بيار روباري:
إن الأمر الذي دفعني إلى كتابة هذه الأسطر حول هذا الموضوع، هو ما حدث للإخوة المسيحيين في سوريا والعراق من قتل وتهجير إسوة بما جرى لإخوانهم الكرد، على يد عصابات الإرهاب والإجرام كتنظيم داعش وجبهة النصرة.
ولاحظت إن الكثيرين من المسلمين والمسيحيين وغيرهم يظنون، إن إضمحلال عدد المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط، حديث العهد ومرتبط فقط بالأوضاع الإقتصادية وقساوة بعض الحكام في المنطقة، خلال المائتين العام الأخيرة، وهذا غير صحيح على الإطلاق. إنما الأمر يعود إلى صدر الإسلام وتحديدآ أيام محمد صاحب الدعوة، وكان ذلك موقفآ سياسيآ وفكريآ ودينيآ من قبل محمد تجاه المسيحيين ودينهم. ولهذا لم يأتي القرأن ولا مرة على ذكر كلمة المسيحية في أي صوره وأية من أياته، رغم إن زوجة محمد خديجة كانت مسيحية. ومن يعود إلى الإتفاق الذي جرى بين قبيلة بني تغلب المسيحية، التي كانت تقيم في شمال شبه الجزيرة العربية وبين محمد، يكتشف إن بداية التضييق على المسحيين المشرقيين بدأ منذ ذلك الوقت ومازال الأمر مستمرآ إلى يومنا هذا.
هذا الإتفاق وقعه محمد مع تغلب مجبرآ، رغم مخالفة بعض بنودها للنصوص القرأنية حيث ينص القرأن على ما يلي: «إما أن يعتنق المرء الإسلام أو أن يدفع الجزية أو يتم قتله أو طرده من البلاد». التغلبين رفضوا الدخول في الإسلام وإعتبروا دفع الجزية أمرآ مهينآ لهم ولهذا رفضوا الأمر، مما إضطر محمد بقبول صيغة إخرى يتم دفع الضريبة للدولة الجديدة على أساس أنها الصدقة المضاعفة. إن السبب الذي دفع بمحمد لقبول ذلك، هو قوة ونفوذ بني تغلب الإقتصادي والعسكري وتجاورهم للدولة البيزنطية المسيحية، وخاف محمد من أن تنضم بني تغلب إلى الصليبين المجاورين لهم، وبالتالي يمكنهم تهديد دولته الوليدة ودحرها.
الإتفاقية بين الطرفين طويلة وأنصح بقرأة نصوصها كاملة لمن يرغب في معرفة جميع تفاصيلها، ولكني سوف أسرد أحد بنودها لخباثة هذا البند وينص على ما يلي: «لا يحق لبني تغلب تنصير مواليدهم الجدد بدءًا من الأن فصاعدآ». هذا البند يوضح حقيقة موقف محمد وإسلامه من المسيحيين والأخرين، ويدحض بجلاء مقولة تسامح الإسلام مع الأديان الإخرى وأتباعها. وعندما إستلم أبو بكر ضفة الحكم في مكة، حافظ على العهد الذي قطعه محمد مع بني تغلب وإستمر الوضع على حاله، ولكن عندما أتى عمر بن الخطاب إلى سدة الحكم، نكس بتلك المعاهدة وطرد أربعين ألف مسيحي من منطقة نجران دون أي ذنب!!
وما منحهم الإسلام من بعض الحقوق أخذها منهم الأئمة الأربعة، وهذا واضح بشكلٍ جلي في مواقفهم المعلنة. والأئمة الأربعة هم:- الإمام أبو حنيفة النعمان (699م- 767م) مذهبه الحنفي. – الإمام مالك بن أنس 715م – 796م) مذهبه المالكي. – الإمام محمد بن إدريس الشافعي (766م – 820م) مذهبه الشافعي. – الإمام أحمد بن حنبل (780م ـ 855م) ومذهبه الحنبلي.
حيث إعتبرهم الإمام الشافعي من أهل الحرب وحرم أكل طعامهم والزواج منهم ودعى إلى التعامل معهم كعدو. أما موقف الإمام أحمد بن حنبل لم يكن أفضل حالآ من موقف الشافعي. أما الإمام المالكي فقد سمح بأكل طعام المسيحيين والزواج منهم، ولكنه رفض تسميتهم بأهل الذمة، وطالب بأخذ الصدقة المضاعفة منهم. والوحيد الذي كان أكثرة مرونة معهم هو الإمام حنيفة النعمان حيث سمح بالزواج منهم وأكل طعامهم وإعتبرهم من أهل الذمة، حسب ما ينص على ذلك القرأن.
ولكن إبن تيمية (661هـ/ 1263- 728هـ/1328م) كان الأخطر من بين الجميع الأئمة المسلمين وكل هذه الأفكار الإرهابية المعاصرة مستمدة من أفكاره، حيث دعى صراحة إلى محاربة المسيحيين وغيرهم، ورفض إعتبارهم من أهل الكتاب.
