الدين والحروب في زمن بوتين وفرنسيس - مقالات
أحدث المقالات

الدين والحروب في زمن بوتين وفرنسيس

الدين والحروب في زمن بوتين وفرنسيس

د. شارلي يعقوب أبو سعدى

 

الدين لا يدخل ليأمر بحروب إجرامية. لكنه يدخل ليقول كلمة حق، كلمة الإنسانيّة، كلمة فوق رؤى الحروب، وفوق رؤى الأطراف".

ارتكب "المؤمنون بالله" عبر التاريخ الكثير من الجرائم باسم الله. وقد استخدم المسؤولون في كل الأديان، مرارًا، الدين لتجييش الجيوش وإعلان الحروب. فكانت حروب دينية بين المسيحيين أنفسهم في القرون الوسطى، وكانت الفتوحات الكثيرة باسم الله. والحرب والدماء المراقة، لا علاقة لها مطلقًا بتعاليم الله. وكلنا نعلم ما قام به الدواعش في السنوات الماضية من استغلالهم للدين وقتل المسلمين والمسيحيين في سوريا والعراق وغيرها. ويهدف اليوم القيصر بوتين مثلا، إلى استخدام الكنيسة والدين لضرب أوكرانيا، وبضربها يضرب مخططات الولايات المتحدة والغرب في أوكرانيا، التي يقول إنها تهدد روسيا.

بدأ الزواج بين السلطة السياسية والروحية منذ عهد الامبراطور قسطنطين الكبير (274-337). ونجد اليوم أن الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة هي من الركائز الرئيسيّة للامبراطورية التي يرأسها بوتين. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي الماركسي، استخدم بوتين الكنيسة لتكون أداة لضمان استمرارية قوته وسلطته على الناس والأرض. وبرّر بطريرك موسكو كيريل الحرب على أوكرانيا وقال إنها ضرورية ضد تلك الدول التي تدعم حقوق المثليين، وأضاف أننا ككنيسة "سنُعطي الولاء لله".

الواقع أن القضية معقدة وليست الرؤية فيها واضحة: الصورة الظاهرة هي أن روسيا تبدو شيطانًا عملاقًا يعتدي على أوكرانيا، ذاك الملاك الصغير. لكن المخفي أن للغرب العملاق مؤامرات في اوكرانيا لتهديد روسيا أيضًا. لكن هذا كله لا يبرر الحرب، ولا يعذُر كنيسة تؤيد الحرب. الحرب كلها شر، وكلها دمار، والكنيسة التي تعمل وفق تعاليم السيد المسيح يجب أن توجه السياسيين إلى حماية البلاد وضمان الأمن للناس، من خلال طرق السلام والمفاوضات والاعتراف بالحقوق المتبادلة. وطرق السلام كثيرة وممكنة، وأكثر قدرة على بناء السلام والأمن لكل الأطراف.

في معظم الغرب، ليس في جميع بلدانه، نجد اليوم فصلاً صريحًا بين السلطتين الروحية والدينية. فالكنيسة الكاثوليكية الغربية متحررة من هذا العبء الذي كان من الأسباب التي أدت إلى ضعف أوروبا والكنيسة معًا في العصور الغابرة. وبعد هذا التحرر، رفض البابوات الكاثوليك رفضًا قاطعًا الزج بالكنيسة في الأمور السياسية الدنيوية التي لا علاقة لها بها. لكن احتفظوا بحقهم للتنديد بكل الحروب، وبتوجيه النداءات المتكررة إلى السلام وإحقاق العدل بين الناس.

وعقّب الفاتيكان على أقوال البطريرك كيريل بالتأكيد أن أقواله لا تشجع السلام، بل تزيد الأزمة العالمية تعقيدًا. واتخذ البابا فرنسيس موقفًا واضحًا من الحرب الروسية الأوكرانية. فغداة بدء الحرب، خرج عن العرف الدبلوماسي واتجه إلى السفارة الروسية لدى الفاتيكان وخاطب السفير قائلاً وبكل جرأة: "نحن مع أوكرانيا، أولاً، لأنه إذا كان يجب إبادة بلد، فإن هذا البلد هو أيضًا أرضنا... لا للحرب". لقد أراد البابا وما زال يأمل بوقف الحرب بهدف تجنب المزيد من الضحايا وتفادي مأساة ملايين من اللاجئين.

وفي اتصال هاتفي قال البابا فرنسيس لبطريرك روسيا كيريل: "الكنيسة يجب ألا تستخدم لغة السياسية، بل لغة يسوع المسيح". وقد ركّزت تلك المحادثة على دور الكنيسة ورجال الدين في العمل المطلوب في سبيل خدمة السلام.

ومن جهة ثانية فقد أنّب البابا السياسيين الأوروبيين الغربيين، فذكّرهم بأنهم كانوا قد رفضوا منذ العام 2008 انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الاوروبي وذلك حفاظًا على مشاعر روسيا. والواقع أنهم، من جهة احترموا مشاعر روسيا، ومن جهة أخرى، أرادوا جعل أوكرانيا المسالمة رأس حربة لضرب روسيا. فعلى من تقع مسؤولية الحرب الدائرة اليوم؟

لو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا أن كل البابوات رفضوا مبدأ انتهاك حقوق الإنسان، بداية من عام 1948 والاحتلال الإسرائيلي إلى المطالبة بوقف غزو الغرب للعراق، ووقف جهود الغرب لغزو سوريا عام 2013، وغيرها من المواقف المشرفة للبابوات. ويعمل الفاتيكان ليكون محورًا مهِمًّا لتلاقي الشعوب، ويسعى من أجل إحلال السلام والوفاق بين كل الأمم. فتراه يقدّم ما يستطيع من أجل أن يكون أو أن يوجِد مفتاح الحوار بين المتخاصمين. قد يكون كل هذا العمل بسيطًا ورمزيًا وغير مهم، لكنه ينبّه الضمائر الحيّة في الإنسانيّة والشعوب، ويتدراك ويلات ومصائبَ أشدَّ خطرًا ودمارًا.

الدين لا يدخل في السياسية، بمعنى أنه لا يخضع لطرق السياسة المجردة من الضمير والإنسانيّة. الدين لا يدخل ليأمر بحروب إجرامية. لكنه يدخل ليقول كلمة حق، كلمة الإنسانيّة، كلمة فوق رؤى الحروب، وفوق رؤى الأطراف. إن لم يكن رجل الدين قادرًا على المحافظة على استقلاليته، إلا أن يخضع لرؤية قادته حين تكون رؤيتهم رؤية حروب واعتداء على الشعوب، فالصمت به أولى. للجامع والكنيسة دور مهم، لا لإثارة الحروب، بل لتوعية الناس على احترام الآخر وحقوق الإنسان وإحقاق العدل والسلام بين الأفراد والشعوب. رجل الدين رسالة لشعبه، وهادٍ لشعبه، لمقاومة كل ظلم يقع عليه، ولتجنب كل ظلم من طرف شعبه على غيره أيضًا. رجل الدين رجل لا يصنع الحروب، بل يصنع السلام، وهو يعرف أن الإنسانيةُ تُصنَع بالسلام.

موقع ابونا

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث