مجهولوا القرآن - مقالات
أحدث المقالات

مجهولوا القرآن

مجهولوا القرآن

منير درويش:

 

أدت آيات القرآن دوراً كبيراً في حماية الدعوة الإسلامية، تحديداً خلال مرحلتها التأسيسية، وهذه الحماية لم تتوقف فقط على إرساء دعائم الدين الجديد عبر سلسلة من الأحكام الفقهية والتشريعية، أو إطلاق التحديات الإعجازية في وجه مشركي قريش، وإنما امتدَّ الأمر للحفاظ على صورة النبوة وجلالها.

فلقد اعتمد النبي على آيات القرآن بشكل رئيسي لتُعينه على تجاوز أي مشكلة يُطلب فيها منه حلّاً يستعصي على ذهنه البشري، بداية من أسئلة اليهود الخوارقية عن البعث والنشور وقصص الأولين، وحتى أصغر الأحكام الفقهية التي لجأ فيها الصحابة إلى النبي ولم يكن قد كوَّن فيها رأياً قاطعاً بعد، هنا كان الحل السحري هو المَدد السماوي الذي يتنزَّل به جبريل، ويعينه على تجاوز هذه المواقف الصعبة. ولم يقتصر هذا التفاعل القرآني على صحابة النبي بل امتدّ ليشمل أشخاصاً شديدي الهامشية في التاريخ الإسلامي، يمكننا وصفهم بـ"مجهولي القرآن".

الوحي المُعين

كان جميع صحابة النبي يلجأون إليه ليسألونه في كافة أمور حياتهم؛ الدين والدنيا، علاوة على ورود أهل الكتاب عليه بشكل مستمر يضعونه في "امتحانات نبوة" أسئلتها شديدة الصعوبة، وبطبيعة الحال فإن "النبي الأمي" لم يكن مهيأ للإجابة على كافة هذه التساؤلات بمفرده، فكانت الإجابة تأتيه في غالب الأحوال من أعلى، ولولاه لظل الرسول يُجيب بـ"لا أعلم" على معظم ما يرد إليه من تساؤلات.

وتكفي أي قراءة، ولو سريعة، لكتب أسباب نزول آيات القرآن لتكتشف حجم التشابك الكبير الذي خاضته الآيات مع البيئة التي أحاطت بالرسول، ولتدرك أن الوحي لم يكن يتنزَّل على النبي فقط في النوازل الكبرى أو في الأوقات المصيرية أو حتى لمجرد الرغبة الإلهية في نزوله، وإنما كان في أحيان كثيرة يمنح الرسول العون في مواقف هامشية، كسرقة درع أو حادثة تحرش أو خلاف عابر بين اثنين وغيرها.

وحتَّم حجم التشابك العريض بين الآيات والمواقف التي يخوضها الرسول في حياته اليومية، ألا تقتصر كلماتها على التفاعل مع ما يقوله كبار الصحابة، مثلما حدث مع عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعثمان بن عفان وغيرهم، الذين كان طبيعياً أن يتعرّض لهم القرآن ويرد على أطروحاتهم بصفتهم من "أعمدة الإسلام"، وإنما امتدَّ التفاعل القرآني ليشمل أشخاصاً شديدي الهامشية في التاريخ الإسلامي، يمكن تسميتهم "مجهولي القرآن".

وهم أناس نكاد لا نعرف عنهم شيئاً إلا القليل، لأن كتب التاريخ والسيرة أهملتهم تماماً ولم تربطهم بأي وقائع إسلامية كبرى، وبالرغم من ذلك فلقد ضمنوا لأنفسهم مكاناً خالداً في العقلية الإسلامية، ليس عن بطولات كبرى أو آراء سديدة أنقذت جماعة المسلمين من مآزق خطرة، وإنما لأن الحظ أوقعهم في مواقف نزلت بسببها آية قرآنية أو أكثر، فخلَّدتهم كتب التفسير.

من مجهولي القرآن: أصحاب السفينة

"الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" (البقرة: 121).

قال ابن عباس رضي الله عنه: "نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانوا أربعين رجلاً، اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا".

وبالرجوع لكتب التاريخ فإنه من الصعب تقبُّل كامل هذا الادّعاء العباسي، لأن المرويات حصرت سيرة "أهل السفينة" في أنهم قوم انطلقوا من اليمن هجرةً للرسول، وعليه فإنه من المستحيل أن يسافر الراهب بحيرا، أو أي شخص آخر، من بلاد الشام إلى اليمن كي يعود مجدداً إلى مكة!

