جمال عمر:
أرى ثلاثة منابع معرفية للعنف، منها ما هو تراثي، ومنها ما هو ابن عصرنا الحديث ونتاجه، وهو الأكثر فاعلية من غيره. فمن التراث تسرّبت إلى وعينا فكرة شمولية النصوص الدينية وما زالت فاعلة بقوة، فقد نُسب للرسول عليه السلام قوله عن القرآن إنه كتاب فيه "نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل".
النبي توفاه الله ولم يكن هناك مصحف واحد في الوجود، ويشير القرآن إلى ذاته بأنه كتاب. ولكن هل كلمة "كتاب" في الاستخدام القرآني أو الاستخدام النبوي تتطابق مع دلالة كلمة "كتاب" في ما بعد في عصورنا التي توفَّر فيها الورق وصناعته، ومع ظهور المطبعة الحديثة؟ بمعنى هل كلمة كتاب بدلالتها المعاصرة لنا كانت لها نفس الدلالة وقت ظهور القرآن وكلام النبي أم كان لها دلالة أخرى؟ لكن لهذا حديث آخر.
السؤال الأساسي الآن هو: هل المصحف فعلاً يشمل معرفة السابقين واللاحقين وفيه الفصل في ما نحن فيه؟ بل هل تعامل المسلمون الأوائل معه أصلاً بهذه الطريقة؟ بل هل تعاملوا مع ما يقوله الرسول ذاته لهم ويأمرهم به بهذه الطريقة؟ أم أنهم فرّقوا بين ما يخبر به النبي من أخبار الغيب في مسائل المآل والمصير الأخروي دينياً، وبين ما هو دنيوي قائم على المعارف البشرية والفعل الإنساني، وراجعوا الرسول واختلفوا معه فتراجع وغيّر ليوافق اختلافهم معه؟
هل فكرة شمولية النصوص الدينية وسلطتها وتأصيلها في الثقافة هي جهد بشري تاريخي، قامت كمنظومة فكرية وترسخت عبر التاريخ؟ حين تذكر المرويات العديدة الخلاف بين المسلمين الأوائل في سقيفة بني ساعدة عام 632م تقريباً حول خلافة النبي في تولي أمر شؤون المسلمين، لم تذكر أي حجج أو سند نصي تقريباً، بل التفاوض كان في مجمله قَبَلي ليس بنص من قرآن ولا بمروية عن النبي.
وحين تشبث الخليفة الثالث عثمان بن عفان (575/ 656) بالسلطة في مواجهة "الخارجين عليه"، أي الثائرين ضد طريقته في الحكم، رُوي أنه تمسك بالسلطة على أنها "لباس ألبسنيه الله". فسلطته صُوّرت على أنها من الله وليس للبشر دور في خروجه منها.
لكن النقلة الكبرى لسلطة النصوص كانت عبر دعوة فريق معاوية بن أبي سفيان (608 - 680) وعمرو بن العاص (573 - 664) إلى تحكيم كتاب الله في الخلاف السياسي بينهم وبين فريق علي بن أبي طالب (599 - 661)، في موقعة صفين (657/ 37هـ)، لينتقل القرآن من كونه ساحة للفهم والتدبر والاستيعاب إلى أن يُصبح المصحف سلطة، وسلطة تُفرض بالقوة، سلطة تتخفى وراءها أفهام البشر ومصالحهم وأغراضهم وتصوراتهم التي هي بنت عصرهم. هكذا كانت البداية المفصلية لتحويل النصوص، وليس نصوص القرآن أو المصحف فقط، إلى سلطة، وظهرت سلطة كل نص سبق على واقع أتى في ما بعد.
وشكّل عمل الإمام الشافعي (757 – 820) مفصلاً مهماً في هذا السياق، عبر الأصول الفكرية التي أصّلها في مصنفه "الرسالة" كأصول للفقه. أسس لشمولية القرآن فكرياً، الشمولية التي لم تنسحب فقط على المصحف، بل وانسحبت تقريباً على أفهام البشر للمصحف.
وبناءً على شمولية الوحي القرآني والمصحف، بنى الشافعي شمولية السنّة التي توسع في مفهومها من كونها الأفعال الدينية التي أمر بها النبي في أمور دينية وتناقلها المسلمون من جيل إلى جيل فعلاً، إلى كونها كل ما فعله النبي وقاله وسكت عنه. والخطوة الأهم في عمله هي أنه جعل كل هذه العناصر هي الأخرى وحياً من الله معتمداً على أن كلمة "الحكمة" في المصحف هي السنّة.
ولأنه اعتبر أن اللغة العربية من الاتساع بحيث لا يحيط بعلمها إلا نبي، فلا يحيط بعلم القرآن ومعانيه إلا نبي، ولا سبيل للبشر إلا بالاتّباع، جعل الإجماع مصدراً من مصادر التشريع، والدين، في مذهبه. وقيّد القياس الذي هو مجال نشاط العقل عنده بالنصوص ليصبح مجرد قياس واقعة حالية على واقعة سابقة يشتركان في العلة.
يمكنني أن أدّعي أن الإمام الشافعي بجهده الفكري الجبار هذا هو واضع مسائل النصوصية، ومؤسس "سلطة النص"، ليس سلطة النص القرآني فقط بشموله على كل المعارف، بل كل نص سابق، ومن ضمنها سلطة قول الإمام داخل المذهب الفقهي على أتباع المذهب في عصوره التالية، إلى سلطة نص قول الحاكم حتى ولو كان ظالماً، لتصل في عصرنا إلى سلطة نصوص تويتر وبوستات فيسبوك ومقاطع فيديوهات يوتيوب.
وأصبح جهد كل مفكر ليعطي شرعية لما يقوله أن يأتي بنص سابق. ليس فقط من المصحف ولا حتى قولاً منسوباً للنبي عليه الصلاة والسلام، بل يكفي أن تقول "قال الشافعي" أو "قال شيخ الإسلام ابن تيمية" والتي أصبحت "قال السيد الرئيس" وقال "سيادة الوزير" وقال "الإمام الطيب"، إلى درجة مزاح المصريين الذكور في إشاراتهم لزوجاتهم بـ"الحكومة قالت".
هذه الشمولية للنصوص التي انسحبت من النصوص الدينية الأصلية إلى النصوص الثواني، وإلى أي نص سابق، تسجن وعينا في ما نصه القدماء وفي ضيق رؤاهم لوجودهم طبقا لأدوات عصرهم.
لكن الأخطر هو صبغها لشمولية الإسلام، هذه الشمولية التي بنت قلاعاً تراثية للحماية، كانت أدوات السلطة في كل عصر لمصادرة المخالفين لها سياسياً وفكرياً، من خلال قوائم ممنوعات تتمثل في تحديد العقائد الصحيحة، وقوائم "المعلوم من الدين بالضرورة" و"ثوابت الدين" و"الوسطية"، لتصبح في عصرنا "الثوابت الوطنية" و"الأمن القومي" و"ميثاق الشرف الصحفي".
هذا الجهد الذي أصّله الشافعي يحتاج إلى درس وتدقيق. سلطة النصوص التي أسسها ولّدت انفجاراً في "وضع النصوص" أي اختلاق نصوص ونسبتها للنبي وللصحابة. ولتدرك الفَرق، انظر إلى عدد مرويات موطأ الإمام مالك (711-795)، أستاذ الإمام الشافعي، وقارنها بعدد المرويات في مسند الإمام أحمد بن حنبل (780- 855) تلميذ الشافعي. تضاعف عدد المرويات أكثر من عشرين مرّة.
حين يأتي مفكرنا الحديث والمعاصر ليتعامل مع متغيرات العصر ومع تحديات الحداثة والغرب وبلاويه، مُتسلحاً بدروع الإمام الشافعي، من شمولية النصوص السابقة وسلطتها، يذهب للبحث عن إجابات وحلول لأسئلة عصره ومشكلات واقعه في النصوص السابقة.
تصبح النصوص، وخصوصاً نص مثل المصحف، نصوصاً تعتمد على التعبير بالإيحاء وبالمجاز، فيصبح النص مرآة بها كل ما نحن فيه، ويصبح فيه كل ما توصّل إليه البشر من علم ومن مخترعات ومن نظم وفلسفات وقوانين وتشريعات، بل وفنون. من هنا الحديث عن الإعجاز العلمي، والإعجاز العددي، والإعجاز الصوتي، إلخ.
وتصبح شمولية الإسلام وشمولية النصوص وسلطتها مجرد أقنعة وكهوف يتخفى بها وخلفها أصحاب النفوذ في حياتنا ليبرروا بها نفوذهم وسلطاتهم وظلمنا باسم الله وباسم الدين وباسم اتّباع النبي الكريم.
الجانب الآخر العنيف من شمولية النصوص هو محاولة المسلم أن يفرض ما يتصوّر أنه مقصد النص، والذي هو عبارة عن فهم السابقين المحدود بحدود وسائلهم بالمعرفة وباهتمامات عصرهم له. فحين لا يدخل المجتمع في الصورة المُتخيلة لما هو تراثي والتي يتصوّرها الشاب، عضو الجماعات، على أنها الدين، يحاول أن يُدخلَها بالقوة. وكلما استعصى الواقع على الدخول في ما يريده يزيد العنف، وكلما زادت سرعة ومجالات التغيّر في المجتمع، كلما زاد العنف.
وما طرح التكفير والهجرة للمجتمع دينياً وثقافياً إلا محاولة لتثبيت صورة للماضي، وتثبيت للعالم الذي يألفه، وحماية له من التغيرات السريعة، ومن المجهول الذي يُخبئة غيب المستقبل.
باللحية والجلباب وزبيبة الصلاة والمصحف في الجيب أو في المحمول، وبالنقاب والحجاب والإسدال، وبالعربية التراثية وبالسلام في التليفون بدلاً من كلمة "ألوه"، يحاول المتديّن مقاومة التغير الذي شهده ويشهده المجتمع، ويحاول مواجهة الانحدار والسقوط عن النموذج الذهبي الكامل الذي يتصوّر أنه كان موجوداً في عصر الوحي والخلافة الراشدة.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22