العرب.. التقدم والمأزق التراثي - مقالات
أحدث المقالات

العرب.. التقدم والمأزق التراثي

العرب.. التقدم والمأزق التراثي

محمد المحمود:

 

لماذا لا يزال العالمُ العربي مشدودا إلى قاع التخلّف، وكأن تخلّفه قَدَرٌ لَازِمٌ؟ لماذا لا يجتمع هذا العالمُ إلا على تشرذمٍ يتناسل تشرذما؟ لماذا يبدو وكأنه عالَمٌ غرائبي يستعصي على كل مُقوّمات الحضارة؟ لماذا تَتشكَّل قناعاته المستحدثة؛ وكأنها في حالة حرب ـ مفتوحة ومُتَعدِّدة الجبهات ـ مع تراث التنوير الإنساني؟ بل لماذا يبدو في تباهيه بـ"قِشْرَة حضارته"، أو حتى بـ"أوهام تَحضّره" وكأنه "يتقدّم" بالرجوع قرونا إلى الوراء، بل وإلى أسوأ ما في هذا "الوراء" ؟!

لا يخفى أن هذا العالم العربي يعيش اليوم على قاعدةٍ من تُرَاث طويل تَرَاكَم عبر قرون، تراث يجد "مشروعيته" و"قوةَ زَخَمِه" و"بَاذِخَ إغرائه" في القرون الأولى لانتصار الإسلام، وتمدّده عسكريا وعقائديا على حساب حضارات وثقافات كانت تُمَثِّل أرقاما صعبة في معادلة الارتقاء الحضاري للإنسان في التاريخ القديم. ما يعني أنه ـ بِهَيْمنَتِه العسكرية واستعلائه العقائدي ـ اسْتَدْمَجها لحسابه بشكل أو بآخر: إلغاءً أو تهميشاً أو إعادةَ تأهيلٍ وتَشكيلٍ، وصولا إلى إعادة التوظيف الثقافي؛ بما يخدم قِيمَ التوحّش العربي السابقة على الإسلام؛ لا بما يخدم نَسَق التَّأنْسن في الإسلام.

إن المبادئ والقيم التي أكّد عليها النص الإسلامي المقدس/ القرآن، والتي شكّلت نوعا من "انعطافة أنسنة" في سياق تاريخ العرب (وكان يمكن لها أن تتطور في اتجاه إنساني متصاعد)، جرى إجهاضها؛ بمستويات متعددة، وبأساليب متنوعة، ولحسابات شتى، قد تكون إرادة الهيمنة أهمّها. لكن، إذ يصعب التنصيص عليها كلها في نص مقالي كهذا، فإنه يمكننا التأكيد على مستويين من مستويات الإجهاض

الأول: المستوى النظري المُتَمثِّل بالنص الحَديثي (الحديث النبوي: الأثريات "المنسوبة" للرسول) الذي حاول به مُعْتَمِدوه، والمُتَحَمِّسُون له، تعميده في سياق المشروعية الدينية، لا كَنَصٍ مُزَاحِمٍ للنص الأول/ القرآن، وإنما كَنصٍ مُعَدِّلٍ ومُسْتَدْرِكٍ، بل وكَنصٍ يمتلك صلاحية إلغاء النص القرآني من الأساس (ما يُؤكِّدون عليه في جواز نسخ القرآن بالسنة).

الثاني: المستوى العملي المُتَمثِّل في مسار الانقلاب الأموي على القيم والمبادئ الأساسية ذات الطابع الإنساني (ضمانة الحريات، وحفظ الحقوق باستقلال القضاء ونفاذ أحكامه، وتجريم الظلم بأنواعه، وتجريم الاعتداء على المال العام، ومنع الاستغلال بكل صوره، والمساواة...إلخ)، وهو انقلاب حاسم وخطير على مسار التأنسن المفترض بمنطق النص المقدس الأول، لصالح قِيم التوحّش الموروثة عربيا أو المُسْتَلهَمة من تجارب الإمبراطوريات السابقة التي أقام الأمويون والعباسيون إمبراطوريّاتهم في فضائها الجغرافي

