مسيحيو المشرق.. جفاف البُحيرة - مقالات
أحدث المقالات

مسيحيو المشرق.. جفاف البُحيرة

مسيحيو المشرق.. جفاف البُحيرة

رستم محمود:

 

تقليديا، كانت زيارات بابا الفاتيكان الكثيرة إلى دول العالم تنقسم إلى نوعين متمايزين: الزيارات التي يقوم بها إلى بلدان لاتشوبها مُشكلات أهلية/سياسية مسيحية الطابع، أو للمسيحيين أدوارٌ فيها، فتأخذ تلك طابعاً ثقافياً دينياً، تتوخى مزيداً من التواصل والحوار بين الجماعات الدينية و"قادة الأديان" وما ينفرز عنهم من مؤسسات وخطابات ومشاريع.

على وجه نظير من ذلك، فإن زيارات البابا إلى البلدان التي تحوي مجتمعات أهلية ومُشكلات أهلية/سياسية مسيحية تأخذ سمة سياسية رئيسية، إلى جانب حيزها الروحي الثقافي. فدولة الفاتيكان، بمكانتها وأدوارها وأذرعها، ترى نفسها دوماً منخرطة ومساهمة وذات رأي في أحوال وحقوق وحضور المسيحيين في الشأن العام والحياة السياسية والاقتصادية في الكثير من البلدان، بالذات المركبة والمختلطة منها من عدد من التشكيلات الأهلية

كل تفصيل من زيارة بابا الفاتيكان إلى العراق تقول بأنها تنتمي للنوع الأول من زيارات البابا، على الرغم من استثنائية مكانة وهوية العراق بالنسبة للمسيحيين والديانة المسيحية نفسها، التي انتشرت واستمرت في أرض العراق لعشرين قرن كامل من دون انقطاع، وكانت واحدة من أخصب بلدان الشرق بالثقافة والحضور والفاعلية السياسية المسيحية، لو جاز التعبير. لكن الأحوال الديموغرافية والاقتصادية والأمنية والسياسية لمن بقي من مسيحيي هذا البلد تقول شيئاً آخر تماماً، وعلى غرار باقي مسيحيي المنطقة: المسيحيون خارج أية حسابات ودون وزن نسبي وفاعلية حيوية حقيقية في أي شأن عام من شؤون هذه البلدان، في إمكانية تحديد مسارات حياتهم وهوياتهم العمومية، وطبعا مصائرهم

لو تخيلنا زيارة البابا قبل عشرين عاماً فقط، ولو كان العراق بهذا النظام السياسي البرلماني/التحاصصي، لكانت كل تفاصيلها مختلفة تماماً. فـ10 بالمئة من أعضاء البرلمان العراقي، على الأقل، كانوا سيكون من المكون المسيحي، وكانت المجتمعات المسيحية العراقية ذات دور ريادي في المجال الاقتصادي والفاعليات الثقافية والإعلامية، مشاركون في الحكومة العراقية بثلاث وزارات فعلية، وثمة أحياء وبلدات ومناطق جغرافية كثيرة ذات طابع وهوية مسيحية عليا. وقتها، لكانت أحاديث واهتمامات وبرنامج زيارة البابا مختلفة تماماً

طبعاً لو كانت قبل قرن كامل، لكانت اختلفت جذرياً. فمسيحيو العراق كانوا وقتها خُمس مجموع السكان، وكانوا يشغلون مساحات واسعة من جغرافيات البلاد، وكان "لواء الليفي" العسكري، الذي كانت قوات الاحتلال البريطاني قد شكلته من الآشوريين/المسيحيين العراقيين في منطقة الموصل، كان يفوق بعدده وعتاده ما يملك الجيش العراقي حديث التشكيل وقتئذ، وفوق ذلك كانت النزعة المسيحية تجاه خلق فيدراليات ومناطق حُكم ذاتي خاصة بهم تشبه نظيرتها القومية الكردية

بهذا المعنى، وحسب هذا المسار التاريخي، فأنه لا "مسألة سياسية مسيحية" راهناً، في العراق وباقي بلدان المنطقة، وإن كان ثمة بقايا تجمعات أو سكان مسيحيين في هذه البلدان، فإنهم يشبهون بأدوارهم وفاعليتهم وحضورهم في الشأن العام ما تفعله الجاليات في دول الاغتراب، أكثر مما تشبه المجتمعات والبُنى الأهلية التأسيسية لبلد ما، التي أخذت كلها طابعاً سياسياً، دفعاً عن حقوقها ووجودها، بعد فشل نماذج الدول المدنية الديمقراطية في بلداننا.

اضمحلت المسألة المسيحية سياسياً في بلداننا طوال قرن كامل مضى، بعدما كانت المسألة السياسية الداخلية الأولى في هذه البلدان، حينما زاحمت وطالبت بتفكيك الدولة ذات المرجعية والهوية الإسلامية، منذ عصر التنظيمات العثمانية، في أوائل القرن التاسع عشر، لكن دور المسيحية السياسية ودورتها يبدو أنه أنتهى تماماً

حدث ذلك الاضمحلال لأسباب متنوعة ومركبة وتاريخية تقليدية، لكن كان ثمة فاعلين جوهريين أثرا بعمق وتسببا باضمحلالها:

خسر المسيحيون كُل الحروب الداخلية التي خاضوا في بلدان شرق المتوسط. فالحرب العالمية الأولى، التي ترافقت بحروب أهلية داخلية مريعة، خاضتها مجتمعاتنا بروح أهلية ضد بعضها، وكان الصراع المسيحي الإسلامي أبرز مواجهاتها، لكنت المُحصلة كانت هزيمة كاملة للمسيحيين فيها كلها.

