة «الاختيارية» هي نموذج مناسب هنا. الأسفار العبرية (التوراة، الأنبياء، الحكمة)، كما التلمود، تضع اليهود في موقع الشعب المختار، الأول والمقصود الإلهي (لا يختلف ذلك على الإطلاق عن موقع المسيحيين مع المعمودية لدى الرب، أو مكانة المسلمين، وهم الأعلون إن كانوا مؤمنين). وبالفعل، فإن بعض الطوائف الدينية اليهودية، الناموسية والحريدية والمتشددة، تلتزم بهذه الاختيارية، بل يرى فيها البعض وعداً إلهياً سائراً إلى التحقق قطعاً. على أن طوائف يهودية أخرى، محافظة وإصلاحية وبنائية، بالإضافة إلى الأكثرية الساحقة من اليهود العلمانيين واللادينيين، قد تخلّوا عن مبدأ «الاختيارية» بالمعنى الفوقي صراحة، واستعاض الكثير منهم عنه بمفهوم «الخدمة الإنسانية»، مع إدراك واغتباط لمستوى التفوق والنجاح (لمَ لا؟ كيف لا؟). أي أن الجماعة اليهودية، دينياًَ، مناطة بمهمة إلهية هي إرشاد البشرية إلى الحق ومكارم الأخلاق. ولدى من قد تخلى عن الأبعاد الغيبية غالباً ما تبقى مضامين «الخدمة الإنسانية» هذه كقيم يهودية ثم عالمية، لذلك أعداد ذوي الارتباط اليهودي في الأنشطة والتبرعات الخيرية في الولايات المتحدة وغيرها تفوق نسبتهم بين السكان بدرجات عدة.
شتّان بين هذه الصورة المركّبة، والتي تقدّم هنا بتبسيط أولي، وبين التصوير المعادي لليهود على أنهم مجمعون على الفوقية والاستغلال والكيدية والمؤامرة. إلا طبعاً إذا كان هذا المقال جزءاً من المؤامرة الشاملة الهادفة إلى تمييع العقل المسلم (وعقول سائر الأغيار) من خلال طمس الحقيقة التي استشفها أحدهم من صفحة ما عجز جبروت المتآمرين اليهود الطغاة، لعلة ما، عن حجبها عن ذوي الفطنة المتقدمة.
السمة في الفكر المؤامراتي، والتي تشير إليها الجملة الأخيرة من الفقرة السابقة، أي قدرة القراءة المؤامراتية أن تستوعب أي اعتراض على أنه جزء من المؤامرة، هو ما يدفع العديد من الناشطين، من أصحاب الخلفية اليهودية وغيرهم، إلى اختيار منهجية المنع والإسكات، بدلاً من مقارعة «الحجة» بالحجة. أي لا جدوى من المقارعة طالما أن الحجة المعلبة المضادة حاضرة للنشر، مهما كانت الحجة الناقضة موضوعية، منطقية، وعلى درجة عالية من العناية. هذا كتاب «پروتوكولات حكماء صهيون» المنشور عام ١٩٠٥، والذي يفصّل وفق مزاعم المعادين لليهود فصول المؤامرة التاريخية الكبرى. شهد هذا الكتاب استفاضة في التحليل والتفكيك والتفنيد، لإبراز وهنه وتناقضه داخلياً، كما، وهو الأهم، لتبيان أنه مستلّ في العديد من صفحاته من نص فرنسي لا علاقة له باليهود سبقه بزهاء نصف قرن. تعليق أحد كبار الملتزمين بمقولة المؤامرة اليهودية في المحيط العربي كان بأنْ رَبَط النصين، الپروتوكولات وسابقه الفرنسي، بالمؤامرة الباطنية المستمرة على مدى القرون. أي أن التطابق في المضمون بينهما ليس دليل فساد، بل شاهد صحة.
لسان حال الساعين للتصدي لمقولة المؤامرة اليهودية هو أنه لا رجاء في الدعوة إلى العقل، بل الأفضل منع السموم من الانتشار في المادة الفكرية المتداولة. توجه يمكن فهمه ربما، ولكنه محكوم عليه بالفشل، أمام تبدل طبيعة الانتاج والاستهلاك الفكريين. بل النتيجة لا تقتصر على الفشل، بل تذهب إلى حد مضاعفة الأذى ودعم مقولة المؤامرة.
«كانيي وست»، المشهور بأغاني الراپ وغيرها من المواد المستهلكة على شبكات التواصل، رجل عُرفت عنه غرابة الأطوار، وبالتنقل في المواقف من مدعاة استهجان إلى أخرى. الرجل تفوّه بكلمات متخبطة تجمع بين التعميم والتسطيح والسخافة والوقاحة، حول «اليهود» وبحق «اليهود». «هم» يسيطرون على هوليوود وما يتعداها، وهو يريد فضحهم ومحاربتهم.
لا شك أنه في هوليوود، كما في غيرها من القطاعات المؤثرة، في مجالات الترفيه والمال والعلم والسياسة، أعداد من أصحاب المواقع المتقدمة من اليهود، بنسب بارزة حيناً، مرتفعة إلى مستوى الذهول أحياناً. وفيما يتعلق بهوليوود، ليس خفياً بأن حضور اليهود عارم، وأن أواصر الصداقة والقربى عديدة وفعّالة بينهم. على أنه، بطبيعة الحال، ليس ثمة «قيادة مركزية يهودية موحدة» في هوليوود، كما يظهر من كلام «كانيي وست» أو كما يجري التأكيد في المواقع المعادية لليهود. كيف يمكن الجزم بهذا التنويه؟ من خلال استعراض البغض والتنافس والعداء في الشق اليهودي الكبير من أوساط هوليوود، والتقاطع والتداخل مع غيرها. أي أن «اليهود» بالمعنى الوصفي، كما أي وصف آخر، رجال أو نساء، جيل معيّن، خلفيات تربوية، هم بالفعل أصحاب حضور هائل في هوليوود. أما «اليهود» بالصورة التأحيدية ذات الإرادة المغرضة الواحدة، فهم مترسخون في أذهان المعادين لهم، لا في هوليوود.
موقف الناشطين الساعين إلى مواجهة العداء هو أنه لا بد من أن يكون هناك ثمن لمن يروّج هذه المزاعم المسيئة. تحرك هؤلاء الناشطون، من خلال شبكات ومنظمات شذّبت قدراتها على مدى عقود، وتمكنت بالفعل من معاقبة «كانيي وست»، من خلال نجاحها في دعوة الشركات التي يتعامل معها الرجل إلى مقاطعته. هذه الشركات فعلت، وخسر «كانيي وست» معظم ثروته، وأمسى منبوذاً ضائعاً يبحث في الهامش الفني والثقافي والسياسي عن ملاذ يأوي إليه.
ولكن مهلاً. ماذا فعل هؤلاء الناشطون؟ هل نجحوا في «تجليس الاعوجاج» كما هم يتمنون، أم أنهم وحسب أثبتوا صواب مقتضى كلام «كانيي وست» بأن الهيمنة اليهودية قاطعة وقاضية؟ حصيلة فعلهم قد تكون إبراز الثمن الذي على من يتقصّد الإساءة لليهود تسديده. ولكن مقابل هذه الفائدة الموضعية المرتبكة، الحصيلة الفعلية هي إثبات صحة مقولة المعادين لليهود بأنه لليهود نفوذاً كاسراً، ما يستتبع ذلك من مضاعفة العداء، لا ردعه. منذ هذه المواجهة مع «كانيي وست»، تكررت الحالات المشابهة في دائرة مفرغة. المزيد من المواقف المعادية لليهود، ثم المزيد من التصدي لها وفق الأدوات المزمنة نفسها، مع «نجاحات» موضعية وفشل على المستوى العام. ولا ينفع هنا أن يستدعي الرئيس الأميركي جو بايدن نخبة من وجهاء الفكر والدين اليهود وغيرهم إلى البيت الأبيض في لقاء لإدانة «معاداة السامية» والتأكيد على أنه لا مكان لهذه الآفة في المجتمع والفكر في الولايات المتحدة. بل حتى هذا اللقاء هو مادة خام قابلة للتوظيف لتأكيد الزعم بأنه لليهود نفوذ يطال كافة المستويات.
مع التقدير لجهود الرئيس والوجهاء، للأسف، فإن العداء لليهود له مكانة تتسع في الولايات المتحدة. ليست في صالح أحد، بل هي دليل اعتلال فكري وسياسي وعقائدي لا بد من مواجهته. عرضياً لا بد من التشديد على أن ارتفاع العداء لليهود ليس قطعاً من صالح القضية الفلسطينية. ليس هذا مكان تفصيل أبواب التناقض.
ليس المكان هنا كذلك لرسم معالم متكاملة للمنهج البديل لمواجهة العداء لليهود، وإن كان لا بد لهذا المنهج ألا يحاكي المتهجمين على اليهود في اختزالياتهم وتسطيحاتهم، وألا يساهم في تقديم المواد التي من شأنها أن يعاد توظيفها للطعن بالتجربة اليهودية.
المكان هنا هو وحسب للإشارة إلى أن هذا الفشل، من جانب الناشطين الساعين إلى اعتراض العداء في تحقيق مبتغاهم بالشكل الناجع، هو دليل ملموس على أنه فيما للأوساط اليهودية شبكات وأدوات لمواجهة العدوان والاستهداف، فإن هذه الأدوات، إذ هي اليوم تفشل، لا تنمّ عن سيطرة يهودية على الواقع الشامل، بل تكشف أن الأوساط اليهودية كغيرها من مقومات المجتمع في الولايات المتحدة، هي أوساط حية، لها ما يتيح لها أن تدافع عن نفسها، بفعالية أو بارتباك، تخطئ وتصيب، تنجح وتفشل، في مساعيها وأفعالها. أي أنه لا سيطرة شاملة ولا مؤامرة. إلا إذا، طبعاً، كان الهدف من هذا القول إقناع القارئ، وهو أفطن من أن يخدع، بأن الأمر كذلك، فيما المؤامرة مستمرة.