أحمد بورزان:
عند النظر في التيارات الإسلامية الحركية، نجد أنّه مع حضور حركات سياسية إسلامية في تركيا والمغرب العربي موائمة لمؤسسات الدولة الحديثة، إلا أنّ الطروحات السياسية والفكرية وممارسات الإسلاميين المشرقيين كتيارات الإخوان والسلفية الجهادية ما زالت متأخرة عن الحداثة وجلبت بهذا التأخر الكثير من الأزمات على المنطقة.
يسود الآن بين منظّري أصوليي المشرق انتقاد مؤسسات الدولة الحديثة. وهو خطاب يبني جناحه الأكثر تعقيداً على انتقادات تيارات الماركسية واليمين المسيحي وما بعد الحداثة لمؤسسات الحداثة وقيمها من فردية وعلمنة ونموذج سياسي ليبرالي ديمقراطي ورأسمالية.
مع وجاهة الكثير من هذه الانتقادات، فإن الطريق نحو نظام سياسي أكثر عدالة وحرية ومتجاوز لأزمات الدولة الديمقراطية الليبرالية، من الصعب أن يمر معبّداً بخطاب سياسي وثقافي أحادي وذو قمعية مستترة بالخصوصية الثقافية وأزمات الحداثة.
وإذا وضعنا جانباً جناح منظري الأصولية الما بعد حداثيين -بضبابية بعضهم حول مسائل الحريات والتعددية-، فإنّ الحساسية النقدية للحداثة ما تلبث أن تتلاشى عندما نستعرض ما يقدّمه إسلاميو المودودي وسيّد قطب من تصورات فكرية بديلة لا تتعدّى ثمارها السياسية ثلاثة مسارات: دولة شاسعة الشمولية والإقصائية والتمييز، نزاعات أهلية على أساس الانتماءات الأيديولوجية والدينية، وتورط متهور في صراعات تدميرية مع القوى العالمية.
وحش الدولة
خطاب إسلاميي المشرق يدمج بين مؤسسات الدولة الحدثية، ببيروقراطيتها وسعة سلطانها على المجتمع وقدرتها على ضبط مختلف مجالات الحياة، وبين محتوى أيديولوجي عالي الإقصائية والأحادية والاستقطاب إلى درجة تدفعنا إلى البحث عن كائن مماثل في الهول والروع لوحش توماس هوبس لوصف سلطان الدولة الوليدة من التصور السياسي لأصوليي المشرق.
ولو صحّ هذا المزج بين مؤسسات الدولة الحديثة والمحتوى الأيديولوجي القمعي في الحضارة الإسلامية كما يتصوّر الأصوليون، لاستحال ازدهار علماء وفلاسفة كُفّروا واتُّهموا في دينهم كابن سينا والكندي والفارابي ولا وصلتنا مؤلفات وتأريخ لظواهر اجتماعية في القرون التأسيسية تندرج في المؤسسة الفقهية الرسمية تحت بنود الزندقة والمجون والفسق، ولا رأينا التنوع الشديد في الأفكار والممارسات الذي شهدته الحضارة الإسلامية. لا يعني هذا أنّ أحكام الشرع لم تُطبَّق إطلاقاً في تاريخ الحضارة الإسلامية في نطاق منطقتنا، وإنما المراد هنا الإشارة إلى عبثية وشناعة التوليفة الأصولية الراهنة بين مؤسسات الدولة الحديثة وفهم الأصوليين للدين.
"كانت التنظيمات الجهادية مدفوعة بالظنّ أنّه ما دام أنّها تمثل الإسلام فالنصر سيكون حليفها. ولكن مغامراتها الفاشلة جلبت آثاراً تدميرية عبثية سنراها في كلّ مكان ظهرت فيه، كما مدّت في عمر الأنظمة الاستبدادية التي بدت مع قمعيتها وفشلها، البديل الأكثر عقلانية"
يمكن فهم كارثية هذه التوليفة مع الدستور الذي وضعه الإخوان في مصر والذي شُكّل في ظروف إقصائية. ففي ذلك الدستور تمّ تعيين الأزهر كالمؤسسة المناط بها تفسير المصدر الرئيسي للتشريع في الدستور وهو مبادىء الشريعة الإسلامية، مع تعريف مبادىء الشريعة بأنها "تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة". فيكفي لفرض رؤية شديدة الضيق على ما يختاره الناس من زي وفكر وسياسة وثقافة تحت دعوى مخالفتها الشريعة، الاستعانة بالأزهر ومؤسسات حفظ القانون والقضاء الحديثة.
ولهذا سوابق فعلية تمثلت في استخدام الأصوليين لمؤسسات القضاء الحديثة كما فعلوا في مصر في "قضايا الحسبة" كقضية نصر حامد أبو زيد الذي فُرّق بينه وبين زوجته بموجب حكم قضائي بعد أن كُفر في قرار أزهري. ويندرج ضمن ذلك ما شهدناه ونشهده من أحكام قمعية من جلد ورجم في سودان عمر البشير وإندونيسيا وتضييق على الأقليات في إيران ومصر وباكستان، وفي أي مكان تقدّم فيه التيار الإحيائي الأصولي ويُطبّق ما يرى الإسلاميون بأنه حكم الدين.
لا ينتج عن خطاب الأصوليين إلا ممارسة سياسية عالية الاستقطاب والقمعية، بالإضافة إلى كونها وصفة لتفتيت المجتمعات. هذه هي النتيجة الطبيعية للاستدعاء الأصولي للإرث الفقهي في تنظيم حياة الناس في عصرنا، كبناء مواقف سياسية وقانونية على فتاوى تكفير العلويين والدروز والأحمديين وغيرهم من الطوائف، وما قد ينتج عن تطبيق ما أدرج في كتب الفقه من أحكام أهل الذمة من تمييز بمقاييس عصرنا. أضف إلى ذلك فتاوى مَن يُحسب على الاعتدال كيوسف القرضاوي في حكم المرتد خصوصاً عندما تقرن مع فتواه في تكفير العلمانيين، وكمحمّد الغزالي في موقفه من مقتل فرج فودة الذي انتقد فكر الأصولية الإسلامية.
"لا ينتج عن خطاب الأصوليين إلا ممارسة سياسية عالية الاستقطاب والقمعية، بالإضافة إلى كونها وصفة لتفتيت المجتمعات. هذه هي النتيجة الطبيعية لاستدعاء الإرث الفقهي في تنظيم حياة الناس في عصرنا"
هنا لا بد من التأكيد على المفارقة التاريخية التي يقع فيها الإسلاميون. فالقوانين المبنية على الأحكام الفقهية المتعلّقة بأهل الذمّة مثلاً كانت من طبائع الأمور في العصور الوسطى وما قبلها. بل يمكننا القول أنه لقرون عديدة، كانت الحرية الدينية وفرص الترقّي الاجتماعي لمَن كانت أديانهم مغايرة لحكامهم أرحب بكثير في الديار الإسلامية مقارنة بغيرها. المشكلة تكمن في سعي الأصوليين الحالي إلى الرجوع لقيم وأحكام تمييزية في عصرنا بحداثة شروطه المادية والمؤسساتية والقيمية ومع تطلع الناس إلى المزيد من الحرية والعدالة والمساواة.
صعود الجهادية
إلى جانب طروحات الدولة الشاسعة في درجات القمع والشمولية وممهدات الاحتراب الأهلي، كان من ثمار الفكر الأصولي الحركات الجهادية التي صعدت منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، ودمجت الفكر القطبي مع مذهب سلفي إقصائي، كالطليعة المقاتلة في سوريا وتنظيم الجهاد في مصر.
ودخلت هذه التنظيمات في معارك مع الأنظمة الاستبدادية لاستبدالها بنظام أصولي أشد استبداداً ورجعية. وكانت مدفوعة بالظنّ أنّه ما دام أنّها تمثل الإسلام فالنصر سيكون حليفها. وجلبت مغامراتها الفاشلة آثاراً تدميرية عبثية سنراها في كلّ مكان ظهرت فيه، كما مدّت في عمر الأنظمة الاستبدادية، التي بدت مع قمعيتها وفشلها، البديل الأكثر عقلانية.
"أنظمة الاستبداد في منطقتنا تتعيش على الرثاثة والكوارثية التي يتصف بها فكر وممارسات التيارات الأصولية. ولن تخطو منطقتنا أي خطوة إلى الأمام حتى يحجّم هذا التيار شعبياً عن تصدّر المعارضة الشعبية للاستبداد"
مع فشل التنظيمات الجهادية في زحزحة الأنظمة العربية جاءت المرحلة الثانية للفكر الجهادي التي عبّر عنه أسامة بن لادن بأنه استهداف رأس الأفعى الأمريكي لتحرير المنطقة من الأنظمة العربية العميلة. ومعه، دخلت المنطقة سلسلة مآسٍ أخرى إثر هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر وما تبعها من احتلال أفغانستان والعراق، ما غذّى المد الأصولي الجهادي وهجماته في لندن ومدريد وغيرها من الهجمات الإرهابية في الشرق الأوسط وخارجه.
آخر تجلّيات هذا الفكر جاءت مع الربيع العربي في تنظيمات داعش والنصرة وغيرها من الميليشات الإسلامية برؤاها الاستئصالية والعنفية ومعها تجدّدت في مناطقنا ظواهر بدائية في شناعتها كسبي النساء ومحاكم التفتيش للأقليات.
بفضل الفكر الأصولي المشرقي، لم نغادر بعد النقاشات الفكرية التي سادت منطقتنا في أوائل القرن العشرين. أصوليو المشرق تقع عليهم المسؤولية الكبرى في هذا الانحباس الفكري والسياسي. فأنظمة الاستبداد في منطقتنا تتعيش على الرثاثة والكوارثية التي يتصف بها فكر وممارسات التيارات الأصولية. ولن تخطو منطقتنا أي خطوة إلى الأمام حتى يحجّم هذا التيار شعبياً عن تصدّر المعارضة الشعبية للاستبداد، وحتى يكون للعقلانية وقيم الحرية والعدالة والمساواة دورٌ مركزيٌ في تنظيم العلاقة بين الإرث الفقهي والسياسة.
من المحزن للمتأمل في تاريخ المنطقة العريق بكل إنجازاته الحضارية أن كل ما استطاعت منطقتنا أن تقدّمه للعالم مؤخراً هو مزيج من ديكتاتوريات رديئة وحركات أصولية تبز الأنظمة الاستبدادية في رداءتها وقمعيتها.