المذابح التي تعرض لها الأرمن واليونان والآشوريين والسريان كانت تعبيراً واضحاً عن تلك الهزائم. لم تتوقف الحروب الداخلية بنهاية الحرب، بل استمرت بوتيرة ومستويات متفاوتة خلال السنوات التي تلتها، ذاق آشوريو الموصل وسيميل وقرقوش الحروب التي شنها قادة الجيش العراقي في ظلال الحُكم الملكي، ومثلهم يونانيو الساحل الشرقي من بحر إيجة وأرمن الأناضول، الذين تم ترحيلهم ونفيهم إلى خارج بلدانهم التاريخية. موارنة لبنان وروم سوريا وفلسطين وأقباط مصر ذاقوا أشياء من ذلك، وإن كانت على شكل شبه حرب أهلية في لبنان عام 1958، أو إلغاء للكوتا المسيحية في سوريا، أو تجاوز لبعض الأعراف الليبرالية، المتمثلة بالحضور المتمايز للأقباط في الحياة السياسية، التي كرسها حزب الوفد من قبل في مصر

التغيرات الديموغرافية كانت فاعلاً مكملاً لهزائم الحروب. فلأسباب مركبة للغاية، تتعلق بارتفاع مستويات التعليم في أوساط المجتمعات المسيحية ونوعية النشاطات الاقتصادية التي كانوا يشغلونها وأنماط حيواتهم المدنية، كانت نسبة الزيادة السكانية في المجتمعات المسيحية ما دون رُبع الزيادة السكانية في المجتمعات غير المسيحية في بلداننا. عامل الهجرة أضاف ميزة أخرى لذلك التراجع الديموغرافي

انخفضت نسبة مسيحيي المنطقة خلال قرن واحد من قُرابة الربع إلى ما دون الـ5%، بعدما كانوا يشكلون 40% من سكان الإمبراطورية العثمانية، الدولة-الأم لكل بلداننا الحالية. تالياً، فإن تدهور الحضور السياسي والاقتصادي والثقافي للمسيحيين في الحياة العامة لبلداننا كان نتيجة طبيعية لذلك التراجع الديموغرافي والهزائم الحربية

قبل قرابة قرنين من الآن، كان السؤال السياسي الكبير في منطقتنا يتعلق بكيفية بناء دولة حديثة، تستطيع أن تضم في جنباتها المسلمين والمسيحيين بأوسع مستوى ممكن من المساواة في الدولة ومؤسساتها ومواثيقها وخيراتها، ليتحول الكيان العثماني، أو ما ورثه وأنبثق عنه فيما بعد من كيانات، من دولة ذات طابق قروسطي/إسلامي إلى كيانات ودول حديثة، مدينة قادرة على استيعاب المسيحيين

طُرحت ثلاثة مبادرات "كُبرى" لاجتراح ذلك، لكنها جميعاً كانت بمثابة وباء على الحضور المسيحي في هذه البلدان

شكلت التنظيمات العثمانية الإصلاحية (1839-1876) أولى تلك المحاولات، حيث كانت تعلن سعيها لخلق كيان دستوري يتساوى فيه المسيحيون والمسلمون في المواطنة العثمانية. لكن حينما سعى مسيحيو البلقان والأناضول للحصول على تلك الحقوق بشكل فعلي تام، وليس مجرد شكلي كما كانت تحاول أن تطبقه النُخب العثمانية الحاكمة، فإن الدولة العثمانية خاضت حروبا مريعة ضد هؤلاء السكان. فالتنظيمات العثمانية كانت فعلياً إرضاء للدولة الكُبرى المتحالفة معها، وليس لتطور نوعي في وعي النُخبة العثمانية الحاكمة.  

النزعات القومية كانت محاولة ثانية لفعل ذلك، فالقوميون العرب والأتراك و"الاجتماعيون السوريون"، رددوا طويلا أن المسألة المسيحية مختلقة، والوعي والإيديولوجيا القومية قادرة على احتواء ذلك الاختلاف الديني من خلال المساواة القومية

لكن التجربة الفعلية للقوميين، أثبتت أن إيديولوجيات القوميين كانت غطاء خطابياً لأفعالهم الحقيقية. فالبعثيون العراقيون قالوا إن مؤسس حزبهم غير دينه المسيحي نحو الإسلام، وفرضوا تغيراً شاملاً على قيادتهم المسيحية، بما في ذلك أسمائهم، كان ميخائيل يوحنا "طارق عزيز" مثالاً كاريكاتورياً عن ذلك. أما الناصرية فلم تُغير حتى قانون بناء الكنائس القروسطي، الذي يُكرس ذمية روحية وسياسية بحق المسيحيين المصريين. وهكذا فعل باقي قوميو المنطقة، من تركيا إلى لبنان، مروراً بسوريا

التجربة الثالثة تمثلت بالطروحات الديمقراطية، التي ادعت أن تدهور أحوال مسيحي المنطقة متعلق بشكل رئيسي بنوعية أنظمة الحُكم الشمولية التي تسيطر على بلدان منطقتنا. لكن تجارب الديمقراطية في واحدة أو أخرى من بلدان منطقتنا أثبتت بأن العمليات الديمقراطية كانت فقط لإيصال وتكريس سُلطة الأغلبية الأهلية، من دون أي التزام بمعايير وشروط اللعبة الديمقراطية، وعلى رأسها حماية حقوق الأقليات

اليوم، ثمة احتفاء كبير بغياب الصراع المسيحي/الإسلامي في منطقتنا، لكنه احتفاء يشبه الفرح بصيد السمك بعد جفاف البُحيرة.   

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث