وزراء مسيحيون في الخلافة الإسلامية - مقالات
أحدث المقالات

وزراء مسيحيون في الخلافة الإسلامية

وزراء مسيحيون في الخلافة الإسلامية

أحمد متاريك :

 

خلال تاريخها الطويل، لم تأنف دولة الخلافة الإسلامية بتجلياتها المختلفة؛ الأموية، العباسية والفاطمية، من إقامة بنيان إداري يلعب المسيحيون دوراً بارزاً فيه، هذا الدور تطوّر في بعض الأحيان حتى أصبح الدور الأول في الدولة الإسلامية بأسرها، وهو منصب الوزير الذي كانت تُوكل إليه صلاحيات استثنائية، وتكون كلمته من كلمة الخليفة ذاته.

في هذا التقرير نستعرض سيرة 6 وزراء مسيحيين بارزين، أدوا دوراً مؤثراً في إقامة دعائم الحُكم الإسلامي في بلاد الشرق، حتى أن أحدهم ذات يوم لُقب بـ"سيف الإسلام".

الطبيب والحاكم ابن أثال

يقول محمد أسعط طلس في كتابه "عصر الاتساق: تاريخ الأمة العربية" (2020)، إن الأمويين لم يتخذوا لأنفسهم وزراء بالمعنى الذي نعرفه في العصر العباسي، وإنما كان لهم كُتّاب وعلماء وأناس يستشيرونهم دون أن يحملوا لقب وزير، حتى لو لم يكونوا مسلمين.

ويضيف طلس: رأينا على ذلك العديد من الأمثلة التي قرّبها الخليفة الأموي معاوية لنفسه -ومن بعده سار باقي الخلفاء على تلك العادة- وهو ما جرى عبر الاعتماد على أسرة سرجون/ سرجيوس، وهي أسرة شامية نبيلة، ساهمت بتولّي الوظائف الإدارية والمالية خلال العهد البيزنطي.

وبلغ اعتماد الأمويين على المسيحيين في إدارة شؤون الدولة حدّاً كانت معه عائلة القديس يوحنا الدمشقي، الذي اشتهر بمؤلفاته شديدة القوة في الدفاع عن المسيحية،  شديدة الصِلة بالخلافة الأموية، فعمل والده وجده ويوحنا نفسه مسؤولين بارزين في البلاط الأموي.

لكن رغم ذلك يبقى ابن أثال هو المسؤول القبطي الأبرز في العهد الأموي، والذي تورطت يداه في الدماء فداءً للتاج العربي، فبحسب محمد عيد خربوطلي في كتابه "أعلام الأطباء الأدباء في دمشق" (2008)، برع في بداية العصر الأموي الطبيب النصراني ابن أثال، والذي كان خبيراً في تركيب الأدوية، وذاع صيته حتى بات طبيب الخليفة الأول.

يُحكى عن الخليفة معاوية أنه اشتكى جوعه الشديد خلال صيام نهار رمضان، فأشار عليه ابن أثال بأكل الكنافة خلال فترة السَحَر، فكانت تقيه شر الجوع بقية اليوم، فكان أول من اتّخذ عادة أكل الكنافة قبيل الفجر، ومن بعده سار عليها بقية المسلمين. بعض المؤرخين يُضعّفون من هذه القصة لكنها تبقى ذات دلالة -ولو شعبية- على عُمق العلاقة بين الخليفة معاوية وطبيبه البارع في ابتكار الحلول، ابن أثال.

للأسف، لم يُسخّر ابن أثال علمه ونفوذه لصالح الناس، وإنما حوّله معاوية إلى وسيلة للتخلص من أعدائه المحتملين عبر السُم.

بحسب ابن الجوزي في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان" (2013)، فإن أهم هؤلاء الأعداء هو عبدالرحمن بن خالد بن الوليد، الصحابي الشهير، والذي امتلك شعبية كبيرة في الشام، بسبب سمعة والده المحارب الأبرز في جيوش الإسلام. خاف معاوية على نفسه من تلك الشعبية المتصاعدة، فكلّف صندوقه الأسود، ابن أثال، بالتخلُّص منه مقابل توليته حُكم حمص.

بالفعل، دسَّ ابن أثال سمّاً في طعام ابن الوليد فمات، لكن للأسف لم يهنأ ابن أثال بمنصبه الحكومي طويلاً، بعدما ترصّده خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد (ابن أخي عبدالرحمن المقتول سمّاً) وقتله ثأراً لعمِّه، وهو ما أثار غضب معاوية فجلده وحبسه ولم يخرج خالد من السجن حتى مات.

الكاتب منصور بن سرجون

شغل منصب "كاتب الخليفة" في عهد معاوية وابنه يزيد ثم عبدالملك بن مروان، وصفه ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" بأنه "صاحب أمر الخليفة".

يحكي أبو العباس القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" (1340هـ): "لقد تنبّه قومٌ بالكتابة بعد الخمول، وصاروا إلى الرتب العلية، والمنازل السنية. منهم سرجون بن منصور الرومي. كان روميّاً خاملاً فرفعته الكتابة، وكتب لمعاوية ولخلفاء بني أمية"، وبحسب الكتاب، فإن إتقان سرجون للكتابة منحه شرفاً كبيراً في البلاط العربي جعله منذ ذوي الحيثية في قلوب خلفاء بني أمية.

وهو أوضحه عبدالشافي محمد في كتابه "السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي" (1428هـ)، والذي أكّد فيه أن بني أمية اعتمدوا على غير المسلمين في قيادة دولة، ومنهم أفراد أسرة سرجون الذين تقلّدوا ديوان الخراج المركزي في العاصمة دمشق، ويضيف: "لم يكن المسيحي سرجون بن منصور رئيساً لديوان الخراج وحسب، وإنما كان مستشاراً سياسيّاً للخليفة معاوية بن أبي سفيان".

حافظ سرجون على تلك المكانة في عهد يزيد بن معاوية الذي عُرف عنه أنه كان "يستشيره في الملمات ويسأله الرأي"، حتى أن سرجون لعب دوراً غير مباشر في وقوع معركة كربلاء، بعدما أشار على يزيد بتولية عبدالله بن زياد حُكم الكوفة، وهو ما تسبّب لاحقاً في وقوع الصدام بينه وبين الحسين حفيد الرسول، والذي انتهى باستشهاده في كربلاء.

عقب وفاة سرجون، تولى مسؤولية الكتابة سليمان بن سعد، الذي وصفه خليفة بن خياط في كتابه "تاريخ خليفة" (1967) بأنه "أول من ترجم ديوان الشَّام بالعربية".

يوحنا بن ماسويه: رئيس بيت الحكمة

بحسب كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (2010) لابن فضل الله العمري، كان يوحنا طبيباً سريانيّاً، مسيحي المذهب، يُعدُّ أحد أهم الشخصيات العلمية التي عرفها العصر العباسي، حتى يُمكننا اعتباره وزير الثقافة الأول لأبناء عم الرسول.

قال عنه علي بن يوسف القفطي في كتابه "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" (2005) إنه "عالم فاضل متقدم عند الملوك"، كما وصفه إدوارد فنديك في كتابه "اكتفاء القنوع بما هو مطبوع" (1408هـ) بأنه "كان معظماً في بغداد وله تصانيف جليلة، وكان يدرّس فيجتمع إليه تلامذة كثيرون".

برع في الطب حتى بات طبيب البلاط الأول، وكان يعكف على ترشيح القردة ليضيف إلى الطب معارف جديدة لم يخلّفها جالينوس في علم التشريح، وله في طب العيون رسالة علمية شهيرة، ليس فقط في بلاد العرب وإنما في أوروبا أيضاً بعدما تُرجمت إلى اللاتينية.

كما قلّده الرشيد مهمة شاقة أخرى وهي ترجمة الكتب القديمة التي أتت بها جيوش الإسلام من بلاد الروم، ليقود ابن ماسويه حركة الترجمة النشطة التي عرفتها الخلافة العباسية لعلوم الروم، فقاد ابن ماسويه جهود ترجمة كتب الفلسفة والموسيقى والهندسة والطب، من اليونانية والسريانية إلى العربية، وهو ما أهّله ليتقلّد منصب رئيس خزانة الحكمة، أهم مؤسسة علمية عرفها المشرق الإسلامي خلال هذه الفترة.

بحسب القفطي، أن يوحنا خلال حياته اعتاد أن يعقد مجلساً للنظر في العلوم المختلفة. كان ذلك المجلس عامراً بكل أنواع العلوم، يفد إليه الأدباء وأهل الصنعة من كل حدبٍ وصوب، كما كان يقصده التلاميذ الصغار للتعلم من المناقشات الثرية التي يستضيفها مجلس ابن ماسويه.

رُوي عنه أن مجلسه كان "أعمر مجلس بمدينة السلام لمتطبّب أو متكلّم أو متفلسف، لأنه كان يجتمع به كل صنف من أصناف أهل الأدب"، أيضاً من فرط ثقة هارون الرشيد في كفاءته العلمية جعله مشرفاً على جميع المدارس في بغداد.

بقي على مكانته الرفيعة ردحاً من الزمن، وخدم بعلمه الخلفاء العباسيين بكل إخلاص، فبعد هارون عمل مع الأمين ثم المأمون وحتى المتوكل.

برغم هذه البراعة التي اشتهر بها يوحنا، اتّهمه العمري في كتابه بأنه المُتسبب في وفاة المأمون، وهو ما أقطع بعدم صحته لدليل بسيط، وهو أن ابن ماسويه استمرّ في الخدمة الحكومية عقب وفاة المأمون، وظلَّ الطبيب الأول للخليفة المتوكل حتى مات في عهده.

تُوفي سنة 243هـ، في مدينة سامراء خلال خلافة المتوكل بعد عُمرٍ مديد من خدمة آل العباس.

الوزير نصر بن هارون

ذاع صيته خلال فترة التسلُّط البويهي على الدولة العباسية، وهو الزمن الذي سيطر فيه بنو بويه على مقاليد بغداد، وصارت لهم الكلمة الأولى والأخيرة في كل شيء، وحوّلوا الخليفة إلى مجرد رمز للدولة منزوع الصلاحية.

من أهم رجال بني بويه الذين حكموا بغداد هو عضد الدولة بن ركن الدولة الحسن بن بويه، والذي استوزر نصرانيّاً شهيراً هو نصر بن هارون، الذي نال بحُكم منصبه من المجد والنفوذ ما تسابقت كُتب التاريخ في التعبير عنه.

تنافس ابن هارون على منصب الوزارة مع القائد العسكري المطهر بن عبدالله، والذي انتحر خلال إحدى حملاته العسكرية، فخلى الجو ومنصب الوزارة لابن هارون.

اشتهر عضد الدولة البويهي بجهوده في إعمار بغداد التي خربت بسبب توالي الفتن عليها، فبذل جهوداً كبيراً لتعمير مساجدها وأسواقها وبيوتها، وبالمثل نشط وزيره ابن هارون في عمارة البيوت والأديرة وإطلاق الأموال على الفقراء.

وعلى الرغم من انفراد ابن هارون بمنصب الوزارة، فإنه لم يكن يطيب له المقام في بغداد، وكان يفضّل العيش في فارس بدلاً منها، وهي العادة التي استمرَّ عليها حتى مات.

رغم حياة النفوذ والترف التي عاشها ابن هارون إلا أن الدنيا انقلبت عليه بعدما توفى عضد الدولة وتولّى ابنه شرف الدولة بدلاً منه، وكان من أوائل القرارات التي اتخذها هو القبض على نصر بن هارون وقتله؛ لأنه كان يسيء صُحبته أيام أبيه.

زرعة بن عيسى بن نسطورس

عيّنه الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله وزيراً سنة 401هـ بدلاً من أحمد بن محمد القشوري، ولقّبه بـ"الشافي". يحكي يحي بن سعيد في كتابه "تاريخ الأنطاكي" (1990)، أنه كان "حسن السيرة، محمود الطريقة، محموداً من السُلطان وسائر الجند والكتّاب".

والده عيسى بن نسطورس شغل منصب الوزارة، أيضاً، في عهد الخليفة العزيز بالله سنة 383هـ، اشتهر بواقعة شهيرة في التاريخ الإسلامي، حين هاجمت امرأة الخليفة العزيز بسبب تعيينه وزيراً نصرانيّاً، فكتبت له "بالذي أعزّ النصارى بابن نسطورس وأذلّ المسلمين بك، إلا نظرتَ في أمري"، وهو ما أثار غضب الخليفة فوقّع على وزيره غرامة قدرها 300 ألف دينار.

وبحسب ساويرس ابن المقفع في كتاب "تاريخ مصر من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة" (2006)، فإنه -بخلاف عيسى وزرعة- تولّى منصب الوزارة أيضاً فرد ثالث من عائلة نسطورس المسيحية، وهو "صاعد" أخو "زرعة". شغل "صاعد" منصب الوزارة خلال فترة وجيزة من شهر شوال حتى شهر ذي الحجة من سنة 409هـ، تلقّب خلالها بـ"الأمير الظهير شرف الملك تاج المعالي ذو اليدين".

ورغم ذلك فإن المقريزي يروي أن الحاكم غضب على زرعة لدرجة أنه حزن بسبب عدم قتله له! وعقب وفاة زرعة قال الحاكم لندمائه: "ما أسفتُ على شيء قطّ أسفي على خلاص ابن نسطورس من سيفي، وكنت أودّ ضرب عنقه، لأنه أفسد دولتي وخانني ونافق عليّ".

تُوفي زرعة يوم الاثنين سنة 403هـ بسبب عِلة أصابته، وبهذا لم يستمر في منصبه الوزاري الرفيع إلا عامين وبضعة أشهر، وتقلّد الأمور بعده الحسين بن طاهر الوزّان الذي حمل لقب "أمين الأمناء".

بهرام الأرمني: سيف الإسلام النصراني

أبو المظفر بهرام الأرمني، وزير فاطمي مسيحي الديانة أرمني الجنسية. وفد على مصر لقيادة تجمعات الأرمن فيها، وأحسن خدمة الدولة الفاطمية بسبب ما اشتهر به من حِكمة وحُسن سياسة، حتى تولى ولاية "المحلة" (مدينة مصرية، لا تزال تحمل نفس الاسم حتى الآن). وعقب نجاحه في هذا المنصب الإداري المبدئي، عيّنه الخليفة الفاطمي الحافظ وزيراً سنة 529هـ.

بحسب شهاب الدين النويري في كتابه "نهاية الأرب في فنون الأدب" (1423 هـ) فإن الحافظ منح بهرام المسيحي لقب "سيف الإسلام تاج الملوك"!

ووفقاً للنويري، فإنه لما اعتزم الخليفة تعيين بهرام وزيراً، أشار عليه المقرّبون منه بألاّ يفعل ذلك، قائلين "إنّه نصراني لا يرضاه المسلمون، وإنّ من شروط الوزارة أنّ الوزير يرقى المنبر مع الإمام في الأعياد".

لم يعبأ الخليفة الفاطمي بتلك الاعتراضات وأقرّ تعيين بهرام وزيراً، والذي رغب في تدعيم قوته على الأرض سريعاً، فأسكن 30 ألفاً من الأرمن في القاهرة -أبرزهم أخوه الذي عيّنه والياً على قوص- حتى "استطالوا على المسلمين، وخافوا أن يغيّروا الملة الإسلامية"، كما بنوا في أيامه الكثير من الكنائس والأديرة.

كثرت الشكايات التي أرسلها الأمراء للخليفة تجاه الوزير بهرام، لكنه لم يعبأ بها، فاتفقوا على دعم والي الغربية رضوان بن الولخشي، وطالبوه بمحاصرة القاهرة بجنوده وإجبار الخليفة على إقالة بهرام وتعيين الولخشي بدلاً منه.

تحقق هذا السيناريو الذي تمنّاه الأمراء، وأزاحوا بهرام بعد عامين فقط من بقائه في منصبه، وتقلّد رضوان بن الولخشي الوزارة بدلاً منه وتلقّب بـ"الأفضل".

رغم ذلك، فإن الحافظ بقي على إعجابه ببهرام الأرمني، وبعد حينٍ من الزمن، أمره بالقدوم عليه من الصعيد وأسكنه في أحد القصور وأكرمه، وهو ما أثار غضب الوزير رضوان، فوقعت العداوة بينه وبين الحافظ، انتصر فيها الحافظ -وبهرام- وهرب رضوان إلى الشام.

ظل بهرام حتى بقية حياته مستشاراً سياسياً للحافظ، دون أن يتقلّد منصباً رسميّاً، حتى تُوفي عام 535هـ. يقول النوبيري: "كان بهرام يشاور الحافظ في تدبير الدولة والأمور، فلما هلك حزن عليه حُزناً شديداً، وأمر بغلق الدواوين 3 أيام".

ويضيف "أُخرج بهرام وقت صلاة الظّهر في تابوت عليه الدّيباج، وحوله جماعة من النّصارى يبخّرون باللّبان والسّندروس والعود؛ وخرج النّاس كلّهم مشاة، ولم يتخلّف عن جنازته أحد من الأعيان. ثمّ خرج الحافظ على بغلة خلف التّابوت وعليه عمامة خضراء وثوب أخضر بغير طيلسان. ولم تزل النّاس مشاة والقسوس يعلنون بقراءة الإنجيل، أما الحافظ فقد جلس على شفير القبر وبكى بكاءً كثيراً".

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*