الإصلاح الديني.. قناع أم اقتناع؟ - مقالات
أحدث المقالات

الإصلاح الديني.. قناع أم اقتناع؟

الإصلاح الديني.. قناع أم اقتناع؟

محمد المحمود:

 

يقول روبرت غرين: "لا تستهن أبدا بميل الناس للاستقرار والمحافظة على ما اعتادوا عليه، فذلك شعور مسيطر وعميق" (قواعد السطوة، ص581). وبلا شك، فهذا الميل للاستقرار والمحافظة والاتباع هو ما يصنع المماثلة التي تصنع الألفة، وتنفي الوحشة والغرابة؛ فتكون هي أهم ما يسهم في صناعة الاجتماع الإنساني الذي ينهض على قاعدتين من "المماثلة" و"الامتثال" بوصفهما عنصرين أساسيين؛ لا في مسار تكوينه فحسب، وإنما أيضا في مسار تطوّره الخاص.

الإنسان كائن تقليدي بامتياز. هو كذلك خِلْقةً/ طبعًا، وسيبقى كذلك؛ ما لم يطرأ عليه طارئ نادر/ استثنائي من تمرّد العقل الجموح الممسوس بشيء من "خيال". ومن هنا، ليس غريبا أن تكون ظاهرة "عبادة الأسلاف" ظاهرة إنسانية عامة، رافقت تطور الاجتماع الإنساني منذ بداياته الأولى، وإلى اليوم، حتى وإن كانت تتّخذ ـ في بعض الأحوال وبعض المسارات التاريخية ـ تنويعا على أصل "العبادة"؛ فيما لا يُخْرِجها عن حقيقة التقليد/ الاتباع لـ"سَلَفٍ ما"، الذي يعني منح الأموات "حق التفكير" للأحياء، بل وحق احتكار التفكير دون الأحياء في كثير من الأحيان.

الدين، أي دين، ومن حيث هو دين، لا يخرج عن هذا السياق: سياق التقليد. الدين عُنصرُ ثَباتٍ، بل هو من أهم عناصر الثبات والرسوخ والاستدامة واليقين (ومن هنا كونه مصدر "طمأنينة" وسط رُعْب المُتغيّرات). بالدين، لا ينظر الإنسان بثقة إلى واقعه فحسب، بل ينظر كذلك إلى ماضيه وإلى مستقبله بقدر لا بأس به من الثقة والاطمئنان. وما ثقته بواقعه إلا تواصلا ـ مُسَبِّبا ـ لثقته بماضيه، بماضيه الذي منحه ـ في الوقت نفسه، وبدرجة أولى ـ ثقته بمستقبله القريب، و أيضا ـ وهو الأهم والأكثر فاعلية في راهنيته ـ منحه ثقته بمستقبله البعيد، الأبدي.

إذا كان الدين ثَباتا، ورسوخا، واستمرارية، فإن "الإصلاح الديني" يصبح صعبا ومُقلقا ومُسْتفِزا؛ من حيث هو زعزعة لهذا الاستقرار، وقطع لهذه الاستمرارية، وضرب للعنصر الخفي أو الجلي من إرادة "عبادة الأسلاف"، وهي الإرادة المحايثة لمسار تطوّر وعي الإنسان، كما هي محايثة لواقع الإنسان.

