الهجرات الأكثر تأثيرا فى الإسلام - مقالات
أحدث المقالات

الهجرات الأكثر تأثيرا فى الإسلام

الهجرات الأكثر تأثيرا فى الإسلام

محمد يسري:

 

عرف الشرق الأدنى القديم فكرة التهجير الجماعي منذ فترة موغلة في القدم، فقد مارسه الأشوريون والبابليون والفرس على نطاق واسع، وعدّوه نوعاً من أنواع العقاب الجماعي الذي يمكن ممارسته ضد الشعوب الخارجة عن الطاعة.

وأحياناً، كانت بعض الجماعات الإثنية أو المذهبية تلجأ إلى الهجرة الجماعية للهروب من تضييق السلطات الحاكمة عليها.

على أية حال، كان لتلك الهجرات آثار مهمة في ميادين السياسة، والثقافة، والعمران، كما أنها أتاحت الفرصة أمام صعود بعض القوى العسكرية الفتيّة، وهي القوى التي ستلعب أدواراً فارقة في مستقبل الكثير من البلاد الإسلامية، شرقاً وغرباً.

قم ونيسابور... هجرة الشيعة إلى إيران

تتحدث الكثير من المصادر التاريخية الإسلامية، ومنها على سبيل المثال كل من تاريخ اليعقوبي (ت. 298هـ) ومروج الذهب للمسعودي (ت. 346هـ) عن تعرّض الجماعات الشيعية العراقية لاضطهاد من قِبل الحكومات الأموية والعباسية، ما دفع بعضها للتوجه شرقاً ناحية بلاد فارس، حيث استقرت، وأسست بعض الجيوب الشيعية التي ازدادت قوة مع مرور الوقت.

يتحدث ابن جرير الطبري (ت. 310هـ)، في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، عن بداية موجات النزوح الشيعي إلى إيران، وعن أنها تزامنت مع مقتل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، عام 40هـ، ووصول الأمويين إلى كرسي الخلافة.

يذكر الطبري أن والي العراق زياد بن أبيه أجبر ما يقرب من الخمسين ألفاً من شيعة الكوفة على الانتقال إلى ولاية خراسان، وكان هدفه تخفيف حدة التشيع في العراق.

هذه السياسة صارت هي السياسة المتبعة في أغلب فترات الدولة الأموية، إذ تمت الاستعانة بها في ولاية عُبيد الله بن زياد على الكوفة، ثم في عهد سيطرة الحجاج بن يوسف الثقفي على العراق.

ويؤكد الباحث الإيراني المعاصر الدكتور رسول جعفريان، في كتابه "الحياة الفكرية والسياسية لأئمة آل البيت"، أن العباسيين اتّبعوا السياسة نفسها، حتى اضطر الكثير من الشيعة الإمامية إلى ترك العراق، واتجهوا للسكن في إيران، ونجحوا في تأسيس مجتمعات شيعية قوية في كل من قم ونيسابور وسمرقند وطوس وبيهق.

تلك الهجرات الشيعية المبكرة ستمثل النواة الأولى لتغيير المذهب الديني السائد في عموم البلاد الإيرانية في ما بعد، ولا سيما بعد ظهور بعض الدول الشيعية القوية في بلاد فارس، وأهمها كل من الدولة البويهية في القرن الرابع الهجري، والدولة الإيليخانية في القرن الثامن الهجري، والدولة الصفوية في القرن الحادي عشر الهجري.

تونس والقيروان... الهجرة الهلالية إلى إفريقية

تُعدّ هجرة القبائل الهلالية إلى مصر وتونس، في القرن الخامس الهجري، واحدة من أشهر الهجرات التي أثرت بشكل كبير في مختلف النواحي العمرانية والحضارية في منطقة المغرب الكبير.

بحسب ما هو معروف، لمّا أصيبت منطقة نجد الواقعة في شبه الجزيرة العربية بالجفاف، في بدايات القرن الخامس الهجري، وجدت القبائل التي كانت تسكن فيها نفسها مجبرةً على ترك مواطنها، والتحرّك نحو مناطق أخرى أفضل حالاً.

يذكر الدكتور الراضي دغفوس، في كتابه "مراحل تاريخ الهلالية في المشرق"، أن قبائل هلال وسليم ودريد والأثبج ورياح، اتجهت غرباً إلى مصر، لتستقر في بعض الأماكن المتفرقة على الجهة الشرقية من النيل.

