المسلمون والتراث السلفي - مقالات
أحدث المقالات

المسلمون والتراث السلفي

المسلمون والتراث السلفي

محمد المحمود:

 

تَتَديَّن الأغلبيةُ الساحقةُ من المسلمين اليوم بِتراث سلفي عريق تَشَكَّل قبل أكثر من ألف عام. ويشمل هذا التديّن السلفي الرائج كلَّ أتباع المذاهب والطوائف والتيارات والأحزاب الإسلامية؛ بما فيها تلك التي يُصَنِّفها التيارُ الحديثي/ الأثري (تيار أهل الحديث أو التيارات المتناسلة عنه، المحتكرة ـ اصطلاحا ـ لصفة: التَّسلّف) في خانة: الابتداع والزيغ والضلال.  

هذا يعني أن التَّديّن بـ"إسلامٍ مُسْتنير"، بـ"إسلامٍ مُتَعلقن"، لا يزال ضئيلا وخافِتا وخائِفا، بل لا يَكاد يُرى في المشهد الديني الجماهيري؛ فضلا عن كونه مَحل شَكٍّ وارتياب، بل وهجوم عنيف وصريح من قِبَل تلك الأغلبية الساحقة التي تزعم لنفسها امتلاك الحق المطلق احتكارا، وتُطْلِق ـ صراحة أو ضمنا ـ صفةَ: "تزييف الإسلام"، على كل محاولات "تنوير الإسلام". 

المسلمون لا يَتمثَّلون تُرَاثا أثريا نقليا يتمدّد على مدى أربعة عشر قرنا فحسب، بل ـ وهو الأخطر ـ تجدهم يُفكرّون بواسطة هذا التراث، يَقرأون التراث بعيون التراث. وبحق، ليست المشكلة الأساسية تكمن في أنهم يَرجعون إلى "سلفٍ" ما، فكل الأديان والمذاهب، وبقوة منطق التَّدين/ التمذهب ذاته، لا بد وأن ترجع إلى سَلفٍ تَتَشَرْعَن به. وإنما المشكلة حقا تكمن في أنهم يرجعون إلى "سلف" معادٍ للعقل ومرتاب بالحرية، خاضعين ـ في الوقت نفسه ـ لمنطق السلف في معاينة تراث السلف؛ وكأنهم لا يزالون يَعيشون عصورَ أسلافهم بكل تفاصيلها المتواضعة جدا في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية والفكر والآداب والفنون

طبيعي أن تقود مثل هذه الاتباعية السلفية إلى جُمُودٍ مُرعِب، يقضي بتخلف مروّع على مستوى تفاصيل المعاش اليومي، كما على مستوى الآمال والطموحات، وبالطبع على مستوى الاجتراحات النظرية والعملية التي تَتغيّا إنجاز وعود هذه الطموحات والآمال.  

غير أن هذا ليس هو وحده المأزق التراثي، بل إن ما في هذا التراث من مضامين كارثية، سواء على مَفصل تبرير العنف أو على مفصل الحَثّ عليه، بالإضافة إلى المضامين التي تنتهك شرطَ العدالة الإنسانية، أو تلك التي تنتهك المشتركَ الأخلاقي، كل ذلك يُشكّل مأزقا للمسلم المعاصر في علاقته مع العصر؛ حال تبنيّه المنطقَ الإجمالي لهذا التراث، وهو التَّبني المُجْمل الذي تضعه السلفياتُ كشرط أساس للقبول داخل دائرة الإسلام.      

