عبير سليمان:
حين تستدعي الضرورة الحديث عن محاكم التفتيش القروسطية نرى الكثير من معاصرينا، بغض النظر عن مستواهم التعليمي، مثقفين وعامّة ، دينيين، سياسيين، وحتى أنصاف أميين، ينددون بالممارسات القمعية العنيفة التي ارتكبتها تلك المحاكم الدينية بحق الذين اختلفوا معها بالرأي والعقيدة.
ويتصرف معظم من نعرف بالشكل الذي يوحي بأنه منفتح على جميع الطروحات والاختلافات، يتقبل كل مغاير بصدر رحب ويحترم معتقد الآخر دون أن يشوب الأمر شائبة، إلا أن كل هذا الغلاف الزاهي المتحضر سرعان ما يسقط حين نقترب حقاً من قناعة مقدسة يُحظر الاقتراب منها، الاعتراض عليها أو سلوك نهج يعاكسها بالمنطق والأفكار.
فنجد محاكم التفتيش قد استيقظت مجدداً، أو لِنقل بُعثت إلى الحياة بنسخة إسلامية، وهذا ما بدا جلياً وبشراسة إثر وفاة الكاتبة الإشكالية نوال السعداوي، وكأنّ نقض محاكم التفتيش القروسطية كان يتم براحة تامة فيما يبدو، فقط لأنها تحكي عن زمن مضى وعن ديانة أخرى. لكن نوال السعداوي، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا على بعض النقاط، ليست أوّل "ملحدة وكافرة" تخترق حقل الألغام المحيط بثوابتنا ولن تكون الأخيرة.
العلماء العرب واتهامات الكفر والزندقة
إذا سُئلنا اليوم عن أشهر العرب القدماء في مجالات علوم الطب والكيمياء واللسانيات والفلسفة لخطرت في بال معظمنا أسماء بعينها: أبو بكر الرازي، ابن سينا، جابر بن حيان، ابن الهيثم، ابن المقفع، الفارابي، الكندي، ابن رشد.
وإذا سئلنا عن أشهر شعراء العرب القدامى لذكرنا هذه الأسماء أيضاً دون تردد: المتنبي، أبو العلاء المعري، قيس بن الملوح، جميل بثينة، بشار بن برد، الحلاج، ابن الرومي، والحطيئة... إلخ. لكن ثمة أمر خاص يجمع الأسماء المذكورة كلها، مع تباين مواهبها الإبداعية التاريخية، تحت بند واحد: لقد اتهموا جميعاً بالكفر والإلحاد والزندقة، وبعضهم دفع حياته ثمناً لفكره أو عقيدته أو شعره. إنها حقاً لمفارقة تاريخية ساخرة أن يكون أشهر وأهم علماء العرب وأطبائهم وشعرائهم ملحدين، أو على الأقل اتهموا بذلك!
بين الشرق والغرب، لطالما قُتل علماء بسبب اكتشافاتهم المتعارضة مع الرؤية الغيبية الموروثة للكون التي بنيت عليها العقائد الدينية، وفلاسفة بسبب توغلهم الخطر في مناجم الفكر والأخلاق والأدبيات الاجتماعية، وشعراء بسبب قصائد لهم تجاوزت الخطوط الحمراء التي رسمها حرّاس الأديان والأوصياء عليها وحاملو مفاتيح الجنة والنار دون وكالة ربّانية.
فالمتنبي، الأشهر على الإطلاق، ادعى النبوة وألّف ما يشبه الآيات القرآنية، ليس هذا فقط بل يؤخذ عليه تبرؤه من الإسلام حين مدح سيف الدولة قائلاً: "إن كان مثلك كان أو هو كائن/ فبرئت حينئذ من الإسلام"
وقال أيضاً ما يمس بفكرة التوحيد:
"يرتشفن من فمي رشفات هن أحلى من التوحيد".
بشار بن برد الذي أعدم بسبب "زندقته"، قال مفاضلاً إبليس على بني آدم:
إبليس أفضل من أبيكم آدم/ فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم من طينة/ والطين لا يسمو فوق النار.
ولباقي الشعراء أبيات شتى تهجو أركان الإسلام الأساسية، الأمر الذي برر لبني عصرهم تكفيرهم وتوجيه التهم إليهم.
أبو بكر الرازي الاستثنائي الذي وصفته زيغريد هونكه في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" بأنه أعظم طبيب في القرون الوسطى، أو أحد أعظم أطباء الإنسانية إطلاقاً قائلة عن كتابه: "كان هذا الأثر العلمي الضخم يضم كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام 925 بعد الميلاد وظل المرجع الأساسي في أوروبا لمدة تزيد على الأربعمائة سنة بعد ذلك دون أن يزاحمه مزاحم، ولقد اعترف الباريسيون بفضل صاحب هذا الكنز عليهم. إنه الرازي أو رازاس كما سمته بلاد الغرب".
لقد ألف الرازي أكثر من 200 كتاب ضخم في شتى المجالات، إلا أن كتبه الفكرية والفلسفية وحدها قد طالها التلف بشكل يدعو للشك والتساؤل، فلقد عرف عنه تناوله لقصص الأنبياء بمنهج العلم والتحليل والتشكيك، فاتهم بالإلحاد، وأَعتقد، وهذا رأي شخصي، أن الرازي قد سبق سبينوزا في طريقة تعريفه للألوهية.
فهو يرى الله في كل شيء، في الطبيعة وفي كل الأشياء، كما سبق في كثير من فرضياته علماء وفلاسفة أتوا بعده، مع ذلك لم ينجُ الرازي من تكفير ابن تيمية، لا هو ولا باقي العلماء الكبار، حيث برر الأخير أمر قتل بعضهم بوحشية بسبب الكفر والخروج عن الدين، فهو الذي قال معلّقاً على حادثة قتل الحلاج: "من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين"، إلى قوله: "فهو كافر مباح الدم وعلى هذا قتل الحلاج".
ومن المعروف أن التصوف عند الحلاج كان جهاداً لإعلاء الخير والحق ضد الظلم والطغيان الفردي والعام، وإن خروجه على السائد حينها جعل الحاقدين يلفقون عليه الأخبار والقصص حتى أمر الخليفة العباسي بصلبه حياً عدة أيام، ثم سجن عدة سنوات إلى أن صدر الأمر بقتله، فجُلد بالسياط وقطعت أطرافه ورأسه وأحرقت جثته بالنار ونصب رأسه مع أطرافه على السور.
أما أحد أشهر شعراء العرب المعاصرين نزار قباني فلقد سمي كذلك بشاعر الارتداد والإلحاد، وصدرت الفتاوي التي تقضي بضرورة تكفيره ومنع قراءة دواوينه، وألف السلفيون كتاباً يهاجمه لأنه برأيهم قد تجاوز وكتب الكثير مما يجيز لهم ملاحقته. ومن بعض ما قاله فاستحق نقمة السلفيين: "من أين يأتي الشعر يا قرطاجة والله مات وعادت الأنصاب؟"، حتى أن الله لم يمت بطريقة عادية عند نزار قباني، فلقد قال في أحد قصائده: "حين رأيت الله في عمان مذبوحاً على أيدي رجال البادية".
بالعودة إلى ماضٍ أبعد، نقرأ ما قاله المؤرخ نيكيفوروس كاليستوس عن الفيلسوفة اليونانية الشهيرة هيباتيا: "وجدت في الإسكندرية امرأة تدعى هيباتيا، يقال إن والدها كان الفيلسوف ثيون وإنه أحسن تعليمها ووصلت إلى مرتبة رفيعة فاقت فلاسفة معاصريها والذين سبقوها، حيث سميت خليفة لدراسة الفلسفة الأفلاطونية وكانت متطوعة لتلقين جميع الراغبين ما تملكه من معارف، ونظراً لعظمتها وعلمها كانت مكرمة من الجميع ومحط كلام الجميع بفضل معرفتها.
وكان لا بد للكره أن يتسلح ضدها لأنها بالفعل ترددت بتواتر كبير عند أوريستوس الحاكم، الأمر الذي أثار حولها نقمة الإكليروس المسيحي المحيط لكيرلس واتهموها بأنها منعت الحاكم من التصالح مع كيرلس، فقام بعض محبي كيرلس بقيادة شخص يدعى بطرس بمراقبتها أثناء خروجها من بيتها، فحاصروها وجروها إلى كنيسة كيزارون، وخلعوا عنها ثيابها وقتلوها رجماً وبعدها مزّقوها إرباً ثم ألقوا أعضاءها في النار".
سبينوزا وحقد رجال الدين
نيتشه وماركس وهيجل وأينشتاين آمنوا بإله سبينوزا، سبينوزا الذي نُبذ من أهله ومن الجالية اليهودية في أمستردام بسبب ادّعائه أن الله يكمن في الطبيعة والكون، وأن النصوص الدينية هي عبارة عن استعارات ومجازات غايتها أن تتعرّف على طبيعة الله. بعد ذلك بوقت قصير، حاول أحد المتعصبين للدين طعنه لكنه استطاع النجاة. إلا أن حقد رجال الدين لم ينسهم أن يكتبوا على شاهدة قبره حتى بعد خمسين عاماً من موته : "هذا قبر سبينوزا فلتبصقوا عليه".
ولا يخفى على أحد أن جاليليو أحد أبرز من حاربتهم محكمة التفتيش الرومانية بسبب إثباته لمركزية الشمس ودوران الأرض حولها، الحقيقة التي قضى جاليليو بسببها سنوات حياته منفياً منبوذاً حتى موته، ومن الجدير بالذكر أن البابا بيوس الثاني عشر، بعد أشهر قليلة من رسامته لمنصب البابوية عام 1939، وصف جاليليو بأنه "أكثر أبطال البحوث شجاعة... لم يخش من العقبات والمخاطر ولا حتى من الموت".
اعتذار الفاتيكان
وفي عام 1992، ألقى البابا يوحنا بولس الثاني خطبة قدم فيها اعتذار الفاتيكان على ما جري لجاليليو أثناء محاكمته أمام الفاتيكان عام 1623. وأعاد الفاتيكان في 1992 لجاليليو كرامته براءته رسمياً، وتقرر عمل تمثال له عام 2008، وأخيراً تمّ وضع تمثال لجاليليو داخل جدران الفاتيكان.
احتاج الأمر إذن أكثر من ثلاثة قرون كي يثبت العلم صحة نظرية جاليليو فباتت الكنيسة مضطرة للاعتذار له ومن ثم تكريمه، فكم قرناً يلزم كي ينصف العلم والتقدم طروحات كثير من العلماء والفلاسفة والمفكرين والأطباء العرب المعاصرين الذين يحاربهم التطرف والجهل والغوغاء دون هوادة؟
وبِفرض أنّ الباحث أو المفكر اقتحم حديقة ملأى بالأشواك بحثاً عن زهرة اسمها الحقيقة، فلماذا نحتقر تلك الشجاعة بدلاً من أن نقدّرها ولماذا نخاف من مواجهة الحقيقة ونصرّ على تسليم عقولنا لأشباح مَن ماتوا قبل قرون طويلة، ألهذه الدرجة يحتقر المتشدد المعاصر قدراته الذهنية، فيصرّ على أن يكون عبداً لأفكار بات من الممكن وفق المنطق النسبي تسميتها "أساطير الأولين"؟
رغم التسويق للسنوات العشر الماضية على أنها عصر الثورات العربية ، إلا أن تحوّلاً جذرياً بمستوى العصر لم تستطع إنجازه أيّ من الثورات على امتداد الوطن العربي، فالجماهير تحركت فقط ضد الزعيم أو القائد باعتباره رمزاً للاستبداد الماضي والحاضر، إلا أن أحداً لم يجرؤ على التحرك تجاه خلخلة المفاهيم السائدة التي ساهمت عبر عقود طويلة أو ربما قرون بالتكريس للاستبداد والسلطة المطلقة والأحزاب الشمولية.
ومعظم من مثلوا الثورة بين المثقفين تصرفوا بشكل جبانٍ تماماً حين تطلّب الأمر الإشارة إلى مكامن الجهل والرجعيات السائدة، فكان همهم الأعظم السير على الخط الآمن للثورة، ذلك الذي تدعمه أنظمة الغرب ويؤمن لهم مصدر رزق ثابت في المنصات الثقافية التي تمولها الجهات الداعمة للثورات، أو حضوراً ملائماً على شاشات التلفزة الأكثر شهرة وتمويلاً، لم يكونوا بحجم الحدث التاريخي ولا تجرّؤوا على نبش الموروث الراكد، حتى أن بعض أبرز واجهاتهم الثقافية والإعلامية وبعض أبرز نجومهم، حاربوا من اختلف معهم ورموه مباشرة عبر محاكم تفتيش مجازية إلى الخانة المضادة أو صنفوه ضد لائحة الممنوع والمحارَب.
وحتى ساعة كتابة هذا المقال، ما زالت ماكينة المحاكم دائرةً، في الشؤون الدينية والثقافية والسياسية، فمن بين التعليقات الكثيرة التي قرأتها للتو لبعض الغيورين على الإسلام تعقيباً على موت السعداوي: "ماتت نوال السعداوي وبقي الإسلام".
تأملي قليلاً هذه العبارة، إنها لا تعبّر عن الغيرة والحب للإسلام بقدر ما تعبّر عن الذعر من تهديد الفكر المختلف، فكأنّ ما يؤمن به هؤلاء مجرد خيمة من قماش رقيق؛ يخافون عليها من الضياع والتمزق عند أول هبّة لريح جديدة.