نورهان مصطفى:
أجابت دار الإفتاء المصرية أخيراً عن سؤال تردّد كثيراً هو "ما حكم بناء المقابر المتعددة الطوابق؟"، إذ لجأ مصريون كثيرون إلى بناء مقابر متعددة الطوابق، في ظل تفشي وباء كورونا الذي قد تنتُج عنه زيادة عدد المتوفين في الأسرة الواحدة، وأجازت دار الإفتاء تعدد الطوابق، لكن حرص الدار على حل هذا السؤال الروحي سريعاً للمسلمين، لم يمتد لمنح بعض السكينة لغيرهم. الأمر الذي يطرح سؤالاً عن أصحاب الديانات غير المُعترف بها في مصر، أين تذهب جُثثهم بعد الموت؟
نشرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تقريراً حديثاً عن مقابر "أحرار العقيدة" كاللادينيين والمؤمنين بديانات غير مُعترف بها في مصر، تحت عنوان "تجاهُل الموتى... أين ذهبت مقابر أحرار العقيدة؟"، يسترشد التقرير بمعلومات موثّقة عن أزمنة كانت توجد فيها لوائح وقوانين تُتيح وجود مقابر لغير المؤمنين بالديانات الرسميّة الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية).
من 1850 إلى 1954 استجابت الدولة بعد مفاوضات لمطالبات الفئات التي تنتمي إلى أديان وعقائد وطوائف غير الإسلام والمسيحية واليهودية، أو لا تنتمي لأي دين على الإطلاق، وخصصت لأفرادها جبانات تحت مسميات: الجبانات المدنية/ جبانات أحرار العقيدة/ جبانات أحرار الفكر/ جبانات لأفراد الطوائف التي تدين بغير الأديان المعترف بها في مصر.
وتشير الشهادات إلى أنه منذ أوائل الستينات بدأ التراجع عن تخصيص هذه الجبانات للفئات التي كانت مخصصة لها، وباتت تخصص لأصحاب الديانات المعترف بها أو صارت تستخدم في أغراض أخرى.
مقابر اللادينين وفقاً للوائح والقوانين
قبل 1966، كانت قرارات تخصيص الجبانات تصدر بمراسيم ملكية أو قرارات جمهورية. ومع حلول 1966، صدر قانون بشأن الجبانات، إذ تتولى مجالس المدن والمجالس القروية شؤون المرافق العامة، من بينها إنشاء الجبانات وصيانتها أو إلغاؤها، طبقاً للأوضاع المعمول بها، ويُعتبر المجلس المحلي هو الجهة المنوط بها تحديد مساحة كل طائفة دينية.
كما أتاح القانون الرقم 5 لسنة 1966 حرق جثث الموتى من غير المسلمين في الأفران المرخص بها، وذلك وفقاً للشروط المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية، ولا يجوز الترخيص بالحرق إلا إذا كان المتوفي قد أعلن رغبته في حرق جثمانه أو كانت ديانته تُجيز ذلك.
بشأن مقابر أتباع الأديان والعقائد والطوائف غير المعترف بها في مصر، قال مصدر من مجتمع الشيعة المصريين في تقرير المبادرة، إن الشيعة المصريين يُدفنون في مقابر المسلمين، لكن عملية الدفن ليست سهلة، لأنهم يواجهون أحياناً اعتراضات من أبناء التيار السلفي، الذين يصنّفون الشيعة بأنهم "غير مسلمين". وتمنع العقيدة المستقرة دفن غير المسلمين في أرض مخصصة لدفن المسلمين.
في حين قال مصدر من مجتمع الأحمديين في مصر إنه لا توجد مدافن خاصة للأحمديين، فهم يدفنون في مقابر المسلمين أيضاً، ويواجهون اعتراضات السلفيين كذلك، خصوصاً أن دار الإفتاء المصرية أصدرت فتوى في 2017 مفادها أن الأحمدية "ليست لها علاقة بالإسلام ولا تنتمي إليه، وإنما هي ديانة مستقلة".
أمّا طائفة شهود يهوه - طائفة مسيحية لا تعترف بها الدولة-، فأكد أحد أعضائها، وفقاً للتقرير الحقوقي، أنه لا توجد مقابر مخصصة لهم، وأنهم يدفنون موتاهم في المقابر المخصصة للطوائف المسيحية.
"يُمكنك حرق جثتك"
فيما يواجه الأحمدية والشيعة وشهود يهوه صعوبات في دفن الجثث في مقابر المسلمين أو المسيحيين، نشرت الجريدة الرسمية قراراً جمهورياً، في 6 يناير/ كانون الثاني 1964، قضى بتأجير أرض في منطقة البساتين بالقاهرة إلى السفارة الهندية كي تستخدمها في حرق جثث موتى الهندوس.
رغم صدور القرار رسمياً، قال المسؤول القنصلي المساعد بالسفارة الهندية في القاهرة إن السفارة لا تملك أي فكرة عن أرض البساتين التي تم تأجيرها لهم، وفي الغالب لم يُنفذ القرار، إذ تُشحن جثث 99% من موتى الهنود من الهندوس إلى الهند، عبر طائرات مخصصة لذلك، وهذا مكلف مادياً بشكل كبير.
من "مقابر أحرار الفكر" إلى "مقابر جمعية التوفيق والثبات القبطية"
أثناء رحلة البحث عن مقابر اللادينيين وأصحاب الديانات غير المعترف بها في مصر، اتضح للباحثة جوهرة مدكور التي أعدت التقرير أن القرارات الرسمية يتم إلغاؤها في كثير من الأحيان، فبعد صدور قرار سنة 1964 بتأجير قطعة أرض للسفارة الهندية، كي تحرق جثث موتى الهندوس فيها، صدر قرار في السنة التالية بنقل الأرض المخصصة وأراضٍ أخرى تم تخصيصها للبهائيين واليهود إلى موقع آخر- لم يٰذكر- واستغلال الأراضي للعمران السكني والصناعي.
على أطراف الأسكندرية، تحديداً في شارع أنوبيس، مقابر لأحرار الفكر وسط الجبانات القبطية التي تديرها جمعية التوفيق والثبات باسم "مقبرة أحرار الفكر"، بينما يعرفها بعض حراس المقابر القدامى بـ"المقابر المدنية"، إذ تضُم قبوراً لغير المنتمين لطوائف دينية، بالإضافة إلى أفراد من طوائف دينية لم تحظ بالاعتراف الرسمي، وفقاً لتقرير المبادرة.
تقول الإيطالية فيرا بينيا في كتابها "سيرة ذاتية للقرن العشرين: قصة امرأة ارتحلت عبر التاريخ" إن تاريخ مقبرة "أحرار الفكر" يرجع إلى منتصف القرن التاسع عشر، إذ كانت الحكومة المصرية تمنح كلاً من المجموعات الدينية قطعة أرض تُستخدم كمدفن، وكانت حينذاك الأسكندرية مدينة كوزموبوليتانية. تلك المقابر كانت تضم مقابر إسلامية، وكاثوليكية، ويهودية وغيرها.
ولأنّ الأسكندرية كانت تفتح أحضانها للجميع، وجد الأفراد الذين لا ينتمون لدين بعينه متسعاً أيضاً، لكن حين يموت أحدهم لا يجد مقبرة لجثته، لذا تشكلت لجنة في 1850 ضمت ممثلي جنسيات متعددة، وطلبوا من المسؤولين تخصيص قطعة أرض صغيرة لدفن الملحدين.
حينذاك لم يكن الإلحاد مفهوماً متداولاً في الدول الإسلامية، لذا ظلّ طلب المجموعة حبيس الأدراج، لكن في النهاية تمت الموافقة وسُمّيت المقبرة بـ"المقبرة المدنية"، مع حظر أي شكل من أشكال المراسم أو الرموز الدينية.
وشهدت المقابر المدنية تغيّرات عديدة، وفقاً لما ذُكر في تقرير المبادرة، إذ بدأت في الانهيار عقب الحرب العالمية الثانية، لكن سرعان ما سعت مجموعة "أحرار الفكر" الإيطاليين إلى إعادة الحال لما كانت عليه، وتم تعيين حارس ثم زادت أعداد مقابر المدنيين.
ومع حلول ثورة 1952، خرج عدد من الأوروبيين من مصر وعادوا إلى بلادهم. وقتذاك أُغلقت المقابر المدنية أبوابها جزئياً حتى أواخر السبعينيات، ثم بدأت الإسكندرية تعجّ بالسكان يوماً بعد يوم، لذا قرر محافظها إعادة فتح المقابر المدنية، وتخصيصها للموتى المسيحيين.
لا متّسع لأحرار العقيدة في القاهرة
تُعرف القاهرة بأنها العاصمة، لذا من المتوقع أن يجد أحرار العقيدة وأصحاب الأديان غير المعترف بها متسعاً للعيش والموت أيضاً. يقول المؤرخ أنتوني جورمان في كتابه "التسعينيات الطويلة من القرن التاسع عشر في مصر" إن إنشاء المقابر المدنية في القاهرة يعود إلى 1890 بعد إنشائها في الأسكندرية والزقازيق.
كان وراء قرار إنشاء المقابر المدنية في القاهرة الرابطة الإيطالية لنشر اللغة، مدعوماً من مجموعة "أحرار الفكر" ومجتمع الأناركيين، واحتضنت المقابر غير المؤمنين والعلمانيين وأحرار الفكر والماسونيين والأناركيين من دون تدخل أو معارضة من أي سلطة دينية، وفقاً لشهادة جورمان.
كذلك هنالك جبانات مدنية داخل مقابر الكومنولث بمصر القديمة، وهي مخصصّة لدفن موتى جنود الحربين العالميتين الأولى والثانية، إذ قال أحد حراس المقابر إنها تعود إلى هام 1907. وفقاً لتقرير المبادرة.
هنا يرقد رفات "ميرزا أبو الفضل"
استعان تقرير المبادرة بمقتطفات من كتاب "القرن البديع: مائة عام من تاريخ الديانة البهائية"، للكاتب شوقي أفندي (حفيد بهاء الله)، الذي يحكي فيه قصة بداية تخصيص جبانات للبهائيين في مصر، إذ صدرت فتوى بتخصيص مقابر للبهائيين سنة 1939، بموجب قرار من وزير العدل، بعد أحداث شغب قام بها البهائيون في بورسعيد والإسماعيلية لدفن أفراد الجماعة البهائية، فتم بعدها تخصيص مقابر لهم في القاهرة والأسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية.
يُذكر أن رفات ميرزا أبي الفضل الطهراني كان أول جثمان يدفن في المدفن المخصص للبهائيين.
وتوجد مقابر البهائيين في البساتين، وهو المدفن الوحيد لهم الآن في مصر، إذ تُنقل جثامينهم من أي مدينة في مصر ليتم دفنها في القاهرة، لذا يتكبّد البهائيون الكثير من المشقة، كما أن الديانة البهائية لا تُجيز نقل الجثث مسافة تستغرق أكثر من ساعتين لدفنها في أماكن أخرى، وفقاً لحديث مصدر من مجتمع البهائيين، وثّقه تقرير المبادرة.
بعيداً عن مشقة السفر والمسافات، لا يتمكن كل البهائيين من الدفن في هذه الجبانة، لأن أوراق الكثيرين منهم مدونة فيها ديانة أخرى "مسلم" أو "مسيحي"، ولا يمكن دفنهم إلا بوصية من هذين الدينين.
في أعوام 1944 و1949 و1954، تم تخصيص جبانات لأفراد الطوائف التي تدين بغير الأديان المعترف بها في مصر، داخل الإسماعيلية وبورسعيد والسويس، لكنها لم تعد متاحة الآن. ففي بورسعيد مثلاً، تغيّرت الجبانة وتم استخدامها لأغراض أخرى منذ أوائل السبعينيات، إلى أن أصبحت الآن منتجعاً سياحياً.
وفي السويس، قال الأهالي إن الجبانة التي كانت مخصصة لأصحاب الأديان غير المعترف بها ضُمّت إلى أراضي دير رئيس الملائكة ميخائيل.
رصيف 22