منصور الحاج:
تطرقتُ في الجزء الثاني من هذه السلسلة إلى أهمية أن تدرك الشعوب العربية والإسلامية أنها الهدف الأول لإرهاب الجماعات الجهادية وأن على عاتقها يقع العبء الأكبر لتجفيف منابع الفكر الذي ينتج الإرهابيين.
ولكي يعمل جميع أفراد المجتمع كوحدة واحدة وبصورة متناغمة ضد التطرف بكل أنواعه فإن من المهم معرفة العوامل التي ساهمت في انتشار ثقافة التطرف في مجتمعاتنا على حساب مبادئ التسامح وقبول الآخرين واحترام آرائهم واختياراتهم، لأننا حين ندرك بأن تصرفاتنا تجاه الآخرين وإن كانت عفوية أو حدثت لا شعوريا أو بحسن نية، قد لعبت دورا في تشجيع الإرهابيين على التجرؤ علينا، فإن ذلك سيدفعنا للعمل على تغييرها.
إحدى أهم تلك العوامل في اعتقادي هي التصورات الخاطئة المنتشرة في أوساط العامة، التي تقدم الإسلام كنظام شامل لا ينحصر في العلاقة بين المسلم وربه فقط بل يمتد ليشمل علاقته بالآخرين ويعطي أتباعه الحق في إجبار الآخرين أقرباء كانوا أم غرباء على الالتزام بأحكام وتعاليم الإسلام.
ونتيجة لهذا التصور الخاطئ تحول قطاع كبير من أفراد المجتمع إلى ضباط شرطة وقضاة وجلادين في آن واحد مدفوعين باعتقاد خاطئ بأن لديهم تفويضا إلهيا لحراسة الفضيلة وتقويم أفعال الآخرين ومحاسبتهم على آرائهم واختياراتهم.
ولذلك نجد أن الكثير من الآباء، مثلا، يرون أن لهم كامل الحق في تعنيف أبنائهم بسبب قصة شعر أو طريقتهم في اختيار ما يرتدون من ملابس. كما بات من المعتاد في مجتمعاتنا تعنيف من يرفضن ارتداء الحجاب ومن يرفضون ممارسة الشعائر الدينية ومن لديهم ميول جنسية مثلية وغيرهم.
على الرغم من أن تلك التصرفات تندرج تحت قائمة الحريات الشخصية إلا أن هناك من يجدون أنفسهم مدفوعين إلى رفضها ويمنحون أنفسهم الحق في الاعتداء على الآخرين من أجل تغييرها بأيديهم.
ومع مرور الوقت، تحولت مجتمعاتنا إلى مجتمعات طاردة لكل من يحملون أفكارا وتصورات تختلف عن تلك التي اعتدنا عليها وبلغ القمع ضد الأقليات والمتمردين والمبدعين مبلغا دفع منظمات حقوق الإنسان العالمية إلى التدخل لحمايتهم مما يتعرضون له من اضطهاد وحث الحكومات على سن القوانين التي تكفل احترام كرامة الإنسان وحقه في الاختيار بدلا من إكراهه ودفعه إلى تكوين مجتمعات سرية أو الهجرة إلى حيث يمكنه التعبير عن نفسه بحرية.
كل ذلك حدث على مرأى ومسمع من الجميع، ولكن قلة فقط هم من حركوا ساكنا وأعلنوا اعتراضهم على كل لون من ألوان القمع سواء ذلك الذي تمارسه السلطة ضد معارضيها أو ذلك الذي يمارسه أفراد المجتمع ضد من يعتبرهم فاسدين وفاجرين ودعاة للرذيلة.
في اعتقادي، إن أهم الأسباب التي أدت إلى تسلط الجماعات الجهادية على مجتمعاتنا وشجعتهم على قتلنا تتمثل في صمتنا ضد الانتهاكات التي تعرض لها الكثير من أفراد المجتمع، وفي عدم دفاعنا عنهم بحجة اعتقادنا أن ما قاموا به من تصرفات تبرر ما حدث لهم، وهذا ما عزز اعتقاد الجهاديين بأننا مجتمعات تتوق إلى العيش في رحاب الشريعة فأجمعوا أمرهم وأعلنوا الجهاد على كل من لا يمتثل لأوامر الله بحسب تفسيراتهم.
والآن وبعد خروج مارد الجهاديين من قمقمه، فإن السبيل الوحيد لهزيمتهم يتمثل في أن نقف جميعا صفا واحدا مع كرامة الإنسان وحقه في التعبير والاختيار والدفاع عن حق الآخرين في أن يكونوا مختلفين، ولمن يختلف، معهم الحق في الاختلاف مع اختياراتهم، ولكن بسبل حضارية وبعيدا عن الإكراه والعنف.
إن أمام المجتمعات العربية والإسلامية طريقان لا ثالث لهما، فإما أن تكون مع تيار الجبر والإكراه والظلم والكراهية الذي تمثله الجماعات الجهادية التي تحلم بتأسيس دولة دينية لا تكفل الحقوق الأساسية للإنسان ولا تحترم حرياته الشخصية أو أن تكون مع تيار الحقوق والحريات الذي يمثله من يؤمنون بحق البشر في العيش في دولة مدنية تكفل حقوق جميع المواطنين وتدافع عن حقهم في الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية وفي مجتمع متمدن يحترم حق الآخرين في الاختيار وإن اختلف مع اختياراتهم.