محمد يسري:
أثارت نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، عاصفة من الجدل بعد أن أظهر الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب رفضه لنتائجها، بما ينذر بوقوع مشكلة سياسية تتعلق بتسليم السلطة الرئاسية للرئيس المنتخب جو بايدن.
هذا الحدث ألقى بظلاله على العديد من المواقف المشابهة في التاريخ الإسلامي. فللسلطة في بلاد الإسلام تجليات عدّة وأشكال متباينة، فهي تظهر أحياناً في صورة خلافة روحية يتبعها الملايين بكل احترام وتبجيل، وتظهر في أحيان أخرى بشكل أضيق نطاقاً، في شخوص السلاطين والأمراء والوزراء وقادة الجيوش، كما أنها قد تتبدى بشكل ضمني في الثقل السياسي لمدينة عظيمة الشأن أو عاصمة لإحدى الدول. في كل حالة من الحالات السابقة، يشهد انتقال السلطة من شخص لآخر، أو من مكان لمكان، مجموعة من الأحداث المهمة التي اهتمت المصادر التاريخية بذكرها، لما لها من اعتبارية وقيمة في فهم سيرورة تشكل الحدث التاريخي من جهة، ولعلاقتها الوثيقة بمفاهيمنا الآنية عن بنية وطبيعة وحدود السلطة من جهة أخرى.
من أبي بكر لعمر: الانتقال الأول لسلطة الخلافة
تُعدّ الخلافة أكبر وأهم منصب سياسي في الإسلام عبر تاريخه، وقد عرفها أبو الحسن الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية"، بأنها "حراسة الدين وسياسة الدنيا"، بما يعني أن سلطتها قد امتدت للمجالين، الروحي والزمني. انتقال السلطة من خليفة إلى آخر، شهد أنماطاً متعددة وأساليب مختلفة، فبينما وقع اللجوء للعنف في أكثر الأحيان، فإن السلم والمهادنة قد ظهرا أيضاً كحل من الحلول القائمة.
الوسيلة الأولى لنقل السلطة إلى الخليفة الجديد، تمثلت في عقد البيعة له والنص على اسمه كولي للعهد. بموجب تلك الطريقة انتقلت السلطة من الخليفة الأول، أبي بكر الصديق، إلى الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، وهي الحادثة التي عُدّت فيما بعد، الدليل الأهم على شرعية انتقال الخلافة بولاية العهد، وبموجبها مررت الأغلبية الغالبة من الخلفاء الأمويين والعباسيين والعثمانيين السلطة إلى أبنائهم.
وعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة في صيغة البيعة بالخلافة في العصور المختلفة، فإن معظم صيغ البيعة كانت تدور حول ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم، عن بعض الصحابة الذين وصفوا بيعتهم للنبي بقولهم: "بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم". وكان من المعتاد والشائع، أن يرسل كبار رجال الدولة ببيعتهم للخليفة الجديد بشكل فردي، أو أن تحدث البيعة بشكل مباشر، أما فيما يخص عامة الناس، فكان يتم الاكتفاء بأخذ البيعة منهم بشكل جماعي.
الحسن ومعاوية: الصلح طريقا لنقل السلطة
الطريق الثاني لانتقال الخلافة شهد التسليم الطوعي للسلطة، وكانت حادثة تسليم الحسن بن علي الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان في 41 ه، هي الحادثة المرجعية الأهم في هذا السياق، وشابهتها في القرن العاشر الهجري حادثة تنازل الخليفة المتوكل على الله للسلطان سليم الأول، بعد دخول الأخير للقاهرة وانتصاره على المماليك في معركتي مرج دابق والريدانية.
عبد الملك بن مروان: النموذج الأول لحكم المتغلب
الطريق الثالث لنقل سلطة الخلافة، فهو اللجوء للعنف والحرب أو الثورة، وهو الأمر الذي تكرر كثيراً على مر القرون، وتُعدّ تجربة انتصار عبد الملك بن مروان على عبد الله بن الزبير في 73ه، هي النموذج الأتم والأشهر لذلك الطريق، إذ جرى شرعنة تلك التجربة رغم كل ما لابسها من عنف واستباحة للمقدسات، وتعامل معها الفكر السياسي السنّي على كونها شر لا بد منه، وفي هذا السياق راجت مقولة "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم".
من المهم هنا أن نذكر أن طريق نقل السلطة لم يكن دائماً مفروشاً بالورود، بل كاد في العديد من الأحيان أن يغير من مصائر سالكيه، على سبيل المثال، يحدثنا ابن كثير الدمشقي في كتابه "البداية والنهاية"، عن مصير الثورة العباسية، بعد أن قبض الأمويون على الإمام إبراهيم بن محمد، وكيف أن داعية الكوفة الشهير، أبا سلمة الخلال، قد أرسل إلى مجموعة من العلويين عارضاً عليهم منصب الخلافة، غير أنهم لما رفضوه، أُضطر هو في النهاية لمبايعة أبي العباس السفاح بالخلافة.
الشريف الحسين والملك فؤاد: محاولات لم تكتمل لنقل سلطة الخلافة
بعد إسقاط الخلافة العثمانية في 1924م، جرت مجموعة من المحاولات لنقل ذلك المنصب –الخلافة- إلى بعض الشخصيات المسلمة المهمة في تلك الفترة، ومنهم الشريف الحسين بن علي في مكة، والملك فؤاد الأول في مصر، ولكن جميع تلك المحاولات أُجهضت ولم تكتمل، وبقي منصب الخلافة شاغراً حتى اللحظة، وهو الأمر الذي جاء متوافقاً مع تغير شكل الدولة الحديثة في البلاد الإسلامية، وتعاظم نموذج/ باراديم الدولة الوطنية الحديثة التي تفصل بشكل كامل بين الديني والسياسي.
من أبي هاشم لمحمد بن علي العباسي: نقل الإمامة بين فرعي بني هاشم
فيما يخص الإمامة، وهو المصطلح المتداول لتوصيف السلطة الروحية لدى الشيعة، فقد تعددت أشكال انتقالها من إمام إلى آخر، وإن غلب عليها الشكل السلمي.
مثلاً، يؤمن الشيعة الإمامية الاثني عشرية بتناقل هذا المنصب بين اثني عشر رجلاً من آل البيت النبوي، ويعتقدون أن هذا الانتقال قد وقع بسهولة ويسر، لكون الاختيار قد وقع بواسطة الله نفسه.
في أحيان أخرى، ينتقل منصب الإمامة بشكل بشري، كما جرى في حالة نقل سلطة الإمامة من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. فبحسب ما يذكره الحسن بن موسى النوبختي في كتابه "فرق الشيعة"، فإن البقية الباقية من فرقة الشيعة الكيسانية الذين اعتقدوا بإمامة محمد ابن الحنفية التفوا، بعد وفاته في عام 81هـ، حول ابنه أبي هاشم عبد الله، وبقوا مخلصين له واعتبروه الإمام العلوي الهاشمي الذي يستحق الطاعة، ولما كان أبو هاشم عقيماً ولم ينجب، فإنه أمر أصحابه وأتباعه بأن يتبعوا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. فلما توفي أبو هاشم، وقع الانتقال في خط الإمامة الشرعية من الفرع العلوي إلى الفرع العباسي.
من اليازوري إلى صلاح الدين: سلطة الوزراء في عصر الضعف الفاطمي
أيضاً شهدت القاهرة، عاصمة الخلافة الفاطمية، صوراً مختلفة من انتقال السلطة بين الأمراء المتغلبين، تزامناً مع الضعف الذي لحق بالخليفة الفاطمي المستنصر بالله، عقب أزمة الشدة المستنصرية (457- 464هـ)، إذ تعاقب على كرسي الوزارة مجموعة من الوزراء وقادة الجند، ومنهم أبو الحسن اليازوري وناصر الدولة ابن حمدان وبدر الجمالي، وقد ظلت عادة نقل السلطة من أمير إلى آخر هي العادة الغالبة حتى نهاية الدولة الفاطمية، عندما تعاقب على كرسي الوزارة ضرغام وشاور وأسد الدين شيركوه، ثم صلاح الدين يوسف ابن أيوب، الذي أسقط الدولة الفاطمية وأعلن عن تأسيس الدولة الأيوبية السنية في سنة 567هـ.
من المنصور إلى شنجول: سلطة الحجابة تعصف بالأندلس
في بعض الأحيان، ارتبطت مسألة نقل السلطة بوقوع أحداث عنف وانقسامات حادة في الدولة، ومن ذلك ما وقع في الأندلس في الفترة الأخيرة من عصر الخلافة الأموية، عندما استأثر الحاجب محمد بن أبي عامر المنصور بالسلطة، ونقلها من بعده إلى ابنه عبد الملك، حتى إذا ما توفى الأخير في 399ه وانتقلت السلطة إلى أخيه عبد الرحمن شنجول، ثار الأمويون والعامة بقرطبة، وقُتل شنجول بعدما تفرق عنه جنده، ودخلت الأندلس في عصر جديد، عُرف بعصر ملوك الطوائف.
بين الكندري ونظام الملك: سلطة الوزراء تؤثر على المذاهب والأفكار
فيما يخص عملية نقل السلطة بين الوزراء، سنجد أنها قد ارتبطت في بعض الأحيان بتغيرات مهمة ومؤثرة على الصعيد المذهبي والفكري. مثلاً، كان عميد المُلك الكندري، الذي تولى منصب الوزارة في عهد طغرلبك أول سلاطين السلاجقة، شديد العداء للشافعية والأشاعرة، وكان قد حرض طغرلبك على عدائهم والأمر بلعنهم على المنابر، فلما مات طغرلبك، وتولى ألب أرسلان السلطنة، وعين نظام الملك الطوسي في منصب الوزارة، تغير كل ذلك جملة واحدة، إذ استغل نظام الملك سلطته في تمجيد الشافعية، فأسس المدارس لنشر مذهبهم وأغدق على علمائهم وفقهائهم، من أمثال أبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي.
سوار الذهب: النموذج الأهم للتسليم السلمي للسلطة في العصر الحديث
في العصر الحديث، ظلت مسألة الانتقال السلمي للسلطة أحد أهم المشكلات التي تؤرق العقل السياسي الجمعي للمسلمين، إذ اعتادت معظم الأنظمة السياسية العربية على الاحتفاظ بالسلطة للرمق الأخير، ممتثلةً للقول المشهور "السلطان إما في القصر وإما في القبر".
في مصر وسوريا والعراق على سبيل المثال، تنقلت السلطة في تلك البلاد بعد انعتاقها من الاستعمار الأجنبي، البريطاني والفرنسي، بين مجموعة من الجنرالات وقادة الجيوش الذين ورّثوا سلطاتهم إلى أبنائهم في الكثير من الأحيان.
في هذا السياق، يُعد الرئيس الأسبق لجمهورية السودان، عبد الرحمن سوار الذهب، حالة شاذة ومتفردة في التاريخ السياسي العربي الحديث. سوار الذهب الذي ولد في 1935م، وتدرج في المناصب العسكرية في الجيش السوداني بعد تخرجه من الكلية الحربية، كان يشغل منصب رئيس هيئة أركان الجيش السوداني، ثم وزير الدفاع، وذلك في عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري. في شهر إبريل من عام 1985م، وفي ظل اشتعال الأحداث في البلاد، فيما عرف وقتها بانتفاضة إبريل، انحاز سوار الذهب إلى صف الحركات الثورية التي طالبت بإنهاء حكم النميري، واتفق مع قادة الانتفاضة على ترؤس الجمهورية السودانية لفترة مؤقتة، لحين تهيئة الأوضاع لتسليم السلطة لحكومة مدنية. وهو ما تم فعلاً بعد عام واحد فقط، عندما تمّ تنصيب أحمد الميرغني رئيساً جديداً للبلاد، وتنحى سوار الذهب بعيداً عن المشهد السياسي برمته، ليمارس بعض النشاطات في حقل المجال الدعوي الإسلامي.