هيفاء زعيتر:
عندما وصل ابن جبير الأندلسي إلى مكة عام 578هـ (1183م) بغرض الحج كان ذلك بعد رحلة امتدت لستة أشهر، بدأها من مضيق جبل طارق إلى سبتة في المغرب مروراً بصقلية ومن بعدها الإسكندرية فالقاهرة وصولاً إلى البحر الأحمر وعبره إلى جدة ثم مكة.
في كتابه "تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار"، وثّق الرحّالة الأندلسي ما عاشه من أهوال خلال تلك الرحلة بسبب قطاع طرق وقسوة مناخ واستغلال مسؤولي النقل للحجاج، لكنه خصّص الجزء الأكبر للحديث عن إقامته في مكة. ضمن هذا الجزء، صبّ ابن جبير غضبه على "من اتخذوا الحرم سوقاً للبيع"، كما انتقد "سوء معاملة الحجاج، وإمعان أهل مكة في استغلالهم مادياً".
ابن جبير كان من بين رحالة كثر كتبوا عن الجانب التجاري الذي ربط منطقة الحجاز بالقوافل القادمة إليها للحج، وأبرزها القافلة العثمانية التي كانت تأتي من إسطنبول عبر الأناضول والشام براً، وتلك الشامية التي ضمّت حجاجاً من الروم والعجم والأتراك ومن بلاد البلقان والقوقاز والقرم ومدن الأناضول والعراق حتى وسط آسيا، وقافلة الحج الأندلسية، والقوافل القادمة من الهند وأفريقيا.
كان البعض من الحجاج يشتري البضائع المكية ليبيعها في بلاده، لكن أغلبهم كان يجلب بضاعته معه لعرضها في أسواق مكة. "كانت ضخمة، فيها من الدقيق إلى العقيق، ومن البُرّ إلى الدُرّ"، هكذا وصف ابن جبير السوق هناك.
في مراحل مختلفة، طالت الانتقادات من ينشغلون بالتجارة خلال أداء فريضة روحيّة بهذه الأهمية في الإسلام، غير أن الردّ عليها أتى دائماً بالعودة إلى ما جاء في الآية 28 من "سورة الحج"، وتحديداً بالجزء القائل "ليشهدوا منافع لهم"، باعتباره "إذناً إلهياً" لرواج الاستثمار الاقتصادي في موسم الحج الإسلامي.
رغم حجم التجارة التي ربطت تاريخياً الحجاز بمناطق مختلفة في تلك المرحلة، إلا أن الوضع اختلف بشكل أساسي مع قيام المملكة السعودية عام 1932. حتى بعد تأسيس المملكة، يمكن مقاربة اقتصاديات الحج على مرحلتين، الأولى التي امتدت حتى منتصف الخمسينيات، حيث لم يكن عدد الحجاج من الخارج يتجاوز المئة ألف ولم يكن إنشاء المؤسسات السعودية الحديثة قد اكتمل بعد، والثانية التي تبلورت بشكل فعلي بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحالي. في المرحلة الثانية، تجاوز العدد الإجمالي للحجاج حاجز المليونين، حتى وصل إلى ذروته مع تخطي العدد الـ3 ملايين عام 2012.
اليوم، تجد السلطات السعودية نفسها للمرة الأولى منذ تأسيس المملكة، أمام خيارين فرضهما انتشار فيروس كورونا: إما تنظيم الحج بقدرة استيعابية قليلة، وإما إلغاء الموسم تماماً.
ولخيار الإلغاء اعتبارات عدة. الأول رمزي، فالحج وإن تعطّل تاريخياً في مناسبات مختلفة كما حصل حين سيطر القرامطة أو انتشرت الأوبئة، لكنه لم يتوقف ولا مرة منذ تأسيس المملكة، حتى عندما انتشر فيروس كالإيبولا. الاعتبار الثاني تفرضه محاذير دينية في بلد يحكمه المذهب الوهابي، لا سيما في ظل فتاوى تُحتّم تنظيم هذا الركن الأساسي من الإسلام تحت أي ظرف كان، والثالث سياسي لما لعبه احتكار تنظيم الحج ولا يزال من دور حاسم في تعزيز النفوذ السعودي.
ما سبق من اعتبارات يعكس حجم التبعات التي قد يتركها إلغاء موسم الحج هذا العام، تُضاف إليها تبعات اقتصادية باهظة يُظهرها الاطلاع على حجم استثمارات السعودية عبر السنوات في موسم الحجم وما يُدخله الأخير من إيرادات. حتى أن الحج والعمرة دخلا ضمن رؤية 2030 لولي العهد محمد بن سلمان كخيار لتنويع موارد الاقتصاد السعودي، إذ وُصفا مراراً بـ"نفط السعودية الذي لا ينضب".
