إسلام عبدالوهاب:
لم يشأ النبي أن تكون بين الناس صحف فيها كلام غير كلام الله، حتى لو كان هذا الكلام هو كلامه شخصياً. وعليه، كيف جرى تدوين الحديث؟ وما هو تاريخ هذا التدوين الذي يخفى على كثيرين من الناس.
جاء في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي قال: لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه. وجاء في سنن الترمذي، عن أبي سعيد الخدري أيضاً، أنه قال: استأذنّا النبي في الكتابة فلم يأذن لنا.
وينقل أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي هريرة أن النبي حين سمع منهم ما يكتبونه غضب وقال: "أكتاب غير كتاب الله؟ امحضوا كتاب الله، وأخلصوه". قال أبو هريرة: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد، ثم أحرقناه بالنار.
رغم نهي النبي الواضح عن كتابة أحاديثه، إلا أن هناك روايات مؤيدة للتدوين. فقد روى البخاري أن النبي خطب في فتح مكة فطلب رجل من النبي أن يكتبوا له الخطبة فقال النبي: أكتبوا لأبي شاه.
وأيضاً عن أبي هريرة أن عبد الله بن عمرو أكثر حديثاً منه لأنه كان يكتب. وقال العسقلاني: ويستفاد منه أن النبي أذن في كتابة الحديث عنه، وجاء في المستدرك على الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، أنه سأل النبي أن يكتب ما يسمعه منه في كل أحواله، فأجاب النبي: نعم، إنه لا ينبغي لي أن أقول إلا حقاً.
وعلق المفكر أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام" قائلاً: أراد بعض العلماء التوفيق بين هذه الأحاديث المتضاربة فقالوا: إن النهي عن الكتابة كان وقت نزول القرآن خشية التباس القرآن بالحديث. لكن محمد رشيد رضا دافع عن أن النبي لم يأمر بتدوين السنة، وقال: أقوى هذه الأخبار من حيث صحتها حديث أبي سعيد الخدري عن الرسول الناهي عن الكتابة ولا تعارضه بقية الأخبار، ولا تقوم حجة لضعفها، وانقطاع أسانيدها.
لكن الشيخ محمد أبو زهو يعتبر أن حديث أبي سعيد موقوف عليه وليس من كلام الرسول، قال: "حتى إذا ذهبنا إلى أن هذا الحديث مرفوع إلى النبي فالذي نميل إليه ونستظهره هو أن آخر الأمرين من رسول الله هو الإذن بكتابة الحديث.
أبو بكر يحرق كتب الأحاديث
تشير أخبار كثيرة منتشرة بين ثنايا كتب التاريخ القديمة إلى أن رفض كتابة الأحاديث استمرّ بعد وفاة النبي، في عهد الخلفاء الراشدين، ما يُضعّف حجة القائلين بأن النبي عاد وسمح بكتابة كلامه من غير القرآن.
فقد نهى الخليفة الأول أبو بكر عن كتابة الحديث. روت عائشة، حسبما جاء في "تذكرة الحفاظ" للإمام الذهبي، أن أبا بكر جمع عن النبي خمسمئة حديث، ثم بات ليلته يتقلب، ولما أصبح قال لعائشة: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنا فحرقها فقلت: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذاك.
وما يؤكد هذه الرواية أن أبا بكر من الرواة المقلين عن النبي، رغم كونه أكثر الصحابة ملازمة له، قال النووي: روى الصديق عن رسول الله مئة حديث واثنان وأربعون حديثاً، اتفق البخارى ومسلم منها على ستة، وانفرد البخارى بأحد عشر، ومسلم بحديث، وسبب قلة رواياته مع تقدم صحبته وملازمته النبي أنه تقدمت وفاته قبل انتشار الأحاديث، واعتناء التابعين بسماعها وتحصيلها وحفظها.
عمر... من منع الرواية إلى حبس الرواة
كان عمر بن الخطاب أشد رفضاً من أبي بكر لرواية الأحاديث وتناقُلها على ألسنة الناس. جاء في تقييد العلم للخطيب أن ابن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار فيها أصحاب رسول الله، فأشار عليه عامتهم بذلك، وبعد شهر قال: إذا أناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً. وترك كتابة السنن.
لم يكتفِ عمر بما اهتدى إليه من عدم كتابة السنن، بل أحرق الكتب التي جُمعت فيها الأحاديث. جاء في "تقييد العلم" للخطيب أن عمر بن الخطاب، بلغه أنه قد ظهر في أيدي الناس كتب فاستنكرها وكرهها، وطلب من الناس رؤيتها، فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثم قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب.
ومنع عمر الرواة من تناقل الأحاديث. وجاء في "مختصر تاريخ دمشق" لابن منظور و"البداية والنهاية" لابن كثير أن عمر بن الخطاب قال لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس! وقال لكعب: لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة. وجاء في "تذكرة الحفاظ" للإمام الذهبي أن عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري؛ فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله. وجاء في كتاب الإرشاد لأبي يعلى الخليلي أن عمر بن الخطاب حبس جماعة منهم أبو هريرة وقال: أقلوا الرواية عن رسول الله، وكانوا في حبسه إلى أن مات.
كبار الصحابة يمتنعون عن رواية الحديث
كان عثمان بن عفان من كبار الصحابة الملازمين للنبي وكان يخشى الحديث عن النبي. وجاء في "الطبقات الكبرى" لابن سعد: وقف عثمان بن عفان على منبر وقال: لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر، فإنه لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله ألا أكون من أوعى أصحابه عنه، ألا إني سمعته يقول: مَن قال عليّ ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار.
وترك كبار الصحابة أيضاً الحديث عن النبي. روى البخاري عن السائب بن يزيد أنه صحب من كبار الصحابة ولم يسمعهم يحدثوا، قال: إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد، وقال الحافظ بن حجر في شرح الحديث: قال ابن بطال وغيره: كان كثير من كبار الصحابة لا يحدثون عن رسول الله خشية المزيد والنقصان.
أما العسقلاني، فقال: كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظاً كما أخذوا حفظاً، لكن لما قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دوّنوه.
وقال الشيخ محمود أبو رية في كتابه "أضواء على السنة المحمدية": كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفتيا منهم يتقون الرواية عن النبي ويهابونها بل كانوا يرغبون عنها، إذ كانوا يعلمون أنهم لا يستطيعون أن يؤدوا كل ما سمعوه عن النبي على وجهه الصحيح.
ورأى محمد رشيد رضا عن الصحابة: لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث ديناً عاماً كالقرآن ولو فهموا عن النبي أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وثقوا به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به.
لكن مصطفي السباعي يعارض هذا التوجه ويقول: يرد هذا الأمر إلى الخوف من اختلاط بعض أقوال النبي بالقرآن، ولا يرى في هذه الأخبار تعارضاً، فالنهي هو نهي عن التدوين الرسمي كما يدون القرآن، وأما الإذن فهو سماح بتدوين نصوص من السنة لظروف أو ملابسات أو السماح لبعض الصحابة بكتابة السنة لأنفسهم.
بين أبي هريرة وعائشة
إذا كان كبار الصحابة أقلوا في الحديث عن النبي كما سبق وأشرنا، فمن أين أتت كل هذه الأحاديث؟ كان أكثر الصحابة رواية عن الرسول ستة يتقدمهم أبو هريرة وتتوسطهم عائشة. فما كان رأي كل منهما في الآخر؟
جاء في "مختصر تاريخ دمشق" لابن منظور أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة فقالا لها: إن أبا هريرة يقول: إن الطيرة في الدار والمرأة والفرس. فغضبت من ذلك غضباً شديداً، وقالت: كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم ما قاله. إنما قال: كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك.
أبو هريرة كذب بلفظ عائشة، بل أنهما حين التقيا وجهاً لوجه اتهمته عائشة باختلاق الأحاديث، لكن بدلاً من أن يدافع عن نفسه بادر بحمل الكلام عليها. جاء في كتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلاني: قالت عائشة لأبي هريرة إنك لتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً ما سمعته منه قال شغلك عنه يا أمه المرآة والمكحلة وما كان يشغلني عنه شيء.
التدوين والوضع والسياسة
لم يكن التدوين الذي بدأ متأخراً في القرن الثاني الهجري، قبل البخاري وبعد موت الصحابة وأغلب التابعين، سوى أمراً من حكام بني أمية. فالشهاب الزهري، ويُعَدّ أوّل من دوّن الحديث أُكره على ذلك. جاء في جامع بيان العلم لابن عبد البر: قال الزهري: كنا نكرهه حتى أكرهنا عليه الأمراء فلما أكرهونا عليه بذلناه للناس.
تلى إكراه الحكام الأمويين المحدثين على تدوين الحديث، وضع الاحاديث المنسوبة إلى النبي لتثبيت حكمهم. قال المفكر أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام": الخصومة بين علي وأبي بكر، وبين علي ومعاوية، وبين عبد الله بن الزبير وعبد الملك، ثم بين الأمويين والعباسيين، كل هذه كانت سبباً لوضع كثير من الحديث.
وقال الشيخ والمفكر محمود أبو رية في كتابه "أضواء على السنة المحمدية": السياسة قد دخلت في هذا الأمر وأثرت فيه تأثيراً بالغاً فسخرته ليؤيدها في حكمها، وجعلته من أقوى الدعائم لإقامة بنائها، وقد علا موج هذا الوضع السياسي وطغا ماؤه في عهد معاوية الذي أعان عليه وساعده بنفوذه وماله.
نظرة أخرى إلى الحديث
تحدث نصر حامد أبو زيد في كتابه نقد الخطاب الديني عن إشكالية السنّة، وأوجزها حين قال: لم تدون إلا متأخرة، وخضعت من ثم لآليات التناقل الشفهي، الأمر الذي يقربها إلى مجال النصوص التفسيرية من حيث أنها رويت بالمعنى لا بلفظ النبي.
أما الإمام محمد عبده وهو مفتي الديار المصرية الأسبق فكان موقفه واضحاً من السنّة النبوية، وهو عدم قبول حديث يتعارض مع القرآن أو العقل أو العلم، إذ اعتبر أن لا اعتراض على "الحديث" الذي يتوافق تماماً مع القرآن وبدون أن يغيّر أو يحرف معناه أو يضيف أية أحكام مختلفة أو جديدة عنه.