ورحّب الفاطميون الذين كانوا يحكمون مصر في تلك الفترة بتلك القبائل في أول الأمر، ولكن مع توالي المِحَن الاقتصادية على مصر في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي (427-428هـ)، أضحت مسألة إعالة تلك القبائل مشكلة كبرى، خصوصاً أن تلك القبائل دأبت على إحداث الفوضى والشغب، ولم تعتد الانصياع للسلطة السياسية المركزية.

وهنا، عمل الوزير الفاطمي الحسن بن علي اليازوري على استخدام القوة البشرية الهائلة لتلك القبائل في اخضاع والي إفريقية المعز بن باديس، والذي كان قد خرج على السلطة الفاطمية وأعلن ولاءه للخلافة العباسية في بغداد، ومن هنا تمكّن اليازوري من إقناع الخليفة الفاطمي المستنصر بالله بخطته، فأصدر الأخير قراراً، عام 442هـ، بتحريك القبائل الهلالية غرباً، وأذن لهم في استيطان إفريقية، بل ومنح كل رجل منهم ديناراً لتحفيزهم على التحرك والتوجه لقتال ابن باديس.

تشير الدكتورة ريم هادي، في بحثها "دور الوزير اليازوري وسياسته الداخلية والخارجية لمصر"، إلى أن ما يقرب من النصف مليون نسمة من القبائل العربية تحركوا باتجاه المغرب، فاستولوا على برقة، ولما خرج لهم المعز بن باديس، قاتلوه وهزموه في العديد من المعارك.

وبناءً على تلك الانتصارات المتوالية، صار التواجد الهلالي في إفريقية أمراً واقعاً، إذ انتشر الهلاليون في الكثير من أنحاء تونس والجزائر وليبيا، وحكموا الكثير من مدن المغرب الأدنى وعقدوا علاقات دبلوماسية مع الدول الكبرى التي تعاقب ظهورها في المغرب الأقصى، وهي الدول المرابطية، والموحدية، والمرينية على الترتيب.

لم تقتصر نتائج هجرة القبائل الهلالية إلى تونس على تغيير المعادلة السياسية، بل امتدت للكثير من النواحي العمرانية والسكانية والثقافية كذلك.

على الصعيد العمراني، لعب الهلاليون دوراً سلبياً، الأمر الذي يشهد عليه ما ذكره ابن خلدون (ت. 808هـ) في تاريخه، إذ يذكر أن "إفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة وتمرسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لحق بها وعادت بسائطه خراباً كلها بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمراناً تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدن".

أما في ميادين اللغة والثقافة والتركيبة السكانية، فقد أسهم الهلاليون بحظ وافر في تعريب الشمال الإفريقي، بعدما زادت أعداد العرب عن أعداد الأمازيغ في الكثير من مدنه ونواحيه، الأمر الذي أثر بالتبعية في نشر اللغة العربية وانحسار اللسان الأمازيغي.

الرباط... هجرة الصنهاجيين لتأسيس الدولة

في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، عرف المغرب الأقصى واحدة من الهجرات المهمة التي لعبت دوراً مؤثراً في تشكيل معادلات السياسة والدين في المغرب والأندلس في ما بعد.

يذكر الباحث المصري محمد عبد الله عنان، في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس"، أن يحيى بن إبراهيم الجدالي كان زعيماً لقبيلة جدالة الصنهاجية، وكان قد ساءه ما يراه منتشراً بين قومه من غفلة ولهو وبُعد عن الدين الإسلامي الحنيف، فلجأ -أثناء رحلة عودته من الحج- إلى الفقيه المشهور أبي عمران الفاسي، وطلب منه المساعدة لنشر الإسلام الصحيح بين القبائل الصنهاجية.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن الفاسي كلف أحد تلاميذه –ويُدعى عبد الله بن ياسين الجزولي- بمصاحبة الجدالي، فذهب الرجلان إلى مضارب القبيلة، وعملا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنهما تعرّضا لغضب معظم أفراد القبيلة، فاضطرا إلى تركها في نهاية المطاف.

هاجر الجدالي وابن ياسين إلى مكان بعيد، وعملا معاً على تأسيس رباط للإقامة والسكن، واتخذا منه معقلاً ومركزاً لبث أفكارهما الإصلاحية، وكان معهما في بداية الأمر عدد قليل من الرجال الذين آمنوا بدعوتهما.

وبحسب ما ورد في الموسوعة العربية، نشب خلاف واسع حول المكان الذي شهد إقامة هذا الرباط، إذ تذكر بعض الآراء أنه كان يقع في "جزيرة تيدرا الواقعة على بعد 500 كم من مصب نهر السنغال، في حين يتبع دارسون آخرون قول ابن خلدون إن الرباط بني بجزيرة في نهر السنغال أو النيجر".

بغضّ النظر عن الاختلاف حول مكان هذا الرباط، ترك الكثير من الصنهاجيين مضارب قبيلتهم وهاجروا إليه في شكل جماعات متتابعة، ما أتاح الفرصة لتقوية الرباط في غضون شهور معدودة.

أهمية الهجرة إلى الرباط ستتضح بعد فترة زمنية قصيرة، وذلك بعدما تحول المرابطون من مرحلة السكون والكمون إلى مرحلة الحركة والجهاد، ليتمكنوا من الانتصار على معارضيهم من الصنهاجيين، وليؤسسوا الدولة المرابطية الكبرى، وليفرضوا سلطانهم على مساحات شاسعة من المغرب والأندلس.

تبريز، وقزوين، وأصبهان... هجرة العامليين لإيران

منطقة جبل عامل هي جنوب لبنان الحالي، وتمتد على مساحة نحو ثلاثة آلاف كيلومتر مربع، وتُعرف بكونها واحدة من أهم مراكز التشيع الإمامي الاثني عشري على الإطلاق.

في القرن العاشر الهجري، هاجر العشرات من علماء هذه المنطقة إلى إيران، إبان الحقبة الصفوية، وساعدوا في تسريع حركة التحول المذهبي الفارسي إلى التشيع.

بحسب ما هو معروف في المصادر التاريخية، أعلن الشاه إسماعيل الأول، مؤسس الدولة الصفوية، اعتناق الدولة للمذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري، وسرعان ما استغل التشيع في التعبئة والحشد ضد الدولة العثمانية السنّية المتاخمة لدولته.

الصفويون الذين كانوا يحتاجون إلى العلماء والفقهاء لنشر التشيع بين العامة، وجدوا بغيتهم في علماء جبل عامل، والذين كانوا يتعرضون في تلك الفترة للاضطهاد من جانب الدولة العثمانية. في تلك الظروف، هاجر العشرات من علماء جبل عامل إلى عواصم الصفويين الكبرى في كل من تبريز، وقزوين وأصفهان، وفي تلك المدن حظوا برعاية واهتمام السلطة، ووُظّفوا لتثبيت مبادئ التشيع الإمامي في نفوس الإيرانيين.

ويشير علي مروه، في كتابه "التشيع بين جبل عامل وإيران"، إلى أن أول علماء جبل عامل الذين هاجروا إلى إيران كان الشيخ نور الدين أبو الحسن علي بن الحسين بن عبد العال العاملي الكركي، المعروف بلقب "المحقق الثاني".

حظي الكركي بمقام رفيع في البلاط الصفوي، كما أُطلقت يده في تعليم المذهب الشيعي. وعلى الرغم من أنه رحل عن إيران لبضع سنين في أواخر فترة حكم الشاه إسماعيل، فإنه سرعان ما عاد إليها مرة أخرى بعدما ارتقى طهماسب بن إسماعيل إلى سدة الحكم، ووثق فيه الشاه الجديد بشكل مطلق، وأشركه في الحكم، وكتب له فرماناً، جاء فيه أن "معزول الشيخ لا يُستخدم، ومنصوبه لا يُعزل".

بعد وفاة الكركي، ارتبط التشيع الصفوي الإيراني بمجموعة أخرى من كبار العلماء القادمين من جبل عامل، من أهمهم تلميذ الكركي، كمال الدين درويش محمد بن الحسن العاملي، وعلي بن هلال الكركي، والشيخ البهائي، بهاء الدين محمد بن حسين بن عبد الصمد العاملي، والذي نال شهرة كبيرة في عموم إيران، وتقلد منصب شيخ الإسلام في عهد الشاه عباس الصفوي.

جليقية، وكريت، وشفشاون... أهم الهجرات الأندلسية

عرفت شبه الجزيرة الأيبيرية عبر تاريخها الإسلامي الممتد على مدار ما يقرب من الثمانية قرون، العديد من الهجرات البشرية التي أسهمت -بشكل واضح- في حدوث تغيرات مهمة في ميادين السياسة والفن والثقافة.