وعليه فإن المقبول من عبارة ابن عباس هو الشطر الأول منها فقط، فمن هم أصحاب السفينة هؤلاء؟

أصحاب السفينة هُم جماعة من قبيلة الأشعريين باليمن، أسلموا وأرادوا الهجرة إلى مكة للعيش في كنف الرسول، فركبوا سفينة تقودهم إلى بلاد الحجاز، لكن سوء الأحوال الجوية قذف بها إلى سواحل الحبشة المجاورة.

لم يلحقوا بالرسول لكنهم تعرّفوا على جماعة المسلمين التي هاجر أعضاؤها من مكة وعاشوا في الحبشة، تحت قيادة جعفر بن أبي طالب، وفي ظِل حكم النجاشي.

قبل لقائهم بالنبي، روى أحمد بن حنبل في كتابه "فضائل الصحابة" حديثاً في باب "فضائل أهل اليمن"، أن الرسول روى لصحابته بحديث استباقي عن خبرهم، وكانت أول مرة يسمعون فيها عن "أصحاب السفينة"، بعدما دعى النبي لهم فجأة وهو جالس فوق أصحابه، بقوله "اللهم أنج أصحاب السفينة"، ثم مكث ساعة وقال بعدها "قد استمرت".

ونفهم من هذه المروية أن النبي كان ينقل وقائع العاصفة البحرية التي كادت تودي بحياة الأشعريين، ثم بعدها طمأن من حوله على نجاتهم وأن سفينتهم لم تغرق.

لم يعد أهل السفينة إلى المدينة إلا في العام السابع من الهجرة، بعد فتح خيبر، ولمَّا دنوا من المدينة بشَّر الرسول صحابته بقدومهم قائلاً: "جاؤوا يقودهم رجل صالح"، وما إن انتهى من مقالته حتى تناهت إلى الأسماع أراجيز يمنية تقول: "غداً نلقى الأحبّـة، محمّـداً وحِزبـه".

ونعرف من المرويات أنهم حين وصولهم المدينة لم يُستقبلوا بكثيرٍ من الترحاب من عمر بن الخطاب، الذي قال لأسماء بنت عميس، زوجة جعفر: "سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم"، فغضبت وانقطعت عن الطعام والشراب حتى وردت على النبي فنصرها وطمأنها بقوله: "لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان؛ هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليَّ"، (صحيح البخاري).

وهي الكلمات التي وقعت كالبلسم على نفس العائدين من الحبشة، لدرجة أنهم كانوا يأتونها أرسالاً يسمعون منها هذا الخبر ويستذكرونه فيما بينهم.

لم يكتفِ النبي بالتكريم الخطابي وحسب، وإنما أمر بمنحهم حِصة من غنائم خيبر، لتكون أول مرة يقسّم فيها غنائم غزوة على أفراد لم يشاركوا بها.

من أصحاب السفينة؟

لا نعرف الكثير عن هوية أصحاب السفينة إلا شذرات من الأخبار في عددٍ من كتب التاريخ، فكشف لنا ابن عساكر في كتابه "تاريخ مدينة دمشق،" عن هوية أحد أفراد هذا الوفد، وهو الصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي، الذي تحالفت قبيلته خزاعة مع النبي عقب صُلح الحديبية، فآمن بدعوة النبي ورغب في العيش بكنفه.

فيما أخبرنا أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "معرفة الصحابة"، عن هوية فرد آخر من أعضاء الوفد اليمني، وهو كَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيُّ، الذي يُكنى بأبي مالك، وروى عن النبي حديث "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ"، وقال عنه ابن كثير في "البداية والنهاية"، إنه مات بـ"طاعون عمواس" بصحبة أبي عبيدة الجراح ومعاذ بن جبل في يومٍ واحد.

ويحكي أبو عبدالله الحاكم، في كتابه "المستدرك على الصحيحين"، أن النبي دعا لأكبر أهل السفينة وأصغرهم، فأجابه شخص يُكنَّى بأبي عامر: "أنا أكبر أهل السفينة، وابني أصغرهم".

أبو عامر هذا هو الصحابي عبيد بن سليم، الذي قُتل في إحدى سرايا الرسول، فدعى له النبي أن يجعله "فوق كثيرٍ من خلقه".

كما نعرف من أحد أحاديث صحيح البخاري، أن أحد أفراد "أهل السفينة" قُدِّر له أن يلعب دوراً هائلاً في التاريخ الإسلامي، وهو أبو موسى الأشعري.

عُرف بصوته العذب في قراءة القرآن، حتى أن النبي ذات مرة قال له: "لقد أوتيت مزماراً من مزامير داود يا أبو موسى".

واستعمله النبي أميراً على بعض بقاع اليمن، كعدن وزبيد وساحل اليمن، ومن بعدهما ولاّه عمر بن الخطاب على البصرة، فيما ولاّه عثمان بن عفان على مدينة الكوفة، وفي عهد علي بن أبي طالب، كان من قادة المنحازين لصفِّ ابن عم الرسول خلال أحادث الفتنة الكبرى، وارتبط اسمه بواقعة التحكيم الشهيرة، حينما مثّل علي بن أبي طالب أمام عمرو بن العاص ممثل معاوية بن أبي سفيان.

ومن نسله خرج الإمام أبو الحسن الأشعري، صاحب المدرسة الفقهية الكبيرة التي تلقب باسمه، والتي يسير الأزهر الشريف على نهجها حتى اليوم.

ونعرف أيضاً من روايات أبي موسى، أنه كان بصحبته أخوين أكبر منه، هما "أبو بُردة" و"أبو رُهْم".

أخت معقل بن يسار

" وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ" (البقرة: 232)

نزلت هذه الآية في أخت صحابي يُدعى معقل بن يسار، قيل إن اسمها جُمَل أو فاطمة، وهو ما لم يتأكد برواية صحيحة، تزوجت من رجل طلّقها ولما انقضت عِدتها أراد إعادتها إلى عصمته ولم ترفض جُمَل، لكن أخيها معقل عارض هذا الارتباط قائلاً لزوجها: "طلقتها، ثم جئْتَ تخطبها؟ لا والله لا تعود إليها أبداً"، فنزلت هذه الآية تأمره بالتراجع عن موقفه، وهو ما فعله.

وبخلاف هذا الموقف لا نعرف شيئاً عن حياة أخت معقل في الماضي أو في المستقبل إلا أن زوجها رجل من الأنصار يُدعى "أبي البداح بن عاصم"، وكنيته هي أبو عمرو، ومات في ظل الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك.

أما أخوها معقل فهو صحابي أسلم قبل صُلح الحديبية، وشهد بيعة الرضوان، وروى أنه رفع غصناً من الشجرة التي اجتمعوا عندها ورفعه فوق رأس النبي، ولم يبايعو النبي على الموت وإنما على عدم الفرار.

روى عن الرسول أحاديث كثيرة، منها: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرَّم الله عليه الجنة"، و"اعملوا بالقرآن، وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيء منه، وما تشابه عليكم منه فردوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي".

عاش أواخر أيام حياته في البصرة، ومات في آخر خلافة معاوية.

ابن سويد... الصحابي المرتدّ

"كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ" (آل عمران: 86)

نزلت في الحارث بن سويد، وهو صحابي أعلن إسلامه في حضرة الرسول، ومن بعدها سافر إلى قومه وأعلن ارتداده وكفره بدعوة النبي، فنزلت بحقه هذه الآيات، لما قُرئت عليه تاب عمّا فعل، وأرسل أخيه الجلاس إلى النبي يسأله قبول توبته فأنزل الله عليه قوله: "إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا"، (آل عمران: 89)، فأقبل الحارث على الرسول نادماً وغفر النبي له.

وبعدها يختلف قصّاصو الأخبار حول نهاية الحارث، بسبب بعض التضارب حول هويته، والمزج الواضح بين شخصيتي "الحارث بن سويد بن الصامت" و"الحارث بن سويد التيمي"، دون أن نعلم تحديداً أيهما تقصده الآية، وما إذا كانا شخصاً واحداً أم شخصين متشابهي الأسماء؟

على أية حال، عاش الأخير في الكوفة، وكُنيته "أبا عائشة"، وروى أحاديث عن النبي وكان محل ثقة علماء الإسناد، فقيل عنه "ما بالكوفة أجود إسناداً منه"، ومات في أواخر خلافة عبدالله بن الزبير.

بينما مات الأول بأمر الرسول عقب غزوة أحد، بعدما اقتصَّ لأبيه من أحد المسلمين، هو مُجذَّر بن زياد، الذي قتل والد الحارث سويد بن الصامت في الجاهلية، وهي الفِعلة التي لم يغفرها له الحارث أبداً، فاستغل اندلاع أعمال القتال وأتى الحارث مُجذَّراً من الخلف وقطع رأسه، فأمر النبي بضرب عنقه على باب مسجد قباء.

الصحابي اليتيم

" وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ" (النساء: 6)

نزلت في الصحابي الأنصاري ثابت بن رفاعة، الذي تُوفي والده وهو صغير، فانتقلت الوصاية على تركة الأموال التي خلّفها الأب إلى عمه، فذهب عم ثابت إلى النبي يسأله عمّا يحل له من هذا المال، ومتى يُؤدِّيه إلى ابن أخيه.

فأجابه النبي: "أن تأكل بالمعروف، من غير أن تقي مالك بماله".

قال عنه أكرم الفالوجي في كتابه "المعجم الصغير": "صحابي صغير، أو تابعي كبير، له إدراك، وليس له صحبة لصغره، له هذا الحديث الواحد عن عمه".

الصحابي الذي تزوج امرأة أبيه

"وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ" (النساء: 22)

نزلت في محصن بن أبي قيس، الذي تزوَّج من امرأة أبيه، كبيشة بنت معن.

يروي عنه ابن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى"، أنه كان شاعراً، وأنه لم يُنجب بعد أبيه، لذا فبعد وفاته لم يبقَ من نسلهم أحد.

أما أبوه فكان يعبد الله قبيل البعثة، حتى أن أهل يثرب أسموه "الحنيف"، لكنه رغم ذلك لم يستجب لدعوة الرسول إلى الإسلام.

وهو أيضاً من شعراء الأوس المشاهير، وقيل إن "أبو قيس" مجرد كنية، أما اسمه الحقيقي فهو صيفي بن الأسلت، وهي أيضاً مجرد لقب لرجلٍ يُدعى عامر بن جشم.

يحكي أبو الحسن في كتابه "شرح الأشموني على ألفية بن مالك"، عن أبي قيس قائلاً: "مات عام 622م، كان رأس الأوس وشاعرها، وكان يكره الأوثان ويبحث عن دين يطمئن إليه، اجتمع بالرسول لكنه تريًّث في قبول دعوته".

ويُروَى أن أبا قيس خاض حرب بعاث، التي وقعت بين الأوس والخزرج، وأثّرت فيه حتى شحب لونه، ولما دخل على زوجته كبشة، التي تزوجها ابنه بعده ونزلت بسبب هذه الزيجة الآية، وأراد معاشرتها ظنَّته شخصاً غريباً فأبت، فألَّف بسبب هذه الواقعة قصيدة مشهورة عن مرارة الحرب التي تُغيّر من الفرسان بدأها بقوله:

"قالت، ولم تقصد لقيل الخنا/ مهلاً فقد أبلغت أسماعي

أنكرته حين توسمته/ والحرب غول ذات أوجاع".

كاهن من بني إسرائيل

"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ" (الأعراف: 175)

تقول أغلب التفاسير، إن هذه السورة نزلت في رجلٍ من بني إسرائيل يُدعى بلعام بن باعوراء، اختلف العلماء في توضيح مدى مكانته، ما بين كاهن شديد الحظوة أو نبي لا تُرد له دعوة.

واعتقد قِلة من العلماء أن المقصود بها هو أمية بن أبي الصلت، الشاعر المُوحِّد الذي اتّبع الحنيفية، لكنّه رفض الاستجابة لدعوة النبي لأنه طمع أن تنزل الرسالة فيه وليس بغيره، وربما كان الخلط بين تطابق سوء عمل الرجلين بسبب الحديث الذي رُوي عن النبي: "مثل بلعام بن باعوراء فى بني إسرائيل كمثل أمية بن أبى الصلت فى هذه الأمة".

كان بلعام مُستجاب الدعوة، ولا يسأل الله عن شيء إلا أعطاه إياه، لأنه اكتشف سر الله الأعظم الذي لا يُرد به دعوة أبداً.

ويضيف محمد الفياض في كتابه "الأمثال في القرآن الكريم"، أن بلعام كان يعيش في بلدة تُسمّى موآب، موقعها الحالي شرق الأردن، وطلب منه ملكها أن يدعو على موسى الذي حلَّ مع بني إسرائيل في بلاد الشام، وكان يستعد لغزو المدينة.

ولا نعرف بشكلٍ واضح مدى استجابة بلعام لأمر ملكه، لكن وصف القرآن له كرجلٍ اتّبع الشيطان، والاحتفاء الإنجيلي بقتله بالسيف بناء على أمر النبي موسى، طبقاً لما ورد من هذه القصة في الإصحاح الثالث والعشرين من سِفر العدد، وما ورد في الإصحاح الثالث عشر من سِفر يشوع: "بلعام بن بعور العراف قتله بنو إسرائيل بالسيف"، هذه الأخبار تؤكد لنا أنه انصاع لرغبة الملك في الدعوة على نبي الله فاستحق اللعنة من أتباع الأديان الثلاثة.

يقول سعيد حوّي في كتابه "الأساس في التفسير"، إن "بلعام" لم يكتفِ بالدعوة الشفوية فقط، وإنما اقترح على قومه خطة لإفساد قوم موسى، وهي استغلال قضائهم فترة طويلة في السفر من مصر إلى الشام، وإغوائهم بالنساء، فإن وقعوا في المحظور وزنوا بهم غضب الله عليهم، ولم يُمكّنهم من اقتحام المدينة.

وبهذه الفِعلة صار الرجل رمزاً لكل مَن حظي بمدد وعناية إلهية لكنه لم يتبع طريق الإيمان القويم حتى نهايته، وانصاع للشيطان واتبع خطواته.

الصحابي الرأسمالي

"وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ" (التوبة: 75)

نزلت في الصحابي ثعلبة بن حاطب الأنصاري، الذي امتلك طموحاً رأسمالياً مُبكراً لم تسمح له الظروف بالوصول إليه إلا عبْر النفحات النبوية، فلمَّا لم تأتِه أعلن في لحظة غضب: "إنما يعطي محمد من شاء فإن أعطي رضي وإن لم يعط سخط"، ولهذا ربطه بعض العلماء بنزول الآية 58 من سورة التوبة: "وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ"، وهو ما دفع ببعض الفقهاء لتصنيفه ضمن المنافقين لتطاوله على النبي.

لكن بخلاف هذه الواقعة لا نعرف أن ثعلبة اتَّخذ موقفاً مُعارضاً للدعوة، فآخَى النبي بينه وبين معتب بن الحمراء من بني خزاعة، وشارك مع الرسول في غزواته.

فقط نعلم أن ثعلبة لم ييأس في رغبته بالثروة، فطلب من الرسول أن يرزقه بمال متعهداً بأن يُؤدِّي كل ذي حقٍّ حقه إن أصبح ثرياً.

دعا له النبي بالبركة فنمت غنمه "كما ينمو الدود"، حتى ضاقت عليه المدينة وتنحى عنها وعاش في وادٍّ قريب، ثم بدأ يتكاسل عن أداء صلوات الجماعة حتى انقطع عنها بالكلية بما فيها صلاة الجمعة.

سأل عنه النبي، فحدَّثه الصحابة بأخباره فغضب فيه وقال "يا ويح ثعلبة"!

ولما أنزل الله فيه قوله تعالى: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا"، (التوبة: 103)، بعث له الرسول رجلين ليأخذا منه الصدقة فاعترض قائلاً: "ماهذه إلا جزية"، ورفض أن يعطيهما من غنمه شيئاً، ولما أبلغ الصحابيان النبي بهذا الأمر غضب ونزلت بحقّه هذه الآية.

وبالرغم من هذا غضب النبي والوعيد القرآني فإن ثعلبة أحد الموعودين بدخول الجنة، فوفقاً لما رواه ابن سعد في طبقاته، شهد ثعبة بدراً وأحداً، وبالتالي فإنه دخل في معية الوعد النبي بالنعيم الأخروي بقوله: "لا يدخل النار أحد شهد بدراً".

ويروي أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "معرفة الصحابة"، أن ثعلبة تُوفي خلال خلافة عثمان بن عفان.

الصحابي الذي أراد أن يكثر عنه الحديث بالخير

"فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً" (الكهف: 110)

نزلت في جندب بن زهير العامري.

وهو صحابي عُرف عنه إقباله على الإكثار من الصلاة والصيام حتى يكثر الحديث عنه بالخير.

يحكي الواحدي في كتابه "أسباب النزول"، أن جندباً ذهب إلى النبي وكشف له عمّا نفسه، وشعوره بالسرور عندما يعرف الناس بما يفعله، فقال له الرسول: "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، ولا يقبل ما شُورِك فيه".

كما يكشف أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "معرفة الصحابة"، عن انحياز جندب لعلي بن أبي طالب عندما تولّى الحُكم، فكان ضمن رجاله الذين خاضوا معه معركة الجمل وقُتل في حرب صفين.

ومنحنا ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ"، المزيد عن تفاصيل مقتله، بأنه بارَز رأس الفرع الشامي من قبيلة أزد، في جيش معاوية، فلم ينجح في مبارزته وقُتل.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*