لكن، ليس "الإصلاح الديني" بالمطلق، هو الصعب والمقلق والمستفز. ما تنطبق عليه هذه الأحوال من رَدَّات الفعل هو الإصلاح الديني الحقيقي، أي الإصلاح الذي يُمارس نقدَ/ تفكيك التراث، ومِنْ ثَمَّ إعادة تركيبه بما يَتلاءم مع ضرورات المرحلة، بكل ما يسلتزمه ذلك من متغيرات جذرية تطال أهم أسسه المؤثرة في نظام الوعي. ما يعني أنه ـ وبالضرورة ـ إصلاح يختلف نوعيا ـ وليس كميا فحسب ـ عن ذلك الإصلاح المُدَّعى: إصلاح التجديد، الإصلاح الذي يقوم على استعادة صورة مُتَخَيَّلة عن مرحلة/ حالة مُتقدّمة في ماضٍ سحيق؛ بوصفها صحيح الدين. بتعبير أوضح، ليس هو البحث عن الجواهر المُخَبَّأة التي علاها غبارُ القرون المتطاولة، فيكون الإصلاح ـ حسب هذا الادعاء ـ مجرد نفض هذا الغبار عنها، وإعادة تلميعها، و وضعها في صدارة مقولات التجديد، بينما هي مجرد قَفْزٍ بهلواني على بضعة قرون؛ لِتقليدِ تراثِ قرونٍ أقدم

لهذا، كنت ـ ولا أزال ـ أقول: الإصلاح الديني في بلاد الإسلام لم يبدأ بعد، حتى خطواته الأولى لم ترَ النور إلا ومضات خاطفة. ولهذا أيضا أُصِرّ على أن كل دعوات الإصلاح والتجديد هي خُطَط تكتيكية للالتفاف على الإصلاح الديني الحقيقي؛ في مسار استراتيجية عامة تتعمّد "الحفاظ على تراث الأسلاف" أي الإبقاء على "نمط الوعي الديني التراثي"؛ كما كان في القرون الأولى. وبهذا يكون الإصلاح المزعوم قناعا؛ لا اقتناعا، الإصلاح هنا قناع في مرحلة عابرة؛ لإخفاء معالم الهوية التراثية التقليدية التي باتت اليوم مُحْرِجَة بمقولاتها الإقصائية والخرافية الصادمة لبديهيات "المعقول العلمي" ولبديهيات "حقوق الإنسان".

إلى اليوم، لا يوجد "إصلاح ديني" تتبنّاه مُؤسّسات أو جماعات فاعلة ومؤثرة. وما هو موجود، ليس أكثر من حالات فردية نادرة، مُشَتَّتة، وغير متسقة في الحدود الدينا للتوافق الإجماعي المتعاضد الذي يصنع حالة "إصلاح ديني". ولأنها نادرة، ومُشَتَّتة، وغير مُنْتَمِية لإطارٍ مُؤَسَّسَاتي، فإنها سرعان ما تذبل وتموت؛ بمجرد موت أصحابها، أو إحباطهم وتواريهم عن المشهد، أو كسر أقلامهم بطريقة ما. وهذا ما ينتج عنه في الضفة الأخرى: التقليدية/ الإصلاح التقليدي، مظهر انتصار يمنح أصحابه ـ ومن ورائهم جماهيرهم البائسة ـ وَهْمَ الثقة بمقولاتهم وبمؤسساتهم، وأن قانون "البقاء للأصلح" قانونٌ يحكم لصالحهم، من حيث هو ـ كما يتوهمون ـ ضمانة إلهية لحفظ الدين.

حتى تلك المحاولات "العقلانية" للإصلاح الديني الإسلامي نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لم تكن أكثر من "استعادة" أو "تَسَلُّفٍ" ما؛ على الرغم من ضرورتها في مرحلتها. يقول المفكر المصري/ جابر عصفور عن إصلاحيّة محمد عبده والأفغاني: "السلفية العقلانية التي استبدلت بنقل الحنابلة ونفورهم من العقل، اجتهادَ المعتزلة وإعلائهم من شأن العقل، ولكن من غير وضع العقل نفسه [يقصد: العقل الاعتزالي المُسْتَعَاد] موضوع المساءلة، أو النظر إلى إنجازات المعتزلة والفلاسفة بوصفها نقطة للابتداء الذي يمضي بعيدا عن مبدأ المماثلة أو منطق الاستعادة". ويُبَرِّر عصفور وصفَ هذه المحاولات بـ"السلفية العقلانية"، أنها ظلت نزعة تقيس على السلف من أهل العقل، لمواجهة أهل النقل (نحو ثقافة مغايرة، جابر عصفور، 35 و36ص)

ولعل ما يؤكد بؤس المطروح بوصفه "إصلاحا دينيا" على امتداد تاريخنا القريب أن هذه "السلفية العقلانية" (ومع المفارقة بكونها: سلفية وعقلانية؛ إذ هما ضدّان لا يجتمعان) على تواضعها، وعلى كونها تتوسل بالتراث، وتتمسّح بنوع من "عبادة الأسلاف"؛ إلا أنها ـ ولكونها أقل تقليدية/ أقل تَصنميّة ـ لم تستطع النمو ولا التمدد في وسط اجتماعي غارق في التقليد بكل مؤسساته التعليمية والإفتائية، وبكل جماعاته وأحزابه وتياراته المتأسلمة؛ حتى أصبح "الإصلاح" في مرحلة النصف الثاني من القرن العشرين لا يعني أكثر من تجريم إصلاحية محمد عبده؛ بوصفها انحرافا وزيغا وضلالا

لا بد من التأكيد على أن الإصلاح الديني ليس حالة ثابتة، قارَّة، بل حالة مُتَمَرْحِلة في التاريخ. فما كان "إصلاحا دينيا" في زمن ما، لا يبقى كذلك أبدا، بل يصبح ـ بعد تجاوز التاريخ لشرطه ـ تقليدية وجمودا، يصبح "سلفيّة" بكل ما في هذا المصطلح من انكفاء وإقصاء وجمود، يصبح موقفا يقع على التضاد من مسار التحقق التنويري الذي هو استجابة مستمرة لشرط التطور في مَسَاري: الوعي والواقع.  

إن ارتباط الإصلاح الديني بالتحوّل/ التغيّر، وفقا للتحوّل/ التغيّر في الاجتماع الإنساني (والإنسان الفرد مُتَضَمَّن فيه) هو ما تَنبَّه له المفكر الإيراني/ محمد مجتهد الشبستري، إذ يُؤكّد ـ بقدر ما يُظْهِر ويُجَليّ ـ اختلافَ إنسان اليوم عن إنسان الأمس (إنسان التراث/ إنسان الماضي)، ففي رأيه أن الإنسان الآن يعيش دائما في باطنه تعقيدات متزايدة، لأن العالم الخارجي يخضع دائما لأسئلة وعلامات استفهام، وتتعقّد الأمور في واقع الإنسان ويتعقّد الجو الذهني للإنسان تدريجيا.. وهذا الأمر لم يكن موجودا في حياة الإنسان التقليدية بسبب وجود الانسجام بين باطن الإنسان وخارجه وبسبب أن الواقع الخارجي يتمتع بالقوة والانسجام والثبات بحيث يكون الإنسان كالطفل في مهده هادئا مطمئنا، وهو مطمئن من حيث كون العالم بالنسبة له "معقولا"، يسير ـ على أساس القضاء والقدر ـ وِفْقَ نظام معين وقوانين صارمة (قراءة بشرية للدين، ص 46ـ 48)  

والشبستري يلمح هذا القلقَ الإنساني المرتبط بقلق الواقع الناتج عن متغيراته المتسارعة التي تسابق وعي الإنسان التقليدي، ويرى أن الإنسان في عصرنا/ عصر الحداثة يعيش الاختيار/ الانتخاب في كل مجال. وبالتالي "ليس أمامه طريق سوى أن يتحرك من موقع الانتخاب لا من موقع التبعية" (قراءة بشرية للدين، ص51). لكن، هذا الواقع القَلِق، وهذا الإنسان الذي يعيش القلقَ من زاوية حريته المُتَنامِية في فضاء الاختيار المتسع باستمرار، يصطدم بـ"جمودية التديّن التقليدي" التي تحدّ من الخيارات، حتى إنها تتجاوز ـ بالتعمية والتجاهل قبل المنع ـ ما هو متاح في الواقع من خيارات.  