أولى تلك الهجرات وقعت بعد انتصار المسلمين على القوط الغربيين في معركة وادي برباط في رمضان سنة 92هـ. فقد هربت القوة الباقية للقوط إلى أقصى الشمال، وتحصنت في المعاقل الجبلية الحصينة في منطقة جليقية، وفي تلك المنطقة على وجه التحديد، وضعت البذور الأولى لممالك الإسبان المسيحية -نافار وأراغون وقشتالة وليون- وتمكنت من النمو شيئاً فشيئاً، حتى استطاعت في نهاية المطاف أن تتغلب على المسلمين وأن تطردهم بشكل من نهائي من الأندلس.

الهجرة الأندلسية الثانية وقعت في بدايات القرن الثالث الهجري، في عهد ثالث أمراء الدولة الأموية في الأندلس، الحكم بن هشام (ت. 206هـ). يذكر ابن عذاري المراكشي، في كتابه "البيان المغرب"، أن سياسات الحكم التعسفية تسببت في اندلاع الثورة ضده عام 202هـ. أهل الربض الجنوبي كانوا زعماء تلك الثورة، وكادوا أن يفتكوا بالحكم، لولا أنهم هُزموا في نهاية المطاف، وقام الحكم بالتنكيل بهم بكل وسيلة ممكنة، فصلب العشرات من زعمائهم على أبواب قصره في قرطبة، كما أمر بتهجير عشرات الآلاف من أهل الربض، فخرجوا في سفنهم إلى مدينة الإسكندرية.

في كتابه "حضارة العرب في الأندلس"، يذكر عبد الرحمن البرقوقي أن أهل الربض توجهوا بقيادة عمر بن حفص بن شعيب بن عيسى البلوطي إلى الإسكندرية، وسيطروا عليها لفترة تقترب من العشر سنوات، وبعدها تمكن الوالي العباسي عبد الله بن طاهر من طردهم منها، ليتوجهوا صوب جزيرة إقريطش/ كريت، وينزلوا على أرضها، عام 212هـ. الربضيون الذين تمكنوا من الانتصار على القوات البيزنطية في الجزيرة أسسوا بعدها لإمارة إسلامية تمكنت من الصمود لما يقترب من 150 عاماً، ولعبوا في تلك الفترة دوراً مهماً في الحركة التجارية والثقافية في البحر المتوسط.

أما ثالث الهجرات البشرية الأندلسية، فكانت تلك التي وقعت عقب سقوط مملكة غرناطة -آخر معاقل الإسلام في الأندلس- عام 1492م. المسلمون الذين خسروا دولتهم الأخيرة، عانوا الأمرين على يد القوات الإسبانية المنتصرة، ووجدوا أنفسهم محاصرين بالقيود التي فرضتها عليهم محاكم التفتيش، تلك التي عملت على تحويلهم إلى المسيحية بشتى السبل، ما دفع بكثيرين من البقية الباقية منهم إلى مغادرة شبه الجزيرة والهجرة إلى غيرها من البلدان الإسلامية.

ويذكر محمد عبد الله عنان، في كتابه سابق الذكر، أن ما يقترب من 300 ألف من المسلمين الأندلسيين -الذين عرفوا باسم المورسكيين- واليهود هاجروا إلى بلاد المغرب والجزائر وتونس وبلاد الشام ومصر والدولة العثمانية.

أسفرت تلك الهجرات الضخمة عن مجموعة من النتائج المهمة، منها تأسيس بعض المدن الأندلسية في بلاد المغرب، مثل مدينة تطوان التي أسسها سيدي علي المنظري الغرناطي، ومدينة شفشاون التي أسسها مولاي علي بن راشد لإيواء المسلمين المنكوبين القادمين من الأندلس، ومن تلك النتائج أيضاً دخول مئات الكلمات الإسبانية الأصل في اللهجات الجزائرية والمغربية والتونسية.

وعلى الصعيد السياسي، تسببت تلك الهجرات في نقل حروب الاسترداد الأندلسية إلى أرض المغرب، إذ عزم الإسبان على فرض سيطرتهم على الدول الإسلامية المجاورة لكونها أضحت صاحبة التهديد الأعظم عليهم في ذلك الوقت.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*