وهناك خطأ تاريخي يقع فيه الكثيرين من الناس، وهو إن العرب في الجزيرة العربية، إنتقلوا من الوثنية «الجاهلية» إلى الإسلام مباشرة، وهذا مجرد كذب ولا يمت للحقيقة بشيئ. هذا التسويق يقوم به بعض المنافقين الإسلاميين بهدف تزوير الحقائق التاريخية. أقول لهؤلاء المزورين، أين كان يعيشون بنوا إسرائيل، أليس في المدينة؟ وقام رسولكم بطردهم منها؟ وذلك بسبب رفضهم إعتاق الدين الجديد ودفع الجزية؟ ثم أليس أشهر شعراء العرب قاطبةً امرؤ بن القيس كان مسيحيآ؟ ومملكة والده كيندا بأكملها كانت مسيحية ومثلهم زوجة محمد خديجة وعائلتها؟
وإلى جانب بني تغلب كان هناك العديد من القبائل الإخرى يعتنقون المسيحية، منهم بنو غسّان وقبائل كلب، بكر، لخم، جذام، وطي، قضاعة، تنوخ، والضجاعم من بني سليح وغيرهم، وكانت هذه القبائل على علاقة مع قبائل قلب الجزيرة وبينهم قرابة وتصاهر وتجارة بفعل الترحال والتنقل، كما وجدت المسيحية فـي اليمن وسلطنة عمان والبحرين ومكة نفسها، التي تعبّد فـيها النبي محمد والقس الأسقف ورقة بن نوفل فـي غار حراء.
وبدليل وجود كثير من المفردات العبرية والأرامية والسريانية وحتى اليونانية والكردية في القرأن، ولا ننسى كل ما جاء به محمد مأخوذ عن الزرادشتية والمسيحية وهي أخذتها بدورها عن اليهودية، واليهودية بدورها أخذت تلك المبادئ والطقوس الخاصة بالعبادة، كالصوم والصلاة والزكاة والحج، عن الزاردشتية أول دين توحيدي. ولا بد من التذكير بأن المسيحيين المشرقيين، كانوا ينقسمون حينذاك إلى مجموعتين، المجموعة الأولى كانت تسمى النســـاطرة، وهي التي لا تؤمن بالوهية السيد المسيح وهذا ماتبناه الإسلام، والمجموعة الإخرى تسمى بالــيــعـــاقــبــة، وهذه تؤمن بالوهية سيد المسيح. وفيما بعد تعددت المذاهب والمدارس المسيحية أكثر وأكثر.
والبداية الجدية لإضمحلال المسيحيين المشرقيين، تعود إلى القرن العاشر الميلادي وإستمر ذلك عبر القرون التالية وإلى يومنا هذا، وتكاد المنطقة الأن تخلوا منهم، بفعل عوامل كثيرة منها:
– وجود نية حقيقية منذ بدء الدعوة الإسلامية، للتخلص من المسيحيين واليهود والقضاء حتى على دور عبادتهم.
– ترحيل مسيحي نجران على يد عمر بن الخطاب.
– إسلام نصارى تنوخ.
حيث قام الخليفة المهدي بضرب عنق سيدهم ابن محطة، عندما أبوا أن يعتنقوا الإسلام، اثناء إستقبالهم له في منطقة حلب، فأسلم الباقون من خوفهم ورعبهم، رغم إن عددهم كان حوال خمسة ألاف شخص. ونفس الامر فعله الخليفة المهدي مع بني سليح المقيمين بحاضر قنسرين.
– خراب الحيرة والأنبار، اهم معقلين للمسيحيين العرب.
– تعرض موطن بني تغلب (حوالي مدينة ديرالزور والرقة) بسوريا، الى الكثير من الحروب والاضطرابات السياسية منذ القرن الرابع هـ، مما دفع الكثير من أهلها الى الرحيل عنها. وفي النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي تشتت بنو تغلب وفقدوا بعض ديارهم كبلد وسنجار وماردين.
– هجرة بني كلب، حيث الكثيرين منهم هجروا الى بلاد الروم، والذين أرادوا البقاء تحت سيادة الدولة الإسلامية، كان عليهم أن يقبلوا بالإسلام دينآ أو العيش أذلاء.
ثم إختلف الأمر من مرحلة لإخرى ومن حاكم لأخر، فمثلآ خلال عهد الخليفة العباسي العاشر (المتوكل على الله 861-847م)، والذي تمذهب بالمذهب الشافعي، شهدت فترة حكمه بداية تداعي الدولة العباسية. حيث أعاد تطبيق ما فرضه عمر بن عبد العزيز على المسيحيين، وأضاف إليه منعهم من الاحتفال بأعيادهم خارج بيوتهم وعدم احترام ملكياتهم أو كنائسهم، وأكره مجموعة على الإسلام قرب حلب.
وعندما شنت الحــروب الصلـيبـيـة (1291-1096م) على المشــرق كانت بمثابة الوبال على المسيحيين المشرقيين، حيث لم يسلموا من شر الأوروبيين الغازين للمنطقة، ففـي أنطاكية والقدس قتل الكثيرين منهم لأنهم مغايرون فـي أغلبيتهم الساحقة للعقيدة الدينية للقادمين بحجة تحرير القدس، واحتلت أديرة كثيرة فـي أنطاكية وأماكن أخرى، حتى أن شكل الكثير من الكنائس قد تم تبديلها.
وبعد إنتصار المسلمين على الصليبين بقيادة صلاح الدين الأيوبي (الكردي) في معركة حطين وخروج الصليبين من المشرق، لم يسلَم المسيحيين من ظلم بقايا السلاجقة والمماليك الذين أتوا إلى الإسلام من خلفيات بربرية فظة، فقد اعتبر السلاطين أن قسماً من المسيحيين وتحديداً الموارنة ساعدوا الصليبيين، لذا قاموا بالتنكيل بهم مما إضطر جزء من الموارنة للهجرة إلى قبرص وغيرها من البلاد.
وخير دليل على تدهور الحال آنذاك، هو الاضمحلال النهائي لأكبر تجمعٍ مسيحي مشرقي متطور معرفـيآ وعمرانيآ وزراعيآ ومستقرآ، فـي ما يعرف حاليا بـالمدن الميتة فـي شمال سورية، والتي تشمل محافظة إدلب وقسمآ من جبل الأكراد، وتضم بقاياها أكثر من 1600 كنيس ودير أثري ومدناً وقرى، كان يوجد فيها معاصر وخوابي الزيت الأولى في العالم القديم حسب المصادر التاريخية. وكما يوجد فـيها كاتدرائية سمعان العمودي الكبرى التي تبلغ مساحتها حوالي 12 ألف متر مربع، وكاتدرائية جوليانوس فـي قرية براد الواقعة ضمن منطقة عفرين الكردية وتحديدآ في جبل ليلون.
أما في فترة حكم المماليك التي إمتدت ما بين أعوام (1517-1250م) والتي تعتبر الأشد حلكة فـي تاريخ المشرق ككل، حيث انهار العمران وتناقص عدد سكان منطقة شرق المتوسط بشكلٍ مريع، فهبط عددهم فـي الهلال الخصيب من 4 ملايين انسان وما يزيد فـي العام 900م، نصفــهم كانوا من المسيحـيـيـن إلى 1.2 ملــيون شخــص تقريبآ فـي عــام 1343م، مما حدى بالممــاليك عدم الطلب من الناس على تغير ديانتهم وإنشغلوا بامور إخرى غير ذلك.
وبعد إنتصار العثمانيين في معركة مرج دابق قرب حلب عام 1516م، تحسن وضع المسيحيين المشرقيين بعض الشيئ عما كان الحال عليه أيام المماليك، ولكن هذا الوضع لم يدم طويلآ. وخاصة بعد الإتفاقية التي وقعت بين السلطان العثماني سليمان القانوني الذي حكم بين (1566- 1520م) والسفـير الفرنسي جان دي لافوريه، والتي تضمنت بنود تتعلق بالأشخاص والملكيات الفرنسية في المشرق تشمل مسيحيي المشرق وتحديدآ الكاثوليك أي المورانة، وبذلك تم ربطهم بالعواصم الأوربية. والإمبرطورية العثمانية كانت تنظر للمسيحيين على أنهم مجرد دافعين للضرائب ولم تثق بهم يومآ. وفي نهايات تلك الإمبراطورية المتخلفة، هاجر الكثير من المارونيين المسيحيين إلى أمريكا اللاتينية والشمالية، بحيث أن عدد المسيحيين في المهجر وصل إلى عشرات الملايين من لبنان وسوريا على وجه الخصوص.
من هنا يمكنني القول، إن ما حدث خلال الخمسين السنة الماضية للمسيحيين وما يحدث لهم اليوم، هو عبارة عن إمتداد لِمَ سبق، والجديد في الأمر هو إختلاف تسميات القائمين بالتعرض لهم والأساليب لا أكثر.
المطلوب من جميع الأطراف الإقليمية والدولية المحبة للحرية، أن ترفع صوتها وتهب للدفاع عن الأقليات الدينية والقومية في هذه المنطقة ومنهم الإخوة المسيحيين والإيزيدين والصائبة والزاردشتيين، لأنهم يشكلون لوحة فسيفسائية جميلة، التي يتكون منها منطقة الشرق الأوسط، وخاصة بسوريا والعراق ولبنان وكردستان.
وعلى الإخوة المسيحيين والإيزيديين التشبث بأراضيهم وأن لا يغادرها إلى اوروبا أو أمريكا الشمالية، لأن بالضبط هذا ما يريدوه اولئك الأشرار من إرهابي داعش وجبهة النصرة ومعهم الأنظمة المستبدة الحاكمة منذ سنين طويلة.