عندما دشّن الحاكم الأموي/ معاوية بن أبي سفيان إمبراطوريته الأموية/ العربية، دشَّنها بالقطيعة القِيَميّة مع الإسلام في نصه الأول، وبالانفصال التام عن المسار التاريخي الإسلامي في تجاربه المثالية الأولى. وهنا، وبالقفز على مشروع/ مشروعية الإسلام الأوّل، بدأ مشروع إرث إسلامي عملي (لا بد وأن يستدعي بالضرورة مشروعه النظري الخاص) سيكتب له الانتصار في مسار تعقيم (= من العقم) الروح الجديدة، وتحويل المجاميع البشرية التي يَمُرّ عليها هذا الطغيان المُمَنْهج إلى مجرد مواد أولية؛ مُهِمَّتُها توفير الوقود الكافي للاستغلال الإمبراطوري الذي سينجح ـ نهاية المطاف ـ في مهمة واحدة ستبقى خالدة: إلغاء الإنسان، إلغاءَه كقيمة أولى في الواقع، وصولا إلى مراكمة مخزون تراثي هائلٍ؛ خالٍ من الوعي بالإنسان

إن نجاح مشروع دولة معاوية في إلغاء الإنسان كان أكبر مما توهمه كثيرون. لم يكن نجاحا يتمدد بامتداد المشروع الأموي الذي بدأه معاوية فحسب، بل كان ـ وبقدرته على تطبيع نموذجه وأمْثَلته ـ مشروعا شموليا استطاع إلهام حتى أولئك المنقلبين عليه لاحقا. فالعباسيون، وبثورتهم الانقلابية على الأمويين، كانوا أمويين في الصميم، كان معاوية الأموي الذي يكرهونه بمنطقهم الأيديولوجي الصريح، هو مُعَلِّمهم الأول، ونموذجهم الأمثل، وشعاراته واستراتيجياته هي مرشدتهم في كل أحوالهم. ولم تكن الشعارات المثالية التي رفعوها بداية ثورتهم إلا استعانة بالشعارات الجاذبة جماهيريا لمجرد قدرتها على حشد الناس ودفعهم ليكونوا وقود ثورتهم الغاضبة، التي لم تكن ـ في نسقها الثقافي الأعمق ـ أكثر من دفعة قوية مستأنفة للمشروع الأموي

إن خطورة هاتين الدولتين التاريخيتين (= الأموية والعباسية) ليس في أنهما شكّلا منعطفا واقعيا في مسار صعود الحضارة الإسلامية فحسب، وإنما الخطر الحقيقي، الخطر الخالد العابر للزمان، أنهما كانا: عصر تأسيس التراث العربي/ الإسلامي الذي سيطبع بقية عصور العرب/ المسلمين بطابعه؛ حتى بعد زوالهما وتحولهما إلى مجرد تاريخ غابر، تاريخ مندثر زالت حتى معالم أطلاله لتطاول الأمد عليه، ولكن بقي منه ما هو أهم، بقيت الروح الثقافية التي تسري في هذا المخزون التراثي الهائل، الذي يشكل اليوم عمومَ وعي العرب/ المسلمين، والذي سيبقى مهيمنا على تشكيلها هيمنة شبه كاملة؛ ما لم تقم ثورة ثقافية واسعة النطاق، وجذرية بما يكفي لخلق إنسان عربي جديد، بخلق تراث عربي جديد.

معظم الآفات العقلية الفتّاكة التي تنخر في وعي الإنسان العربي اليوم، هي وليدة ذلك العصر الأول: عصر التكوين، عصر التدوين، عصر كتابة العناوين الرئيسة للحضارة الإسلامية، عصر ولادة العلوم العربية والمذاهب والطوائف الإسلامية، عصر المشروعية التي لا يزال أي مسلم اليوم يلوي عنقه إليها؛ كلما أراد التثبت من هويته أو من دينيه أو من مذهبه. وبناء على ذلك، وهو الأهم، سنجده يلوي عنقه إليها؛ كلما أراد أن يتخذ قرارا حاسما لحاضره أو لمستقبله، القريب أو البعيد.

إن تضاؤل ـ أو حتى انعدام ! ـ قيمة الإنسان في وعي العربي/ المسلم اليوم، وغياب روح المساواة، والخوف من الحرية، والتطبيع مع الظلم، والتهوين من قيمة العدالة، والتطبيع مع الاستغلال، والقابلية للاستغفال، وازدياد مستويات التعصب الأعمى، واستشعار العجز إزاء الواقع...إلخ مظاهر الافتقار القيمي/ المبادئ، ليست وليدة هذا العصر، ليست مُتَشرْعِنة بواقعها، ولا حتى بماضيها القريب، بل بالماضي البعيد، ففي القرون الخمسة الأولى من تاريخ الإسلام جرى تهميش بل وقمع الأسئلة المطروحة حول هذه القيم/ المبادئ الأساسية، في مقابل تحويل الاهتمام إلى الأسئلة الهامشية، الهامشية جدا، من نوع: هل أرفع صوتي بالتسبيح في هذا المكان أم لا؟ هل آكل التمر بالأعداد الزوجية أم بالأعداد الفردية، هل أشرب الماء جالسا أم واقفا ؟ هل أشرب باليمين أم بالشمال؟ هل أضع يدي على أسفل الصدر أم على أعلاه في الصلاة؟ هل أصلي ركعتين نافلتين بعد فريضة صلاة العصر أم لا يجوز؟ هل يجوز صوم من أصبح جُنُباً ولم يغتسل؟ هل ما يَدخل عبر العين أو الأذن يُفَطِّر الصائمَ أم يبقى صومه صحيحا؟ ثم الأسئلة الغَيْبية/ الميتافيزيقية التي لا واقع عمليا لها، مثل: هل استواء الله على العرش حقيقة أم مجاز؟ هل لله يَدٌ حقيقية أم هي بمعنى القوة ؟...إلخ

هذا الاشتغال بالهامشي جدا، وبالغيبي المستحيل معرفته، لم يكن عفويا بحال. لقد كان مشروع السلطات الأموية والعباسية، بشكل مباشر (بتوجيهات ودعم مادي لمشاريع من هذا النوع)، أو غير مباشر (تحوّل الفقهاء وكبار العقائديين تلقائيا بأسئلتهم واهتماماتهم عن القضايا الكبرى المتعالقة والمتقاطعة مع مصالح السلطات، إلى قضايا هامشية تمنحهم المكانة الاجتماعية التي يطمحون إليها، وفي الوقت نفسه، لا تُعَرِّضهم للخطر). وهذا المشروع وإن كان مُرَادا له في البداية أن يُلَبِّي احتياجاتٍ ظرفيّة، إلا أنه أصبح ـ بفعل تراكم الاهتمامات في هذا الاتجاه، وباعتماد ما تراكم منه في تلك العصور تُراثاً مُعْتَمدا للعصور اللاحقة إلى عصرنا هذا ـ المخزونَ الذي يمتاح منه الوعيُ العربي/ الإسلامي المعاصر.    

لهذا، ليس غريبا أن يُوَاجِه العقلُ العربي/ الإسلامي المعاصر أشدَّ الأسئلة الحضارية الراهنة خطرا، بأسئلة من هذا النوع الهامشي والعرضي والفرعي. بل لقد انبعثت الأسئلة الهامشية تلقائيا حتى في مواجهة الاختراع التقني المبهر. فعندما اخترع الغربُ آلةَ التصوير مثلا، لم يتساءل العقل المسلم عن سِرّ هذا الاختراع، لم يحاول تقليده وتطويره، بل تساءل ـ مُسْتَعِيدا تراثَه ـ: هل التصوير حلال أم حرام؟ وعندما بدأ نقل الأعضاء وزراعتها، لم يتساءل العقل المسلم: كيف نستطيع الإسهام في هذا التطور الطبي المذهل، بل تساءل: هل التبرّع بالأعضاء ونقلها، حلال أم حرام؟

إن هذا التمحور حول الهامشي والفرعي، بل والتافه أحيانا، مقابل التغافل عن السؤال الإنساني والجوهري والشامل، لم يكن إلا نتيجة تربية تراثية تمتد لأربعة عشر قرنا على هذا النوع من الاهتمام. وإذا كان من الطبيعي أن الإنسان يُنْجِز ويُبْدِع فيما يهتم به غاية الاهتمام، فإن الاهتمام بـ"التقدم الحقيقي" لم يكن هو سؤال الوعي الجمعي العربي/ الإسلامي. وطبيعي ـ حينئذٍ ـ أن يفشل في تحقيق التقدم الحقيقي الذي يُنْهي به مسيرة بؤسه، طبيعي أن يبقى رهينَ تناحر وتخاصم، ومغالبة على الاستحواذ، واستغناء طفولي ساذج بالشعارات الرّثة المستهلكة التي لا تغير من واقعه شيئا ذا بال

أخيرا، وباستشعار كل ما سبق؛ يتّضح أن إمكانية خروج العربي من واقعه مشروط بإمكانية خروجه من تراثه، ذلك الخروج الصعب، ذلك الخروج المؤشكل، ذلك الخروج الذي يقتضي شجاعة الإقدام على فتح ملفات تاريخ/ تُراث يمتد لأكثر من ألف عام

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث