عادل حكيم:
في العام الثلاثين من الهجرة، جمعَ الخليفة الثالث عثمان بن عفان القرآن الكريم في مصحف واحد لمّا فزع حذيفة بن اليمان من اختلاف قراءة أهل أرمينية وأذربيجان عن القراء في مكة والمدينة، فهرع لعثمان يطلب منه أن "يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى"، بحسب رواية البخاري في صحيحِه.
لكن ظهور المصاحف السابقة لمصحف عثمان الجامع أبانت اختلافات عديدة في النصوص بين كلٍّ منها، فنجد أن كبار الصحابة الذين عُرف عنهم الكتابة نقلاً عن رسول الله أولاً بأوّل فترةَ نزول الوحي ـ علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب، وأُبيّ بن كعب، وغيرهم ــ بينهم بون شاسع في الألفاظ والمعاني، وهو ما أورده السجستاني تفصيلاً في كتابه "المصاحف"، مثل قراءة عُمر قوله تعالى: "الله لا إله إلا هو الحي القيام"، وليس "القيوم"!
الخلاف اللفظي بين مصاحف كبار الصحابة ومصحف عثمان، مرّ دون جدل مشهود، لكن الهيئة التي وُجِدَ عليها مصحف الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود هي الأشدّ وطأة، إذ نجدها تخلو من المعوذتين (الفلق والناس)، بل و"الفاتحة" وهي السورة المُجمع على أهميتها كجزء أصيل من الصلاة، إذ أنه "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، كما في "السنن" لأبي داود.
مصحف ابن مسعود بدون "فاتحة" ومعوذتين!
هناك فريقان في أمر كتابة ابن مسعود للفاتحة والمعوذتين في مصحفه، أحدهما يستبعد عدم وجود السّور، ويتزعم هذا الرأي كلٌّ من الرازي، وابن حزم، والنووي. أما السيوطي، والباقلاني، وابن قتيبة، والقرطبي، فيجزمون بإسقاط ابن مسعود للسّوَر الثلاث من مصحفه.
ويروي الطبراني في "المعجم الكبير": "حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَيَقُولُ: لِمَ تَزِيدُونَ مَا لَيْسَ فِيهِ؟"
يروي إبراهيم الأبياري في كتابه "الموسوعة القرآنية" نقلاً عن ابن النديم فيما رواه عن الفضل بن شاذان: "وكان عبد الله بن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه ولا فاتحة الكتاب."
الراوية ذاتها يؤكدها منقذ السقار في كتابه "تنزيه القرآن عن دعاوى المبطلين"، بقوله: "اختلف الصحابة في قرآنية أهمّ سوَر القرآن، وهي سورة الفاتحة، فلم يكتبها ابن مسعود من مصحفه، كما نقل عنه ذلك التابعي ابن سيرين بقوله: (إن أُبَيَّ بن كعبٍ وعثمانَ كانا يكتبان فاتحة الكتاب والمعوذتين، ولم يكتب ابن مسعودٍ شيئاً منهن.)"
خلاف المفسرين في ماهية الفاتحة يفتح أبواب الظّن
انشغل المفسرون والمحدّثون بموضع نزول سورة الفاتحة، وأسمائها، وعدد آياتها، وهل البسملة تعدّ آية أم لا، وانخرط آخرون في الإسهاب في مدى فضائلها، لكنهم على غير عادتهم لم يولوها اهتماماً في باب "أسباب النزول"، الذي من شأنه قطعُ أيّ شك في نصوص بعينها في القرآن، كما أن البون الشاسع في آرائهم بشأن موضع نزولها وعدد آياتها وما إذا كانت هي أولى السّور نزولاً أم "العلق"، وغيرها من الخلافات يعدّ مدخلاً مُبرَّراً للحديث بشأن تلك السّورة المُلغزة.
الحديث عن سورة الفاتحة في العلوم القرآنية والسنية لا ينقطع، والجدال على موضع نزولها على النبي بات محتدماً بين الكثيرين، فيقول البيهقي في "الدّلائل" إنها نزلت في مكة، حسبما نقله عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وغيرهم ممن يرى بأنها "أول سورة نزلت من القرآن بمكة"، لكن جماعة أخرى تُجزم بنزولها في المدينة، وفقاً لما ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" في رواية عن منصور عن مجاهد: "إن إبليس رنّ أربع رنّات: حين لُعِنَ، وحين أُهبِطَ من الجنة، وحين أُنزِلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة." وهو الرأي الذي قال به الطّبراني في كتابه "المعجم الأوسط".
وهناك من وازن بين الرأيين، مثل أبو اللّيث السمرقندي في كتابه "بحر العلوم"، الذي قال إن "الفاتحة" نزلت مرّة بمكة ومرّة بالمدينة، فهي بحسب تعبيره "مكية مدنية"، لكن غالبية المفسرين اللاحقين يميلون إلى الرأي الأول، فيقول عبد الرحمن بن أحمد أبو الفرج، في كتابه "تفسير الفاتحة": "والصحيح أنها أُنزِلت بمكة"، مستنداً على مكية سورة الحِجر، كونها السورة التي ورد فيها قوله تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ"، قائلاً: "والسّبعُ المثاني فسّرها النبيُّ بالفاتحة."
