لماذا تسببت الحملة الفرنسية فى صدمة حضارية للمصريين؟ علامَ ارتكزت نهضة محمد على لتحديث مصر؟ ما دور رشيد رضا فى تسلل الوهابية إلى مصر؟
نضال ممدوح
إبان القرن الحادي عشر، وصف عالم الاجتماع ابن خلدون مصر بأنها حاضرة الدنيا وبستان العالم.
يومئذ كانت القاهرة قبلَة الفكر الإسلامي فى المشرق والمغرب، ولبلاطها الشهرة الواسعة في حماية العلوم والآداب.
وهي القاهرة نفسها التى ستصاب بالذعر والهَلَع تحت قصف مدافع الحملة الفرنسية وبارودها، ويصرخ قاطنوها كما ورد في تاريخ الجبرتي: «يا خفي الألطاف نجِّنا مما نخاف».
الصدمة الحضارية التي نتجت عن لقاء الشرق الغارق في غيبيّاته وعلومه الجامدة التي اقتصرت على النقل، بالغرب الذي بدأ يجني ثمار عصر التنوير بقضائه على تدخل الكنيسة في الشؤون العامة، سواءً في السياسة والحكم أو المجال العام للمجتمعات الغربية.
وكان اختراع آلة الطباعة على يد جوتنبرج ثورة فارقة في تاريخ الغرب، لا تقل عن ثورته الصناعية، واكتشاف المحركات البخارية، وبينما يبدأ الازدهار الحضاري المعرفي الغربي نجد حضارة الشرق تتجه نحو الأُفول، ويعد تقلُّد محمد على حكم مصر بداية لمشروع التحديث الذي نهض به محمد علي خلال ما يزيد على أربعين عامًا من الحكم، كان أبرز ما فيه اهتمام محمد علي بالتعليم كأساس نهضَوي، فأرسل البعثات التعليمية إلى أوروبا، وما ترتب عليها من تأسيس النهضة الفكرية التى شهدتها مصر نهاية القرن التاسع عشر وحتى الأربعينيات من القرن العشرين، وظهور جيل التنويريين؛ أمثال رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، والشيخ علي عبد الرازق، ولطفي السيد، وطه حسين، والشيخ محمد عبده، الذى تزامن اعتزاله العمل السياسي مع تفرغه للإصلاح الديني والفكري، داعيًا إلى الاجتهاد، وهو ما استعدى عليه رجال الأزهر بأفكارهم الجامدة النقلية.
انتقد الإمام محمد عبده الأفكار الوهابية المتزمّتة التي كان قد دشنها محمد بن عبد الوهاب فى الجزيرة العربية، وبدأت أصداؤها تتردد في العالم الإسلامي.
وضع الإمام محمد عبده أصولا تخالف الوهابية، على رأسها قيام الإيمان على العقل، وتقديم العقل على ظاهر الشرْع عند التعارض بينهما، وهدْم السلطة والدولة الدينية، فليس فى الإسلام سلطة دينية وإنما دولة مدنية، ولم يجعل الإسلام لأي فرد أو جماعة سلطة على العقائد وتقرير الأحكام والابتعاد عن التفكير.
مع رحيل الإمام محمد عبده، خلفه تلميذه محمد رشيد رضا، الذى خان مسيرة شيخه الإصلاحية بما يحمله من أفكار سلفية شديدة الكُره تجاه المسيحيين، تحالف مع آل سعود الذين علا شأنهم ونفوذهم داخل الجزيرة العربية بعد ضمهم لنجد والحجاز، وعن طريق رشيد رضا تسلل الفقه البدوي الوهابي إلى مصر، عبر الجمعية الشرعية ومساجدها التى انتشرت فى مصر، وهي أضخم جمعية فى مصر وتسيطر على أكثر من ألفي مسجد وآلاف الأئمة والوُعاظ وملايين الأتباع، كانت ولا تزال الاحتياطي الاستراتيجي لجماعة الإخوان، جمعية أنصار السُّنة، وأسسها أحد الأزهريين عام ١٩٢٧، ويُدعى حامد الفقي، كما أنشأ له عبد العزيز آل سعود منزلا فى حي عابدين اتخذه مقرًّا للدعوة الوهابية، وتخصصت هذه الجمعية فى نشر الفكر الوهابي ومؤلفات ابن تيمية وابن القيم، كما أصدر مجلة «الهدي النبوي»، ولا تزال تصدر حتى اليوم.
جمعية الشبان المسلمين أنشأها محب الدين الخطيب، رفيق رشيد رضا فى الدعوة السلفية، وكان حسن البنا من أبرز أعضائها، وعلى غرارها كوَّن جماعة الإخوان، وفى مذكراته يشير محمد حسين هيكل إلى معرفته بحسن البنا خلال موسم الحج، وكيف أن البنا كان وثيق الصلة بالسعودية؟ وتلقيه من آل سعود معونات استطاع بها إنشاء خمسين ألف شعبة للإخوان من الإسكندرية إلى أسوان، وخارج نطاق هذه الجمعيات أسس رشيد رضا مدرسة «الدعوة والإرشاد» لتخريج الدعاة، كما كانت مجلته «المنار» ذائعة الصيت متخصصة فى الدعوة الوهابية ونشر الفكر السلفي المتشدد، وعن طريق مطبعة المنار، نشر الكثير من مؤلفات ابن حنبل وابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب.
انتقل المنهج الوهابي إلى مصر من خلال سيطرة الإخوان والسلفيين على الأزهر ومناهجه الدينية، ومنه إلى العالم العربي والإسلامي، حيث ظهر أبو الأعلى المودودي في باكستان ونادَى بإحياء الجهاد واللجوء إلى العنف المسلح من أجل تحقيق الغايات، ووضع نظامًا سياسيًّا بتحريف كامل للآية «إن الحكم إلا لله»، فالمفسرون القدماء أشاروا إلى أن هذه الآية إنما أنزلت للتعبير عن عجز الأوثان التي كان المشركون يعبدونها إلى جانب الله، بينما المودودي فسَّر كلمة «حكم» بمعنى السلطان والإمارة، وبهذا التحريف التفسيري نقل المودودي بنسبته السلطان إلى الله مجمل الحقل السياسي إلى الحيز الإلهي، ليخوض الحرب على جميع الأنظمة السياسية، انطلاقًا من هذا التسويغ القرآني، فلا شرعية إلا بالله، وهي الفكرة التى التقطها تلميذه سيد قطب، وصكّ مصطلح «الحاكمية»، وقصرها على الله وحده، وأنكر أشكال الحكم والسلطات الزمنية.
تصاعد المد الديني فى عقد السبعينيات، حيث استعان السادات بالتيارات اليمينية المتأسلمة لمواجهة والقضاء على التيار اليساري والناصري، وقد ولّدت إعادة الشرعية إلى الأصولية المترافقة مع ازدياد مريديها وضعًا متفجرًا، ففي الوقت الذى أعلن فيه السادات أنه رئيس مؤمن لدولة العلم والإيمان كان يتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية ويعقد الصلح مع إسرائيل، وبرزت على الظواهر الأصولية على سطح المجتمع المصري ظواهر تدين شكلي زائفة، اتخذت شعارات دينية مخادعة ومنها ظاهرة البنوك الإسلامية وشركات توظيف الأموال وفق الشريعة التي تحظر تقاضي الفوائد على أنها فوائد ربوية، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون بنك فيصل الإسلامي أول البنوك السعودية فى مصر، وفات على من جروا وراء موضة توظيف الأموال أو البنوك الإسلامية أن ثروات الوهابيين الهائلة من البترول تستثمر ويضارب بها فى المراكز والبورصات المالية العالمية إلا إذا أفتى أحد بأن تلك المراكز قد غيرت قوانينها المالية حسب الشريعة الإسلامية!
انتقلت الأصولية الوهابية من القول إلى الفعل، فخطفت الجماعة الإسلامية الشيخ الذهبى وقتلته، وحاول الفلسطيني صالح سرية، اقتحام الفنية العسكرية، وقد انتقل سرية من الأردن للعراق ومن بغداد مطرودًا إلى القاهرة، حيث اتصل بقيادات الإخوان، خصوصًا حسن الهضيبي وزينب الغزالي وسعيد رمضان، مؤسس التنظيم الدولى للإخوان وزوج ابنة حسن البنا، وشكل سرية حزب التحرير الإسلامي الذى أعلن أن استعادة الخلافة الإسلامية هي هدفه الأسمى، وظهرت جماعة التكفير والهجرة بقيادة شكري مصطفى، تلميذ صالح سرية، ونفذت عدة عمليات إرهابية، وجاء اغتيال السادات في حادثة المنصة ذروة المد الوهابي وأفكاره التكفيرية المتشددة، وشيئًا فشيئًا طمست معالم الحداثة والتنوير التى كانت قد بزغت أوائل القرن العشرين مقابل تغوُّل معالم البداوة القاحلة، سواءً فى الزي المسمى بالإسلامي للرجال من جلاليب بيضاء قصيرة، وإطلاق لحي وزبيبة الصلاة التي تقتصر على المصريين أو فرض الحجاب على النساء مع صعود نجوم التأسلم وتلميعهم إعلاميًّا من أول الشعراوي ومصطفى محمود وليس انتهاءً بياسر برهامي ومحمد حسان، حيث يتم تربية المجتمع عبر المواعظ وتوجيه الفضائيات التي ستأخذنا إلى الجنة فى ظل تغييب كامل للعقل النقدي.
ولا يمكن إغفال دور الدولة وتواطئها مع الأصوليين حينما منحت الأزهر صلاحيات الحكومة الروحية في المجتمع شريطة تحجيم الإسلام السياسي الذي تغلب على الأزهر نفسه وصبغه بالصبغة الوهابية، حتى صار مفرخة للأفكار التكفيرية المتشددة والتي تنتقل عبر دول العالم الإسلامي كله من خلال الطلاب الذين يقصدونه لتلقي العلم، حتى لم يعد هناك جماعة إرهابية تخلو من أكثر من عضو من أعضائها كان قد تلقى تعليمه فى الأزهر وتأثر بمناهجه الظلامية، سواءً تنظيم القاعدة وبوكو حرام أو جبهة النصرة وإمارة سيناء.