التبعات الاقتصادية
مع اقتراب موعد توافد الحجاج المُفترض، أي بين أواخر تموز/ يوليو والأيام الأولى من آب/ أغسطس، تستمهل السعودية العالم لأيام إضافية حتى اتخاذ القرار النهائي في هذا الشأن.
وبين التقليص والإلغاء، طُرح السؤال الأبرز حول مدى تأثير القرار اقتصادياً على المملكة، لا سيما وأن الأخيرة كانت قد علّقت كذلك شعائر العمرة (ذات المردود العالي) منذ آذار/ مارس الماضي.
يأتي ذلك في ظل أزمة مزدوجة شهدتها السعودية مع تهاوي سعر النفط، حيث توقعت وزارة المالية أن يصل العجز إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم يُعد أكثر تفاؤلاً إذا ما قورن بما توقعه محللون من عجز يصل إلى 22%، ومع أزمة الإغلاق العالمية وأثرها على انخفاض الإيرادات غير النفطية في الربع الأول من هذا العام بنسبة 17% مقارنة بها قبل عام.
يمكن معرفة الأثر الذي قد يسببه الإلغاء بالاطلاع على إيرادات المملكة من الحج والعمرة، فهي تصل إلى نحو 12 مليار دولار سنوياً، بينما بلغ عدد من أدوا العمرة العام الماضي حوالي 19 مليوناً ووصل عدد الحجاج إلى 2.6 مليون، بحسب ما نقلت "رويترز" عن وزارة الحج والعمرة السعودية.
يلعب الحج دوراً في إنعاش العديد من المجالات الحيوية في الاقتصاد السعودي، بدءاً بحجم الواردات والصادرات التي تسبق الموسم وتعقبه، فضلاً عن نشاط سوق العمالة الوطنية والأجنبية التي تتوافد على السعودية، حيث يوفر الحج 200 ألف فرصة عمل موسمية سنوياً، وفق تقديرات غير رسمية، تشمل قطاع الخدمات مثل مرافقة الحجاج وإرشادهم، وحراسة المخيمات، وقيادة المركبات، وأعمال النظافة، وقطاعات النقل، والضيافة، وغيرها.
يُضاف لما سبق إنفاق الحجاج على المأكل والمنامة والهدايا، وتداول العملة المحلية وحجم الطلب عليها في محلات الصيرفة سواء في السعودية أو في البلدان التي يأتي منها الحجاج، فضلاً عن حركة الأسواق التجارية في مكة والمدينة، وسوق الأضاحي وذبحها وتصريفها.
وكانت دراسة تعود لعام 2010 قد قدرت إنفاق الحجاج في اليوم الواحد في أسواق مكة بنحو 189.2 مليون دولار، وفي دراسة أخرى عام 2014، جرى تقدير كلفة ما يصرفه الفرد الواحد قبل وصوله إلى السعودية بنسبة 36 في المئة، بينما ينفق داخل السعودية 65 في المئة من معدل الإنفاق المتوسط لكل حاج والذي يبلغ نحو 2500 دولار.
من بين القطاعات التي قد تتضرر بشكل أساسي كذلك من إلغاء الموسم يبرز قطاع الإسكان، فهو يصنّف عادة في مقدمة القطاعات الاقتصادية المستفيدة، تليه قطاعات الهدايا والتذكارات بنسبة 14% والمواد الغذائية بنسبة 10% ثم تأتي بعد ذلك المواصلات والخدمات الصحية ومحال المجوهرات بنسب متفاوتة.
خطط واعدة... قبل كورونا
في السنوات القليلة الماضية، شهدت مكة والمدينة نمواً سكانياً كبيراً. وفي العام الحالي، كان في مكة الحضرية حوالي مليوني شخص، بمتوسط نمو سنوي يصل إلى 2.6 في المئة منذ عام 2015. أما عدد سكان مكة ككل فهو 8.6 مليون نسمة، يعيش حوالي 4 ملايين منهم في جدة وهي واحدة من أكثر الموانئ ازدحاماً في العالم العربي وثاني أكبر مدينة في البلاد بعد الرياض. ويصل عدد سكان المدينة الحضرية إلى مليون ونصف المليون نسمة، بمتوسط نمو سنوي 2.8 في المئة.
وفقاً للمجلس العالمي للسفر والسياحة، شكلت السياحة 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي للسعودية عام 2018، أما مساهمة السياحة الدينية في مكة والمدينة في هذا الناتج فكانت كبيرة.
من جهته، كان مجلس الغرف السعودية قد قدّر أن الإنفاق المرتبط بالحج سيولّد بين عامي 2018 و2022 دخلاً بقيمة 150 مليار دولار، ويخلق ما يصل إلى 100 ألف وظيفة دائمة تتعلق بالحج.
وبحسب تقرير "مؤشر ماستركارد للمدن العالمية المقصودة لعام 2019"، فإن إنفاق الزوار السنوي في مكة يبلغ 20.1 مليار دولار، بمتوسط يومي هو 135 دولاراً لكل زائر. وفي عام 2018، احتلت مكة المركز 13 في ترتيب عدد الزوار الدوليين بين عشية وضحاها، بـ10 ملايين. مع العلم أن رؤية 2030 تضمنت خطة بزيادة عدد المعتمرين الدوليين من 6.8 مليون عام 2018 إلى 30 مليون بحلول عام 2030.
جاء كورونا وغيّر المعادلة. في أواخر شباط/ فبراير الماضي، أعلنت السلطات عن وجود حظر مؤقت على دخول حاملي تأشيرة العمرة، كما علّقت المملكة دخول سكان دول مجلس التعاون إلى مكة والمدينة، على الرغم من أنهم لا يحتاجون إلى تأشيرات للحج. بعد ذلك، أعلنت الحكومة التعليق المؤقت لتأشيرات السائحين القادمين من الدول التي ينتشر فيها الفيروس بشكل خاص، وفي أوائل نيسان/ أبريل بدأت تحث الناس على تأخير وضع خطط السفر لحج 2020.
وقال وزير الحج والعمرة محمد بنتن لوسائل الإعلام المحلية في مطلع نيسان/ أبريل: "طلبنا من إخواننا المسلمين في جميع البلدان الانتظار قبل إبرام العقود (مع منظمي الرحلات السياحية) حتى يتضح الوضع". وبالنسبة لأولئك الذين كانوا بالفعل في مكة والمدينة قبل تعليق تأشيرات العمرة، نفذت السلطات إجراءاتها لمحاولة احتواء الفيروس. فعلى سبيل المثال، تم حظر الصلاة في المساجد (تعود اليوم الأحد في 21 حزيران/ يونيو)، وتم تقييد الدخول والخروج من جدة والرياض ومكة والمدينة.
يُذكّر تقرير "أوكسفورد بيزنس غروب" بالجهود المبذولة لتعزيز تنويع الدخل الاقتصادي وخلق فرص للعمل، فيشير إلى ست "مدن اقتصادية" أُدرجت ضمن خطة التطوير في مكة والمدينة اعتباراً من شباط/ فبراير 2020.
إحدى هذه المدن سُميت بـ"مدينة المعرفة الاقتصادية" في المدينة المنورة. تبلغ مساحتها 6.9 مليون متر مربع، وهي ضمن مشروع ضخم بقيمة 7 مليار دولار يقع على بعد 8 كيلومترات من مطار الأمير محمد بن عبد العزيز. وهي كذلك مجاورة لقطار الحرمين، عالي السرعة، والذي تم إطلاقه في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2018 ويربط مكة بجدة ومطار الملك عبد العزيز الدولي ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية في رابغ والمدينة المنورة.
وبحسب الخطة، يُفترض أن توفر "مدينة المعرفة الاقتصادية" فرصاً للاستثمار في المناطق السكنية والتجارية والترفيهية والخدمات والمساحات السياحية، إذ وُقعت في تموز/ يوليو 2019 مذكرة تفاهم مدتها 12 شهراً مع شركة النقل العام السعودية لاستكشاف جدوى تطوير روابط النقل داخل المدينة وكذلك ربطها بسكة حديد الحرمين.
وفي آب/ أغسطس من العام نفسه، منحت شركة "مدينة المعرفة الاقتصادية" مشروعاً بقيمة 3.6 مليون دولار لشركة IBI Group الكندية، وكلفتها بأعمال الهندسة والتصميم لمدة 42 أسبوعاً. وفي أواخر عام 2019، كانت هناك صفقة مع "هيلتون" لمشروع ضيافة وترفيه من 300 غرفة كان مقرراً افتتاحه عام 2022.
وفي شباط/ فبراير 2020، وقّعت شركة "مدينة المعرفة الاقتصادية" مذكرة تفاهم مماثلة لمدة عامين مع شركة ضيافة مقرها الهند (OYO) لتشغيل 1500 غرفة فندقية داخل منطقة العالم الإسلامي في المدينة المنورة.
بالإضافة إلى التركيز على المدن الاقتصادية، تم إطلاق مشروع توسعة للمسجد الحرام في مكة عام 2011 ضمن خطة استجابة للعدد المتزايد من الحجاج. ويسعى المشروع الذي تبلغ قيمته 26.6 مليار دولار لتوسيع مجمع المسجد بمقدار ثلاثة آلاف متر مربع، وبالتالي زيادة الطاقة الاستيعابية بما يقدر بنحو 300 ألف إلى ما مجموعه 2.2 مليون مصلي.
"شُيِّد مشروع جبل عمر بتصميم فريد وخدمات خاصة تتناسب مع قدسية المكان". بهذا التقديم تعرّف شركة "جبل عمر للتطوير" (JODC) عن مشروعها في مدينة مكة، والذي يعتبر استكمالاً لخطة توسعة المسجد الحرام.
ويقع المشروع الذي تبلغ تكلفته 20 مليار ريال سعودي (حوالي 5.3 مليار دولار أمريكي) على مسافة قريبة من الحجر الأسود، ويضم 93 وحدة تجارية و38 فندقاً. وكجزء من المشروع، افتتح فندق "دابل تري مكة جبل عمر" أبوابه في أواخر عام 2019، وكان من المقرر افتتاح العديد من الفنادق الأخرى في المستقبل القريب، بما في ذلك "جُميرة جبل عمر" في عام 2020.
ليس هذا هو المشروع الكبير الوحيد الذي تم الدفع باتجاهه ضمن السعي لاستيعاب تدفقات سياحة أكبر إلى مكة المكرمة. سيضيف مشروع "رؤى الحرم المكي" 70 ألف منزل على مساحة 84 ألف متر مربع، ومن المتوقع أن تكون المرحلة الأولى جاهزة للعمل بالكامل بحلول عام 2024، وبمجرد الانتهاء، يمكن أن تساهم بمبلغ يصل إلى 8 مليار ريال سعودي (2.1 مليار دولار) في الاقتصاد الوطني، حسب تقديرات شركة الاستشارات العقارية "JLL".
وكان قد تم تشكيل صندوق تطوير عقاري من قبل شركة "أم القرى للتنمية والإعمار" في المملكة، وشركة "الإنماء للاستثمار" التابعة لبنك "الإنماء"، في كانون الأول/ ديسمبر عام 2019، يتجاوز رأس ماله الـ17 مليار ريال سعودي (4.5 مليار دولار) ويعمل بشكل أساسي على مشاريع في مكة المكرمة مثل الفنادق من فئة ثلاث وأربع وخمس نجوم، بالإضافة إلى شقق ومركزين تجاريين.
ثمة قطاع واعد آخر مرتبط بالحج وهو قطاع التربية، فالحكومة كانت قد بدأت بتشجيع الشراكات العامة والخاصة، من خلال توقيع اتفاقية لتمويل تطوير المباني التربوية في أواخر عام 2019. بحسب نبيل الراجح، رئيس جامعة الأمير مقرن، فإن حوالي 8 ملايين شخص يزورون المدينة المنوّرة سنوياً، وهذا العدد يجعل الأخيرة قبلة للعديد من المشاريع الضخمة والتي تتطلب تطويراً كبيراً لرأس المال البشري. وضمن هذا السياق، وُضعت الخطط لتكييف النظام التعليمي المحلي برامجه مع احتياجات القطاعات الأخرى في المنطقة بما في ذلك الصناعة والرعاية الصحية والسياحة والترفيه، وتعزيز التواصل بين المستثمرين في الشرق الأوسط وخارجه.
كل ما سبق من استثمارات يعكس جوانب عدة من مقاربة السعودية الاقتصادية لموسم الحج. مقاربةٌ دفعت بمعارضين للسياسة السعودية للتعبير
مراراً عن رفضهم استغلال الرياض للحج في تعزيز سياساتها في المنطقة، وبدأ يُسمع عن أشخاص يفضلون عدم أداء هذه الفريضة في الظروف الحالية كي لا يسهموا بتمويل نظام يعارضون سياساته. أما أزمة كورونا فيبدو أنها نقلت النقاش حول الحج إلى مستوى آخر، فـ"النفط الذي لا ينضب" يواجه معضلة من النوع الذي لا يرضخ بسهولة لموازين القوى المعتادة.
رصيف 22