الخلاف على كون "الفاتحة" مكية أم مدنية، كان نقطة في بحر خلاف آخر، وهو: هل "فاتحة الكتاب" ــ كما يحبّ البعض تسميتها ــ هي "السبع المثاني" أم لا؟ إذ ذكر ابن رجب الحنبلي في كتابه "تفسير سورة الفاتحة"، عدة آراء أخرى تُخالف القائلين بأن المثاني هي الفاتحة؛ منها أنها هي السّبع الطّوال (البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال)، وبعضهم يرى بأنها معاني القرآن المعروفة، وهي (الأمر، والنهي، والتبشير، والنذير، وضرب الأمثال، والنِعَم، ونبأ القرآن). وآخرون رأوها بأنها الحواميم، أي السّور التي تبدأ بـ "حم" (غافر، وفُصِّلَت، والشّورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف).
للتاريخ رأي آخر!
عام 2012، أصدر الباحث العراقي« جمال علي الحلّاق، كتابه "آلهة في مطبخ التاريخ"، والذي يعدّ العمدة في هذا التصنيف في العصر الحديث، وأكثر المؤلفات التصاقاً بموضوع سورة الفاتحة، إذ اتخذ فيه منهج الشكّ الديكارتي، الذي بدأه الدكتور طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" الصادر عام 1926، واعتمد الحلاق في رؤيته على الخلافات الجليّة بين الفقهاء والمفسرين بشأن سورة الفاتحة. ليس هذا فحسب، بل أجاب على من "قد" يسأل: إن لم تكن الفاتحة من المصحف، لماذا هناك إجماع على قراءتها في كلّ صلاة؟ بأن "التشهّد" أيضاً ليس من القرآن، لكنه أساسيّ في الصلاة.
لكن أبرز ما أفرده الحلاق في كتابه بشأن سورة الفاتحة، هو أنها كانت دعاءً لأحد الموحدين قبل بعثة النبي، وهو زيد بن عمرو بن نفيل، الذي نُسِب إليه أكثر من فعل يكاد يتّفق مع كثير ممّا جاء في الأبجديات الإسلامية في مهد الدعوة؛ ففي راوية عن أسماء بنت أبي بكر أوردها النسائي في سُننه، مفادها أن ابن نفيل "كان يُحيي الموءودة، ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: مهلاً لا تقتلها. أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرت، قال لأبيها: إن شئت دفعتُها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها."
وعرف عن ابن نفيل عدم سجوده لصنم، فهو القائل: "فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها/ ولا صنمي بني عمرو أزورُ/ أَرَبّاً واحداً أم ألف ربٍّ/ أدين إذا تقسمت الأمورُ"، بحسب رواية المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".
أما عن صلة الموحد زيد بن عمرو بن نفيل بالفاتحة، فيقول جمال علي الحلاق في كتابه "آلهة في مطبخ التاريخ": "الفاتحة أكثر التصاقاً بالتاريخ الشخصي لزيد بن عمرو بن نفيل وبتجربته الروحية، ولهذا لا أشكّ في أنها كانت بعضاً مما ورد على لسان زيد قبل الإسلام، تماماً كما نزلت آيات عديدة على لسان عمر بن الخطاب ومصعب بن عمير وآخرين في ما بعد."
وكثرت أدلة الحلاق على نسب سورة الفاتحة ـ أو كثير من ألفاظها ـ لابن نفيل، منها اختلاف آيات السورة ذاتها في مصحفي عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، فالأول يقرأ: "صِرَاطَ مَن أًنْعمْتَ عَلَيْهِم"، بدلاً من "صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ"، والثاني يقرأ: "أَرشِدْنا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم"، بما يخالف ما جاء في الرسم العثماني الذي نعرفه: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم"، فضلاً عن عدم كتابته لها في مصحفه "حتى لا يختلط فيه (القرآن) ما ليس فيه"، بحسب ما روي عنه.
واحدة من الحوادث التي يعتبرها جمال علي الحلاق ذات دلالة على عدم قرآنية الفاتحة، هي حادثة إسلام عبد الله بن مسعود، التي تُذكر مع حادثة إسلام سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل "وهي إشارة صارخة إلى أن ابن مسعود كان قريباً جداً من حلقة زيد بن عمرو بن نفيل، رغم سكوت كتب الأخبار والسيرة عن ذلك". كما يشير جمال علي الحلاق إلى أن ما ذكره ابن كثير في تفسيره للآية السابعة من سورة الفاتحة "صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ"، لسيرة زيد بن عمرو بن نفيل "لم يأتِ اعتباطاً".
ويتطابق تفسير ابن كثير لنهاية السورة "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"، بأن المغضوب عليهم هم اليهود، والضّالين هم النصارى، مع ما جرى لزيد بن عمرو بن نفيل، حين خرج إلى الشام يطلب الدين الحنيف، قالت له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله. قال: أنا من غضب الله أفِرّ. وقالت له النصارى: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ نصيبك من الضّلال، فرفض، واختار أن يظلّ حنيفياً، بإجماع الرّواة.