بابكر فيصل:
أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في الحادي عشر من الشهر الماضي بيانا اعتبرت فيه جماعة الإخوان المسلمين "جماعة إرهابية لا تمثل نهج الإسلام" ووصفتها بالجماعة المنحرفة، التي "تخرج على الحكام وتثير الفتن وتتستر بالدين وتمارس العنف والإرهاب" من أجل خدمة "أهدافها الحزبية المخالفة لتعاليم الدين".
فور صدور بيان هيئة العلماء قام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بإصدار بيان ينفي تهمة الإرهاب عن جماعة الإخوان المسلمين ويصفها بأنها "زور ومنكر"، ويتهم هيئة العلماء بأنها باتت خادم مطيع للحكام، مخاطبا أعضاء الهيئة بالقول: "أعطيتم صورة سيئة لعلماء السلاطين على مر التاريخ.. قد سننتم سنة سيئة غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي، وهي سنة الطاعة العمياء المطلقة للحاكم، وبصورة جماعية من كبار العلماء".
قبل الخوض في مناقشة القضية من مختلف جوانبها يجدر بنا الإشارة إلى أن النظرة الدينية قد تسيدت المشهد الحضاري الإسلامي منذ مئات السنين وتوحدت مع السلطة لأن من مصلحة الأخيرة دائما تغييب عقل القاعدة الجماهيرية العريضة حتى يسهل عليها تسيسها، واستمر تحالفها مع السلطة السياسية لأنه لا بد لكل سلطة من مشروعية، وفي المنطقة العربية والإسلامية ترجع المشروعية للدين.
ولعلنا حاليا نرى أن السلطات السياسية في العالم العربي توحد بينها وبين المؤسسات الدينية الرسمية علاقة تبادل منافع، فالسلطة السياسية تغدق على المؤسسات الدينية العطايا والمناصب وتعطيها بعض النفوذ وبالمقابل يمنح أعضاء المؤسسة الدينية الرسمية الشرعية لتلك السلطات السياسية.
ولا يقتصر أمر ممالأة الحكام على المؤسسة الرسمية بل يشمل الجماعات الدينية والأذرع التي تخدمها مثل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وهو مؤسسة تتبع للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين وقد قام بتأسيسه الشيخ يوسف القرضاوي عام 2004 وظل يترأسه حتى عام 2014 حيث تم استبداله بالمغربي أحمد الريسوني.
في بيانه الموجه لهيئة العلماء، قال الاتحاد العالمي: يعلم الجميع أن هجمتكم الأخيرة ضد جماعة الإخوان المسلمين، هي قرار سياسي محض، أُملي عليكم أو على أحد منكم، وأنه لا علاقة له بدين ولا خلق ولا مبدأ". وهذه حقيقة لا تخفى على كل متابع للعلاقة بين السعودية والإخوان، حيث بدأت العلاقة بين الطرفين بالود والاحتضان والتناغم كشأن أي ارتباط بين حكومة ومؤسسة دينية تخدم مصالحها ولكنها ساءت بعد أن تحولت لتنافس محتدم من أجل النفوذ.
الخلاف بين الطرفين لا علاقة له بالدين، ولكنه مرتبط بالتنافس على زعامة المنطقة، حيث بدأ مع تفجر ثورات الربيع العربي التي أنذرت بإمكانية وصول الإخوان لسدة الحكم في عدد من الدول، وهو الأمر الذي يشكل تهديدا جديا للنظام الحاكم في المملكة السعودية، وإذا كان هذا الأمر مفهوما إلا أنه من غير المفهوم أن يتباكى الاتحاد العالمي على القرارات السياسية المتدثرة بعباءة الدين بينما ينسى أو يتناسى تاريخ الإخوان في هذا الخصوص!
استنكر الاتحاد العالمي وصف هيئة العلماء للإخوان بأنهم "جماعة منحرفة وإرهابية متطرفة عاثت في البلاد والعباد فسادا، وأنها لا تمثل منهج الإسلام"، وقال إن ذلك الوصف يؤكد "على منهج التكفير والتبديع، الذي هو منهج الخوارج والدواعش".
المفارقة الحقيقية تكمن في أنه أبان "شهر العسل" بين الإخوان والمملكة صدرت فتوى بتكفير الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، أبرزتها صحيفة "عكاظ" السعودية في عددها رقم 102 الصادر بتاريخ 18 ذو الحجة 1381 (23 أيار/مايو 1962)، بمانشيت عريض يعلن أن "جمال عبد الناصر كافر بإجماع الأمة"، وأردفت بالقول: "علماء مصر يفتون بكفر عبد الناصر.. جمال عبد الناصر كافر بنص القرآن والسنة واجماع الفقهاء والأئمة"، واعتبرت أن قتال عبد الناصر "فرض على كل مسلم ومسلمة"!
من الجلي أن الفتوى أعلاه والتي شارك في إصدارها قيادات من الإخوان المسلمين تحت مسمى "علماء مصر"، صدرت لخدمة المصالح السياسية للمملكة السعودية وليس لخدمة الدين، ومع ذلك لم يخرج الإخوان ليقولوا إن "منهج التكفير هو منهج الخوارج" كما قال الاتحاد العالمي في رده على هيئة العلماء، وهو الأمر الذي يعكس ازدواجية المعايير التي تستخدمها جماعة الإخوان وأذرعها الدينية!
في ذلك الوقت كانت الحرب الباردة تسود العلاقات الدولية، وقد وقفت مصر والمملكة السعودية على طرفي نقيض، الأولى تبنت النهج الاشتراكي واستنصرت بالاتحاد السوفيتي بينما اختارت الثانية النهج الرأسمالي ووقفت إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب، ومن ثم بدأ صراع النفوذ للسيطرة على العالم العربي واستخدم كل طرف أدواته للتوسل لشعوب المنطقة وكالعادة تم إلباس الخلاف السياسي ونزاع المصالح لبوس الدين من أجل كسب الشرعية، وقد كان الإخوان الداعمين الرئيسيين للمملكة في هذه المعركة.
ومع وضوح الطبيعة السياسية للصراع الذي دخلت فيه الجماعة ضد جمال عبد الناصر، إلا أن الإخوان كانوا هم الطرف الذي سعى لتزييف حقيقة ذلك الخلاف وتصويره وكأنه نزاع بين معسكري "الكفر والإيمان"، ولم يتورعوا عن رمي عبد الناصر بمعاداة الدين وكراهية الأحكام الإسلامية حتى وهو بين يدي الله، وهو الأمر الذي صرح به المتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان المسلمين، محمود غزلان، عام 2013، عندما قال: "أزمة عبدالناصر مع الجماعة تتلخص في أنه كان يكره الدين وكل من يطالب بحكم الشريعة"!