إنه مأزق مُضَاعَف/ مُزدوج، فهنا، ثمة تراثٌ ينطوي على مضامين كارثية (ضد العقل، وضد السلم الإنساني، وضد الأخلاق)، وثمة عقل تراثي معاصر متصالح مع كل هذه المضامين، بل مشرعن لها بواسطة هذا التراث. وهذا التأكيد المضاعف، يقتضي الوعي بأن تجاوز المأزق التراثي مشروط بالخروج من "نمط التفكير التقليدي" أولا، وبالخروج من "موضوع التفكير" المُسْتَثْمَر فيه ثانيا. وكلاهما ليس باليسير، بل هما من أصعب الأمور وأكثرها إشكالا؛ لأن مجرد الخطوات الأولى فيهما (فضلا عن الانخراط المجمل في سيرورة دينية تنويرية شاملة)، تستلزم اجتياز عقبات عقائدية ومعرفية وسيكولوجية واجتماعية راسخة، لا يُقْدِم عليها إلا أولو العزم من ذوي الملكات العقلية والنفسية الخاصة، بل والاستثنائية، بعد أن يكونوا قد وطنوا أنفسهم على التضحيات الفدائية الضرورية في هذا المعترك: معترك الإصلاح الديني

هل هذا الإصلاح الديني الذي يتوسّل تجاوزَ نمط التفكير التراثي، كما يتوسل تجاوزَ التراث، مُمْكنٌ على ضوء المتاح حاليا في مسارات الفكر الإسلامي المعاصر ؟ 

للأسف، لا. فالأغلبية الساحقة من الناشطين في مسارات هذا الفكر غير مؤهلين ـ ولو بالدرجة الدنيا ـ لبدء طريق الإصلاح الديني. ويكفي مجرد استعراض للكادر العلمي/ المشيخي/ الكهنوتي، الذي يُنَاط به توجيه مسارات الفكر الإسلامي/ الدعوي اليوم؛ لتعلم أن المأساة لا تقف على حالها الأول فحسب، بل هي تزداد تأزما وتعقيدا؛ بقدر ما تزداد تُراثية وتقليدا. فحتى القليل والنادر من حرية التفكير/ حرية العقل التي تتضمنها بعض تيارات التراث، لا يجرؤ هذا الكادر المشيخي على استعادتها أو حتى الاستضاءة بها صراحة، بل هو يشتغل على طمسها وقمعها، ومن ثم إنشاء مستوى من التنميط التقليدي للتراث ذاته؛ ليصبح الفكر الإسلامي اليوم مُعَبَّرَا عنه بأسوأ تُرَاثَاتِه وأكثرها بلادة وضيقا بالعقل والحرية، كما هو مُعَبَّرٌ عنه بأسوأ مفكريه وأكثرهم عبودية وخنوعا وتقليدا وتبليدا.   

وللأسف؛ مرة أخرى، فأسوأ تيارات التراث من ناحية علاقتها بالعقل والحرية (= تيار أهل النقل)، وأسوأ مفكري هذا الإسلام التراثي المعادي للعقل والحرية (= وُعّاظ السلفية)، هما جَناحا المَدّ الديني الرائج إسلاميا، هما الإسلام اليوم كما يبدو في صورته المُتَعَوْلِمة، كما يتجلى في جماهيريته الواسعة، وبالتالي، في مشروعيته المُعْتَمَدة في المؤسسات الموثوق بها من قبل جماهير المُتَدَيِّنين في العالم الإسلامي.  

إسلام تراثي كهذا الإسلام الرائج جماهيريا، لن يقبل التشكيك في النصوص التراثية التي تجيز زواج الأطفال، فضلا عن أن يقبل نفيها بواسطة التحقيق العلمي لوسائط النقل التراثي. ومُفكِّرون إسلاميون تراثيون (مجرد وعاظ في النهاية) مُتَشَرعِنُون جماهيريا بتقليديتهم/ نصوصيتهم/ حرفيتهم، لن يقبلوا إعادة فحص آليتهم المعرفية المُهْتَرئة، فضلا عن أن يقبلوا الانخراط في مسار العقلانية الحديثة، لا لأنه مسار يستعصي على قدراتهم المعرفية المتواضعة فحسب، وإنما أيضا ـ وبدرجة أولى ـ لأنهم أيقنوا أن المكتسبات المعنوية/ الرمزية، والمكتسبات المادية الباذخة إغراء، لا يمكن أن تتحقق لهم ـ بل ولا شيئا يسيرا منها ـ في مجتمع إسلامي مستنير.  

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث