محمد المحمود:
منذ الفجر الأول للإسلام، وإلى اليوم، قام ـ ويقوم ـ رجالُ الدين في الإسلام بدور محوري في تشكيل أنماط الوعي السائدة على امتداد العالمين: العربي والإسلامي. الوعيُ الجماهيري المُكتسِح لكل النُتُوَءات الطارئة، كان يقوده رجال الدين، ويُسْهِمون إسهاما حاسما في تحديد محتواه المعرفي والنفسي، حتى وإن كانوا ـ في البداية أو في النهاية، أو في كليهما ـ واقعون تحت سيطرة العُرف الثقافي السائد الذي يشتغلون في حدوده، أو هم واقعون سيطرة التوجيهات المؤسساتية المباشرة التي كانت تدرك دورهم في الأرقام الصعبة لمعادلات القوة؛ تبعا لدورهم الكبير في التأثير على الجماهير.
قد يُنْكِر بعض المسلمين (ومنهم رجال دين !)، وجودَ رجال الدين في الإسلام؛ بدعوى تَميّز/ تفرّد الإسلام عن غيره من الأديان بأنه خطاب من الله إلى البشر مباشرة؛ دونما وسيط كهنوتي. أي أن المسلم مرتبط بنص مقدس/ نصوص مقدسة، تربطه مباشرة بالمتعالي/ اللاّبشري، فيما هو ـ حينئذٍ ـ يتساوى مع الآخرين أمام هذه النصوص.
ادعاء التّميّز/ التفرّد هذا، قد يُصَدِّقه أولئك الذين يرون مجرد الادعاء دليلا قائما بذاته. لكن الإسلام كأي دين، يقوم على الخطاب اللاهوتي فيه رجالٌ مُتَخَصِّصُون أو شبه مُتَخصِّصين. الادعاء شيء، والواقع شيء آخر.
فالجماهير(ويطلق عليهم رجالُ الدين الإسلامي: العوام، ويقصدون بذلك: غير المختصين بالخبرة الدينية؛ حتى ولو كان غير المختص عالِما في مجال آخر) لا تَأخُذ معرفتَها الدينية الأولية، ولا تصورها الديني العام، ولا الافتاء، ولا الإرشاد؛ من النص المقدس مباشرة، بل عبر وسيط كهنوتي، كانت "وساطته هذه" هي السبب المباشر لإنتاج عشرات الألوف من الكتب في المعرفة الدينية عبر تاريخ الإسلام الطويل.
إذن، من الواضح أن منكري وجود "رجال الدين" في الإسلام من المسلمين، لا يخرجون من الباب إلا لكي يدخلوا من النافذة، إذ هم يعترفون، بل ويؤكدون على وجود "عُلماء دين" يمتهنون ـ احتكارا ـ تفسيرَ الدين، والإفتاء فيه، والدعوة إليه، والوعظ والإرشاد له، وإقامة الطقوس، بل ويُطالِبون الجماهيرَ بالعودة إليهم، والأخذ عنهم، وأنهم "الأمناء على الدين" و "أهل الذِّكر" و "وَرَثة الأنبياء"...إلخ العبارات التي تؤكد وجود طبقة خاصة تمتهن وتحتكر وظائف خاصة، لا يجوز ـ وفق دعواهم ـ لبقية الناس امتهانها إلا بعد مرحلة طويلة من التأهيل الكهنوتي الخاص. وطبعا، هذا التخصص والاحتكار على المستويين: النظري والعملي، هو منهج ومظهر ودور/ وظيفة رجال الدين في كل دين، ومحاولة استبدال الأسماء المُصْطَلحية الشهيرة بأسماء أخرى للظاهرة نفسها لا يُغَيّر من حقيقة الأمر/ المُسَمَّى شيئا.
نعم، في البدايات الأولى للإسلام، لم تكن طبقة "رجال الدين" قد تميّزت عن بقية الأطياف الفاعلة في المجال الحيوي الذي تشتغل فيه. في البدايات كانت المعرفة الدينية، مُضَافا إليها الاستقامة السلوكية، هي التي تُحَدِّد موقع/ مكانة الإنسان في المجتمع الإسلامي. وليس هذا في المجال الديني الذي لم يكن يَتميّز بصورة واضحة عن المجال الدنيوي فحسب، بل في كل المجالات، إذ رجال السلطة السياسية (= أولو الأمر)، على اختلاف مراتبهم ومواقعهم كانوا هم ـ في الوقت نفسه ـ رجال المعرفة الدينية والاستقامة السلوكية؛ كما يتصورها المجتمع الإسلامي آنذاك، أقصد: في الفترة التي شَكَّلَت العقودَ الثلاثة التي تَلت وفاة رسول/ نبي الإسلام ـ ص ـ.
كان خلفاء الرسول الأربعة، ورجال الشورى، والمقربون من السلطة، والقيّمُون على سلوكيات الناس العامة، هم ـ في الوقت نفسه ـ رجال المهام الدينية، بل وكانت ممارساتهم المدنية تتم من خلال صفتهم الدينية، ليس على سبيل الامتزاج/ التداخل المقصود، بل على سبيل الاتحاد المبني على حقيقة أن الدولة الناشئة/ المجتمع الناشئ إنما قام بالدين، وعلى مبررات الدين، وبالتالي، فالصفة الدينية إذ تُعَبِّرُ عن صفة الدولة، إنما كانت تعبر ـ بشكل آلي ومباشر ـ عن صفة القائمين عليها، افتراضا؛ وِفْقَ الاعتراف المجتمعي العام، و واقعا؛ في حدود ما وقع حتى عام 41 للهجرة.
لكن، ما حدث بعد الانقلاب الأموي عام 41هـ، والذي بدأ قبل ذلك بخمس سنوات ـ بصورة فرعية ـ، هو أن الانفصال التام بين المكانة المعتبرة اجتماعيا لـ"المعرفة الدينية+ الاستقامة السلوكية" وَقع في أعلى هرم السلطة، ثم ـ تبعا لذلك ـ في كل تفاصيلها. فالحاكم الجديد بعد 41هـ لم يكن يحظى بأي تقدير على مستوى المعرفة الدينية أو الاستقامة، بل ولا حتى السبق التاريخي في الإسلام، فيما هو يحاول امتطاء صهوة السلطة العليا في مجتمع يتوفّر على الألوف من ذوي السبق التاريخي، ومن ذوي الخبرة الدينية، ومن ذوي الاستقامة، وكثير من هؤلاء يحظون بالتبجيل الاجتماعي العلني والاعتراف الديني المشهود من رجال الإسلام الأوائل(= مصدر المشروعية)، بما يصبح معه الحاكم الأموي/ معاوية وكأنه طارئ نشاز على المسار الطبيعي المفترض في تصور عموم المسلمين آنذاك.
في مثل هذه الحال، ماذا يفعل "رجل المعرفة الدينية + الاستقامة السلوكية" وقد أصبح معزولا عن أي دور في المراتب السلطوية للدولة الأموية؟
كانت السلطة تصدر ـ بشكل أو بآخر ـ عن رأي رجال الدين فترة الخلفاء الأربعة الأوائل، وفي النهاية، تقف محكمات النصوص حُجَجا لازمة بيد المتحدث بلسان الدين. بينما في الزمن الأموي، أصبح رجال المعرفة الدينية، والمكانة السابقة المُبجّلة اجتماعيا، مُهَمَّشين إلى أقصى درجات التهميش، رغم فتات المال الذي كان يتسرب إلى بعضهم على سبيل التهدئة أو الاسترضاء أو محاولة شراء الذمم بشكل صريح.
هنا، في تلك اللحظة الفارقة، أحس رجل المعرفة الدينية أنه أمام سلطة طارئة؛ ليس هو منها ولا هي منه. وفي الوقت نفسه، كان يشعر ـ وبشكل مباشر ويومي ـ أنه مُبَجَّل اجتماعيا؛ باعتباره خازنَ أسرار الدين، وباعتباره ـ بمسلكه التَّوَرّعي التّعفّفي ـ حارسَ أخلاقيات الاستقامة، تلك الأخلاقيات التي كانت السلطة الأموية تنتهكها باستمرار في وضح النهار.
هكذا، بدأ يشعر رجل الدين بتميّزه عن السلطات الرسمية، وبتميزه إزاءها. وهو ـ إذ يشعر بذلك ـ ليس معدما من أي سلطة، هو ليس أعزلا تماما؛ مقابل مسلحين بالكامل، فنفوذه الاجتماعي راسخ، بل ويتزايد بالاطراد مع تزايد عسف السلطة واضطهادها لمعظم المكونات الاجتماعية، وخاصة فئة "الموالي" التي لم تكن "أموال شراء الذمم" تمتد إليها ولو بالفتات، كما كان عليه الحال مع رجال العشائر المتنفذين الذين كانوا يمثلون وحدات السلطة الصغرى.
هذا يُفَسِّر كيف أن جميع الثورات على الدولة الأموية إنما قام بها رجال دين أو دعمها ـ بشكل مباشر وحاسم ـ رجال دين. وفشلت كل هذه الثورات على امتداد تسعين عاما؛ حتى انتصرت الثورة العباسية بردائها الديني. ومع كل فَشلٍ، كان رجل الدين يلجأ إلى البعد الروحي/ المعرفي لتعويض خسارته، وحيث إن المعارك الفاشلة تُخَلِّف وَرَاءها مآسيَ كبيرة، وأحقادا مكتومة، وثارات مُؤجّلة، فقد كانت كل هذه تسهم في رفع أسهم رجل الدين ـ كملجأ أمين، وربما وحيد ـ للغضب الاجتماعي الذي يتراكم بفعل السياسات الغاشمة للأمويين.
كانت السلطة الأموية مرفوضة وممقوتة دينيا واجتماعيا على نطاق واسع. وفي المقابل، كان رجال المعرفة الدينية والاستقامة الأخلاقية مقبولين اجتماعيا على نطاق واسع. كانت السلطة الأموية تمتلك عناصر القوة المادية القسرية، وكانت سلطة رجال الدين تمتلك عناصر القوة الروحية المؤثرة عميقا في الحراك الاجتماعي.
مَن هو الأقوى، خاصة وأن عناصر القوة تمايزت وتنوعت؛ بعد أن كانت ـ عهد الخلفاء الأربعة ـ متداخلة، ومتواصلة، ومتفاعلة؟ لا بد من مشهد مبارزة، لا بد مشهد استعراض للقوة، ولو بشكل عرضي. وهنا تأتي المناسبات العامة، وخاصة مناسك الحج؛ لِيُحاول المجتمع التعبير ـ بشكل ضمني ـ عن رفضه لمغتصبي السلطة من الأمويين، ولِيُحاول رجل الدين ومؤيدوه تأكيد نفوذهم المنافس لنفوذ رجال السلطة الرسميين. وهذا ما ينكشف من خلال "العبارات الموجزة" التي ترد في كتب التراث في تراجم رجال الدين، إذ تحكي أن الناس يتبعون عبدالله بن عمر في الحج ليستفتوه، وأن هؤلاء الناس بلغوا من الكثرة ما يفوق الذين التفوا حول الحاكم الأموي، وكذلك الحديث عن التفاف الناس حول التابعي/ عطاء بن أبي رباح، مقابل إهمالهم النسبي للحاكم الأموي/ سليمان بن عبد الملك...إلخ القصص الصادقة أو المتخيلة التي تحكي مشاهد ـ أكثرها غير مقصود بصورة واعية ـ لاستعراض القوة، ليس من قِبَل رموز/ أبطال الحكاية، بل من قبل أولئك الذين أخذوا على أنفسهم مهمة تسطيرها في تراجمهم، وأكثر هؤلاء هم من رجال الدين الذين كانوا يُحاولون تأكيد نفوذ أسلافهم مقابل السلطة في الماضي؛ لتأكيد نفوذهم هم أيضا، على سبيل المعنى السلطوي المتضمن في المشهد الاستعراضي.
إن مشاهد المبارزة هذه، التي يصنعها ويستعرضها المخيال العام لرجال الدين ولأولئك المتعاطفين معهم، عَبَّرت عن نفسها بوضوح بعد سقوط الأمويين على يد الثورة العباسية التي تَلبّست لبوسَ الديني في البداية، ثم كشفت عن قناعها السلطوي المحض، على الأقل، إزاء/ مقابل رجال الدين الذين وجدوا أنفسهم مرة أخرى خارج نطاق السلطة تماما. وهنا نسمع وصف الإمام مالك بأنه كان يبدو في "هيئة سلطان"، أو أنه كان "مهيبا كسلطان"، أو أنه "أشبه بالسلاطين منه بالعلماء". بل ونسمع من يصف سفيان الثوري، أحد كبار رواة الحديث، بأنه كان "أمير المؤمنين في الحديث"، وربما وُصِفَ بهذا الفقيه/ عبد الله بن المبارك، وكان العز بن عبد السلام يُوصَف بأنه "سلطان العلماء"، تروي كتب التراجم التي كتبها في الغالب رجال الدين، مشاهدَ لِجُرْأة رجال الدين على السلاطين.
هكذا يستعير رجل الدين ـ أو يُسْتَعار له ـ ألقاب السلطة الصريحة لتأكيد سلطته، لا سلطته هو كفرد، أي ليس سلطة مالك أو سفيان الثوري أو ابن المبارك أو العز بن بعد السلام...إلخ، بل سلطة "رجال الدين" كطبقة تُنَافِس رجال السلطة السياسية على مجال النفوذ/ عناصر القوة في المجتمع.
وللحديث بقية في هذا السياق