هذا ـ في تصور الشبستري ـ ما يُسَبِّب مأزقا للوعي، لوعي الإنسان المسلم المعاصر، الذي يجنح إلى الخيار الديني في مرحلة العودة إلى الأديان؛ فيما الخيار الديني (الخيار الرسمي، المؤسساتي، الخيار المهيمن) المتاح له ينتمي ـ بِكُليّته ـ إلى عصر آخر مغاير تماما لعصره، مغاير ـ وبصورة أكثر تأزميّة ـ لما عليه إنسان هذا العصر وَعْيًا و واقعًا. وهذا هو السبب الذي جعله يُقرِّر منذ البداية أن "القراءة الرسمية الفقهية والحكومية للدين الإسلامي في إيران تُواجه مأزقا خطيرا" (قراءة بشرية للدين ص36)

إن كثرة الإشكاليات والتأزمات التي يُفْرِزُها اشتغالُ الدين على الواقع جعلت كثيرين يَرْبِطون رَبْطا آليًا بين كل صور التأزم والاستشكال وبين الدين. بينما المشكلة ليست في الدين ولا في التديّن مُجَرَّدَين، وإنما في الدين المتاح ونمط التدين السائد (الذي لم يمر بـ"حالة إصلاح" بعد). وللأسف، نمط التّديّن السائد في أكبر تُرَاثين إسلاميين (التراث السني والتراث الشيعي) ليس فقط تُرَاثا ماضويا مُغْرِقا في ماضويته فحسب، إنما هو تراث استقر وثبت على أسوأ ما في التراث، أي على أعلى مرحلة في مسار التزمت والإقصاء والجمود النصي ونفي العقل من دائرة الاهتمام، فضلا عن نفيه من دائرة التفعيل.    

يرصد المرحوم/ جورج طرابيشي في كتابه العميق (من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث) مسيرةَ عقلٍ إسلامي تقليدي منذ البداية. وكونه تقليديا/ نصيا منذ البداية ليس أساس المشكلة، المشكلة أنه كان يتحوّل ـ بمرور الزمن ـ إلى عقل أشد تقليدية وانغلاقا ونَصيَّة، بدل أن يتحول ـ بحكم التطور الزمني ـ إلى عقل أكثر انفتاحا وأقل نَصيَّة. فالإمام مالك ـ كما يرى ـ كان نموذجا "لعقل نصي، أي لعقل لم يفقد بعد كل مرونته الجدلية ولم يتأدَّ به انتماؤه إلى مرجعيته النصية إلى التنكر، كل التنكر، لثقل الواقع(ص111). بينما تلميذ مالك: الشافعي، سيكون أكثر من شيخه نصيّة وانغلاقا، وتلميذ الشافعي: ابن حنبل سيكون أكثر من شيخه نصية وانغلاقا، ومعهما سيأخذ العقل الإسلامي أشد صوره الانغلاقية على الإطلاق

اليوم، ومع كل التحولات الجذرية في واقع المسلمين على امتداد قرنين، لا يزال تراث عصر مالك والشافعي وابن حنبل (وبالتوفر على نسخته الأخيرة الأكثر نصيّة/ الأثرية)، هو التراث المعتمد في المؤسسات التعليمية والإفتائية على امتداد العالم الإسلامي. وكل محاولات الإصلاح تأتي من خلال هؤلاء، من خلال التشرعن بتراثهم، وليس من خلال تفكيك أصولهم ومساءلة مُنْطَلقاتهم، والانقلاب على منطقهم الاستدلالي؛ لحساب أصول جديدة، ومنطلقات عصرية، ومنطق استدلالي صادر عن رَاهنية تاريخية مشروطة بظروفها، وأهم ظروفها: مستقبلها المنشود المشروط بالمجتمع الإنساني

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث