محمد يسري
في العاشر من شهر محرم من سنة 61 هـ، سقط الحسين بن علي مخضباً بدمائه على أرض العراق، ليشهد التاريخ الإسلامي فشل أول ثورة يقوم بها أبناء علي بن أبي طالب، بهدف الوصول إلى السلطة والحكم.
العلويون الذين رفعوا شعارات العدالة والحق اعتادوا أن يكونوا عنصراً دائم الحضور على مسرح السياسة في الإسلام، من خلال ثوراتهم المتصلة على السلطتين الأموية والعباسية، والتي شكّلت معلماً مهماً من معالم التاريخ الإسلامي في القرون الأولى على وجه الخصوص.
كربلاء... ملحمة الشيعة الخالدة
عقب مقتل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، قام أهل العراق باختيار ابنه الحسن لتولي منصب الخلافة، واستمر الحسن في هذا المنصب لمدة ستة أشهر فحسب، رضخ بعدها للضغوط المتزايدة التي مارسها عليه والي الشام معاوية بن أبي سفيان، فقام في نهاية الأمر بتسليم منصب الخلافة إليه عام 41 هـ.
بعد وفاة الحسن عام 50 هـ (670 م)، تصدّر أخوه الحسين بن علي المشهد السياسي بوصفه قائداً روحياً للمعسكر العلوي المعارض، ولكنه بقي محافظاً على شروط الصلح مع معاوية، ومما يؤكد ذلك ما أورده أبو حنيفة الدينوري في كتابه الأخبار الطوال عن أن الحسين أرسل إلى معاوية بعد وفاة الحسن قائلاً: "ما أريد حربك، ولا الخلاف عليك".
لكن بعد وفاة الخليفة الأموي الأول عام 60 هـ (680 م) واعتلاء ابنه يزيد كرسي السلطة، سادت روح التذمر والسخط في المعسكر العلوي، نظراً لما عُرف عن يزيد من طباع سيئة ومن شخصية بعيدة عن قيم الإسلام ومبادئه، بالإضافة إلى أن الصلح الذي عُقد بين الحسن ومعاوية كان قد نص على أن يُترك أمر الخلافة شورى بين المسلمين بعد وفاة الأخير، حسبما يذكر الطبري في تاريخه.
تطوّرت الأحداث بسرعة. بمجرد أن استدعى والي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان الحسين طالباً منه مبايعة يزيد، رفض الأخير وسارع بالخروج إلى مكة، وهناك وردته كتب من شيعته العراقيين يطلبون منه القدوم إليهم ويتعهدون له بالنصرة والحماية.
وكان من ضمن الرسائل التي أرسلوها إليه: "أما بعد، فقد اخضرت الجنان، وأينعت الثمار، فإن شئت فاقدم على جند لك مجندة"، بحسب ما ذكره اليعقوبي في تاريخه.
أرسل الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة للتثبت من الأمر، فلما رد عليه مسلم مطمئناً له، تحرك حفيد الرسول إلى العراق، في الوقت الذي كان فيه والي الكوفة عُبيد الله بن زياد قد تمكن من إخضاع تلك البلاد بشكل كامل للسلطة الأموية.
وفي كربلاء، وفي العاشر من محرم من عام 61 هـ، تقابل الحسين مع الجيش الأموي. وبحسب المصادر الشيعية، ومنها على سبيل المثال التتمة في تواريخ الأئمة لتاج الدين العاملي، فإن أنصار الحسين في المعركة لم يتعدوا 150 رجلاً، بينما اقترب عدد الأمويين من الثلاثين ألف رجل.
انتهت المعركة بوقوع مذبحة كبرى راح ضحيتها الحسين وأغلبية أقاربه وأنصاره، ولم يسلم منها سوى النساء والأطفال وعدد من الرجال المصابين.
شكّلت موقعة كربلاء أحد أهم الحوادث التي أثّرت بشكل هائل في التاريخ السياسي للإسلام، وفي تاريخ الشيعة على وجه الخصوص، إذ عززت فكرة المظلومية لديهم وأضحت مرتبطة في الذاكرة الشيعية بالعديد من المعجزات والقصص الخرافية.
زيد بن علي والزيدية الرافضون للاستكانة والخضوع
بعد كربلاء، استكان العلويون لفترة، حاولوا فيها أن يستوعبوا مصابهم الأليم الذي طالهم في أرض العراق، وكان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو الابن الوحيد للحسين الذي نجا من المذبحة، قد انتهج نهجاً جديداً يدعو إلى البعد عن السياسة وأمور السلطة والحكم، فاستقر بالمدينة المنورة وصرف جهده للعلم والتفقه في أمور الدين.
السياسة التي انتهجها علي زين العابدين اقتدى بها ابنه الأكبر محمد، وهو المعروف بالباقر، فتابع مسار أبيه في تأسيس مدرسة فقهية متميزة، اشتهرت أخبارها في العالم الإسلامي، بينما كان لأخيه الأصغر زيد رأي مخالف، وهو ذلك الذي يدعو إلى الثأر من الأمويين، واستعادة حق العلويين المغصوب، من خلال تأسيس دولة علوية قوية تتحقق فيها قيم العدالة والدين.
ويشهد على ذلك قول زيد نفسه: "ليس الإمام منا مَن جلس في بيته وأرخى ستره وثبط عن الجهاد، ولكن الإمام منا مَن منع حوزته وجاهد"، حسبما يذكر الكليني في كتابه "الكافي".
هذا الخلاف حول شكل وطبيعة المشاركة العلوية في السياسة نتج عنه ظهور خطين مختلفين من التشيع، الأول هو ذلك الذي يدعو إلى التقية والبعد عن معارضة الحكام، وهو خط الباقر وابنه جعفر الصادق، ومن بعدهما باقي الأئمة الاثناعشرية، وخط آخر يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتكام إلى السيف في مقارعة الحكام الظالمين، وهو الخط الذي كان زيد بن علي أول ممثليه، فعُرف واشتهر بالخط الزيدي.
بدأت دعوة زيد للثورة بعدما دخل في بعض المخاصمات والمشاحنات مع مجموعة من رجال الدولة الأموية. وفي شهر صفر من عام 122 هـ (740 م)، أعلن زيد الثورة على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وانضم له الكثيرون من أقربائه العلويين والهاشميين، وعدد من الفقهاء والعلماء المعروفين، كان أبو حنيفة النعمان واحداً منهم، كما أن العديد من الشيعة أسرعوا إلى بيعته، كما يصرح بذلك المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الفضة".
كان زيد قد اتخذ من الكوفة معقلاً له، بعدما أعلن أهلها مناصرته وتأييده، ولكن بعد فترة من مبايعتهم له، هدأ حماسهم وخبت جذوة نيران الغضب المشتعلة في صدورهم، فبدأوا في التفرق عنه شيئاً فشيئاً، كما أن حفيد الرسول فقد تأييد قسم كبير من الشيعة، بعدما أنكر عليهم قولهم في أبي بكر وعمر، وسماهم الرافضة، ما أدى إلى انصرافهم عنه، حسبما يذكر النبوبختي في كتابه "فرق الشيعة".
ولم يمرّ الكثير من الوقت حتى استطاع الأمويون أن يضيقوا الخناق على زيد، فقتلوه وصلبوه في منطقة تُعرف بكناسة الكوفة، وبقي جثمانه معلقاً فيها لفترة طويلة، بحسب ما يذكره أبو الفرج الأصفهاني في كتابه "مقاتل الطالبيين".
رغم فشل ثورة زيد بن علي، إلا أن أهميتها ترجع إلى سببين رئيسين: أولهما أنها دشنت لخط سياسي ثوري جديد، مشى العلويون على خطاه لفترة طويلة في ما بعد؛ أما السبب الثاني، فيتمثل في أن تلك الثورة أضعفت من قوة ونفوذ الدولة الأموية بشكل كبير، إلى الحد الذي سيغدو معه القضاء عليها ممكناً بعد أقل من عشر سنوات فحسب، بواسطة العباسيين.
محمد النفس الزكية... المهدي الذي بايعه العباسيون ثم قتلوه
تتحدث بعض المصادر التاريخية، ومنها المفيد في كتابه "الإرشاد إلى معرفة حجج الله على العباد"، عن أن اجتماعاً بين الهاشميين، بفرعيهما من العباسيين والعلويين، عُقد عام 127 هـ (744 م) في منطقة الأبواء، وكان هدفه ينحصر في ضرورة الاتفاق على واحد منهم ليقود البيت الهاشمي في صراعه ضد الأمويين.
تذكر تلك المصادر أن المجتمعين اتفقوا على محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب، المعروف بلقب النفس الزكية، وهي رواية لم تؤكدها كل المصادر التاريخية التي تناولت تلك الفترة.
وبحسب ما يذكره الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، عُرف النفس الزكية بالعبادة والتقوى والزهد، حتى أن أباه روّج بين أقاربه أنه هو المهدي المنتظر الذي بشرت به الأحاديث النبوية.
ولما ظهرت الدعوة العباسية، وتحوّلت إلى ثورة عارمة أطاحت بالأمويين، سارع كل من محمد بن عبد الله وأخيه إبراهيم للتخفي والهروب، لأنهما كانا يعرفان أن الخليفة العباسي الأول أبا العباس السفاح لن يهدأ إلا بعد أن يقتلهما، لكونه يخشى أن يقوما عليه، وهو ما تحقق فعلاً عندما قام السفاح بالبحث عنهما، وقبض على أبيهما واحتجزه، حتى توفي في محبسه.
وبحسب ما يذكره الطبري في تاريخه، ظهر النفس الزكية في المدينة المنورة عام 145 هـ (762 م)، ورفع راية الثورة ضد الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور، الذي كان قد تقلد الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح.
في الوقت نفسه تقريباً، كان إبراهيم بن عبد الله يدعو لأخيه في العراق، وكان عدد كبير من العلويين والشيعة قد انضموا إلى الأخوين، بالإضافة إلى مجموعة من الفقهاء البارزين، ومنهم أبو حنيفة النعمان الذي كان يشبّه محاربة النفس الزكية للعباسيين بقتال المسلمين للمشركين في يوم بدر، بحسب ما يذكره الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه "الأئمة الأربعة".
وجّه المنصور جيشاً ضخماً إلى المدينة المنورة بقيادة عيسى بن موسى، عم الخليفة، ولما عرف النفس الزكية بذلك، حفر مع أتباعه خندقاً كالخندق الذي حفره الرسول يوم غزوة الأحزاب، ولكن العباسيين استطاعوا أن يجتازوا ذلك الخندق، وتمكنوا من هزيمة العلويين، وقتلوا النفس الزكية في موضع يعرف باسم "أحجار الزيت" في رمضان من عام 145 هـ، حسبما يذكره ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ".
وبحسب ما يذكره ابن كثير في "البداية والنهاية"، لما عرف إبراهيم بوفاة أخيه في المدينة، دعا الناس لمبايعته، وحشد جيشاً من أتباعه، واتجه به نحو الحيرة لقتال المنصور نفسه، ولكن جيش عيسى بن موسى قابله في موضع يُعرف بـ"باخمرى"، بالقرب من الكوفة، حيث هُزمت القوات العلوية، وحُمل رأس إبراهيم بن عبد الله إلى المنصور، لتُكتب كلمة النهاية لتلك الثورة العلوية المهمة.
معركة "فخ"... هزيمة تسببت بتأسيس أول دولة علوية
تمكن العباسيون، بعد كسرهم شوكة العلويين في باخمري، من إحكام قبضتهم على الدولة الإسلامية، فتوارى الشيعة العلويون جانباً في محاولة منهم لإعادة تنظيم صفوفهم واستكمال قوتهم.
في عام 169 هـ (786 م)، حانت لحظة اندلاع الثورة العلوية من جديد، على يد زعيم علوي جديد، ينحدر من الفرع الحسني، وهو الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
يقول ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" واصفاً الحسين: "كان شجاعاً كريماً، قدم على المهدي فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرّقها في الناس ببغداد والكوفة، وخرج من الكوفة لا يملك ما يلبسه إلّا فرواً ليس تحته قميص".
ورغم أن النص السابق يدل على حسن معاملة الخليفة المهدي للحسين، إلا أن ذلك يتعارض مع السياسة العامة التي لجأ إليها ابنه موسى الهادي، في ما يخص التعامل مع العلويين، إذ يجمع المؤرخون على أن الهادي مارس ضغوطاً شتى ضد العلويين، وأنه كان يعمل بكل وسيلة ممكنة لظلمهم وسلبهم حقوقهم وأملاكهم.
أمام تلك التهديدات المباشرة، رفع الحسين بن علي راية الثورة في المدينة المنورة، واجتمع معه العلويون، خصوصاً بني عمومته سليمان وإدريس ويحيى أبناء عبد الله بن الحسن، الذين كانوا يطمحون للانتقام مما لحق بأخيهم محمد النفس الزكية في عهد أبي جعفر المنصور.
يذكر الأصفهاني في "مقاتل الطالبيين" أن الثوار، بعد أن سيطروا على المدينة، توجهوا إلى مكة أثناء موسم الحج، وفي طريقهم إليها، وبالتحديد في وادي فخ، لحق بهم الجيش العباسي الذي أرسله الهادي بقيادة موسى بن عيسى، ووقع الصدام بين الطرفين.
ورغم عدم توافر معلومات مؤكدة حول أعداد الطرفين، يبدو أن القوة العلوية كانت أقل بكثير من مثيلتها العباسية، وهو ما يتفق مع ما ذكره المؤرخون عن الانتصار السريع الذي أحرزه موسى بن عيسى، وما لحق به من مذابح موجعة للعلويين.
يتحدث ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" عن المذابح التي مورست ضد العلويين في فخ، فيقول: "بقي قتلاهم ثلاثة أيّام حتّى أكلتهم السباع، ولهذا يُقال: لم تكن مصيبة بعد كربلاء أشد وأفجع من فخّ".
أما الأصفهاني فيعبّر عن المهانة والاضطهاد المعنوي الذي مارسه العباسيون ضد الناجين من العلويين، فيقول: "لما قُتل أصحاب فخّ جلس موسى بن عيسى بالمدينة، وأمر الناس بالوقيعة على آل أبي طالب، فجعل الناس يوقعون عليهم حتّى لم يبقَ أحد".
وعلى الرغم من عظم خسارة العلويين في فخ، إلا أن الهزيمة كانت سبباً غير مباشر في تأسيس أول دولة علوية في التاريخ الإسلامي، ذلك أن كلاً من الأخوين إدريس ويحيى، أبناء عبد الله بن الحسن، استطاعا الفرار من المعركة، وبينما توجه يحيى إلى إيران، فإن إدريس قد توجه غرباً إلى المغرب، حيث استقر هناك وتمكن من عقد تحالف مع قبيلة أوروبة البربرية، لينجح بعدها في إقامة دولة الأدراسة، وهي الدولة التي ستظل قائمة لما يقرب من مئتي عام.
رصيف 22