حنان فكري:
حينما تترجل في ساحتها تشتم رائحة التاريخ، تقتحم حواسك الخمس عصور وضعت بصماتها على كل جدار يحيط بها، وما إن تضع قدميك بداخلها، حتى تعود نفسك إلى عهد الإمبراطور قسطنطين العظيم، فتجتاحك راحة السلام بين المسيحية والإسلام، حينما ترى القُبة العُليا مرسوماً عليها جدارية مريم العذراء حاملة ولدها يسوع المسيح، مُحتضنة في بهاء، معلقتين عظيمتين مكتوبًا على واحدة (الله)، وعلى الأخرى (مُحمد)، وفي جانب آخر ثالثة مكتوبًا عليها (أبو بكر)، ورابعة مكتوبًا عليها (عُمر)، فتحتضن أسماء الصحابة، جداريات قديسي العصور الوسطى، في تآلف العالم أحوج ما يكون إليه الآن.
إنه متحف "آيا صوفيا" ذلك الصرح الفني المعماري الفريد من نوعه، الكائن في إسطنبول بمنطقة السلطان أحمد بتركيا، المتألق على تلة تطل على مضيق البيسفور مقابل المشرق المسيحي -وقت بناء الكنيسة- الممتد من مصر حتى سوريا ولبنان وجبال الأناضول وكبادوكيا وأرمينيا، أبهرت الجميع ببنائها العملاق، وصحن قبتها الضخم وقاعة هيكلها الشاسع المتسع لآلاف المصلين وهندستها الفريدة، وكانت مقرًّا لبطريركية القسطنطينية.
بُنيت الكنيسة على أنقاض كنيسة أقدم أقامها الإمبراطور قسطنطين، وانتهت في عام 360، وحملت اسم ميجالي أكليسيا أي (الكنيسة الكبيرة) ثم تحول اسم الكنيسة في القرن الخامس إلى "هاجيا صوفيا" أي (مكان الحكمة المقدسة)، وهذا ما تعنيه تسمية "آيا صوفيا"، ظل مبنى آيا صوفيا على مدار 916 عاماً كاتدرائية، استمرت الكنيسة في الاستخدام كمركز للدين المسيحي حتى دخول الاحتلال العثماني في عام 1453 م للقسطنطينية. وتحول مكان الحكمة لساحة اغتصاب وذبح.
حينها وصل جنود السلطان التركي محمد الثاني، إلى المدينة، مدفوعين بوعوده لهم إذا ما احتلوا المدينة، ستكون ملكاً لهم، وأن نساءها بكل أعمارهن هدية لهم وجواري.. شجعتهم رغباتهم المريضة، حاصروا المدينة المنهكة لمدة 52 يوماً، ودخلوها في ٢٩ مايو بعد اختراق جدرانها وبدأت مذبحة كبرى، وعمليات اغتصاب هي الأكبر في التاريخ. قطعوا رؤوس عشرات آلآلاف من الرجال البالغين أمام نسائهن، وظل خمسة آلاف مصلٍّ داخل آيا صوفيا، مختبئين، أخذ البطريرك جانباً مع كبار الأساقفة والكهنة وقطعت رؤوسهم في الداخل أما الرجال، سيقوا للذبح في الخارج، واحدًا تلو الآخر أمام عائلاتهم، ولم يرحموا حتى الأطفال.. جمعوا الذكور منهم، وقيدوهم بالسلاسل، تمهيدًا لبيعهم كعبيد، قيل إنه في هذا اليوم، اخترقت أصوات العويل قناة البيسفور إلى الجهة الأخرى من المشرق المسيحي آنذاك، فصلوا الأطفال عن ذويهم، جروهم بعيدًا، والحديد في أعناقهم. صراخ وعويل، ودماء وشرف مهدر على بلاط ساحة الحكمة المقدسة.
احتلال الكنيسة
وجرى تكسير أبواب الكنيسة البرونزية وأخرجت ذخائر القديسين وأُحرقت خارجاً مع الأيقونات النادرة ونهب ذهب الأيقونة سطاس الكبير لم تنتهِ المذبحة إلا بوصول السلطان الى الساحة حيث عاين المبنى الذي راقبه مع أبيه من بعيد لسنوات طامعاً فيه أعلن فوراً نيته بتحويله إلى مسجد، عاقداً العزم على الصلاة فيه بعد أسابيع، فتسلق أمامه الخاص المبنى واعتلى القبة الكبرى.. أنزلوا الصليب المثلث وسط تكبيرات الجنود، وتلا الإمام الشهادتين بصوت عالٍ، معلناً تحويلها إلى مسجد. جرى غسل الدماء عن رخام أرضية الكنيسة الأبيض، وبدأت عملية طمس الفسيفساء من جدران الكنيسة؛ حيث أخفيت العذراء من فوق المذبح وأيقونة المسيح الذهبية من أعلى مدخل الكنيسة وطليت الجدران بالكلس لإخفاء المعالم المسيحية؛ لكن الكلس كان يذوب وتظهر مجددًا المعالم المسيحية على الفسيفساء.
وفي 1 يونيو وصل السلطان إلى الكنيسة ودخلها مع قادته وصلى فيها صلاة الجمعة. وتقول الباحثة برناردين كلتي إنه في يوم الفتح العثماني (29/5/1453) استباح الألوف من الأتراك المدينة لمدة سبع ساعات، ولم تسلم امرأة أو عمل فني من أيديهم الخشنة، فقد كانت الغنائم والسكان مكافآتهم الموعودة، وعندما دخل السلطان محمد الفاتح المدينة في موكب النصر عند الظهر (لعل الأصح أنه ظهر اليوم الرابع من الفتح وليس ظهر يوم الفتح نفسه) أصبح كل القتال والنهب والفواجع والتخريب في عداد التاريخ، وهو المشهد الذي أعاد للذاكرة ما قام به اللاتين سنة 1204 (أي الغزو اللاتيني الصليبي) في نفس المدينة، وبقي أثر هذه الأيام الثلاثة للغزو العثماني التي استبيحت بها المدينة بوحشية لا تعرف الرحمة في ذاكرة الشرق الأرثوذكسي إلى الأبد".
وتقول موسوعة تاريخ الحضارات العام إنه بعد دفاع مستميت قام به إمبراطور وسكان القسطنطينية، سقطت المدينة في يد السلطان محمد الفاتح “فأسلمها للنهب والسلب واستباحها مدة ثلاثة أيام بلياليها".
قام السلطان الفاتح، حينذاك، بإصدار أوامره السلطانية بإزالة الصليب من أعلى القبة الضخمة لآيا صوفيا، وبنيت مئذنة في جدار الكنيسة من الخارج، ووضع منبر خشبي في الجانب الأيمن من رواق الصلاة، وأربع مآذن تحيط بالكنيسة، وتركت الزخارف والنقوش والرموز المسيحية، على الجدران والأسقف دون تغيير حتى يومنا هذا، علاوة على أربع لوحات كتابية ضخمة دائرية الشكل وضعت في أعلى الأعمدة الأربعة الرئيسة وفي بطن القبة من جهة المحراب، كتبت عليها كلمات “الله، محمد، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي”.
وظلت آيا صوفيا مسجداً حتى بداية القرن العشرين، ومنذ عام 1935 أصبح متحفاً حتى الآن، يرتاده السياح من كل مكان في العالم، حيث قام أتاتورك بتحويل المبنى إلى متحف. وهو ما يحمل أهمية رمزية، ورسالة مفادها أن تركيا الحديثة كانت دولة علمانية، عكس ما يجري الآن، أي أنها استمرت مسجدًا لمدة 481 عامًا.
لكن مثلما يتم تديين السياسة، والفن، والأدب، والبشر، والحجر، وتزوير التاريخ، يتم تديين الكنيسة المُغتصبة أيضاً والتي لم يكتف العثمانيون باغتصابها لمدة481 سنة، بل إنهم يريدون التراجع عما فعله أتاتورك من تحويلها لمتحف يعكس السلام بين الأديان، المسجد للصلاة، وكأن تركيا خلت من المساجد، فرجب طيب أردوغان الرئيس التركي، الذى اقترح وأعلن عن نيته للتحويل، خلال اجتماع مع أعضاء اللجنة المركزية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، أعطى تعليمات رسمية لمسؤولي الحزب لتقديم مقترحات لإعادة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، يبدو أن أردوغان لم يروِ عطشه بعد للفتنة على كل الأصعدة، وللكيد السياسي الذي لا ينتهي مدفوعًا بدعم الإخوان، إنهم يسعون لفتنة دينية عالمية، ينتقمون من التراث، ولا أحد يعلم ماذا سيفعلون في لوحات نادرة من الفسيفساء، ورسوم جدارية تعود إلى القرون الوسطى، لا تقدر بمال، بعدما أعلن أردوغان نيته لتحويل متحف "آيا صوفيا" إلى مسجد.
المدعي العام التركي يوصي بالإبقاء على المتحف
اهتز العالم من أجل هذا القرار، الذي يدبر له منذ سنوات عبر سبل شرعية، إذ تعود شرعنة خطة التحويل إلى القضية التي دامت سنوات أمام مجلس الدولة التركي، لإلغاء قرار رئيس الجمهورية التركية في عام 1934، آنذاك، مصطفى كمال أتاتورك، بتحويل "آيا صوفيا" من مسجد إلى متحف، حيث كان سجالاً طويلاً دام عدة سنوات بين جمعية خدمة الأوقاف والآثار التاريخية والبيئة والمحاكم التركية، حينما أقامت الجمعية دعوى قضائية في مجلس الدولة طالبت فيها بإلغاء قرار مجلس الوزراء الذي أقر تحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف، في مارس 2008، وجاء الرد من الدائرة المختصة في المجلس والذي اعتبرت أن ليس هناك أي انتهاك قانوني في استخدام "آيا صوفيا" كمتحف، وبالتالي رفضت القضية.
لكن بعد اعتراض الادعاء العام على القرار، تم تحويل الأمر إلى مجلس محاكم القانون الإداري للدولة، الذي أيده في ديسمبر 2012، قبل أن يتم رفض طلب تغيير الوضع في أبريل عام 2015، وعاودت الجمعية تقديم التماس إلى المحكمة الدستورية عام 2015، وفي العام التالي رفعت دعوى قضائية ثانية إلى الدائرة العاشرة في مجلس الدولة، وقالت إن توقيع أتاتورك على قرار تحويل "آيا صوفيا" إلى متحف مزوّر، وعقد مجلس الدولة من جديد في الثاني من يوليو الجاري، جلسة لإعادة النظر بالقضية، وسط ترقب لصدور القرار خلال 15 يوما. وأكد مدعي عام مجلس الدولة التركي خلال الجلسة التي عقدت في يوليو الجاري أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو من سيتخذ القرار النهائي بشأن افتتاح آيا صوفيا أمام العبادة، مطالبًا برفض القضية. أي أن المدعى العام التركي يوصى بعدم تحويل المتحف لمسجد، لكن أردوغان وصف الإبقاء عليه كمتحف بـ"الخطأ الفادح"!
ويبدو أن خطة التحويل ممنهجة؛ فسبق ذلك تحويل كنيسة "شورا" البيزنطية في إسطنبول إلى مسجد في قرار اعتبره البعض اختباراً قبل البت في مستقبل آيا صوفيا. وكعهد الخبث السياسي، الذي يزحف على كل مختلف لوأده، يفعل أردوغان.
تحذيرات عالمية
انقلبت الأوساط الثقافية، والدبلوماسية، تعالت نداءاتها في تحذير من المساس بهذا المعلم التاريخي، والحفاظ عليها كموقع للتراث العالمي لليونسكو، يسمح بإمكانية وصول الجميع إليه، ولا يقتصر على العبادة لمسلمي الديانة فقط، لكن أردوغان وكما اعتاد دائماً، استخدام الدين والسياسة وتوظيفهما من أجل بقائه، وكأنه خليفة المسلمين في الأرض، وهو لا يعدو كونه ترساً في آلة الإخوان المدمرة، وبناء عليه، دعا سفير وزارة الخارجية الأمريكية للحرية الدينية، سام براونباك، إلى عدم المساس بالمعلم التاريخي "آيا صوفيا"، لما يحمله من أهمية روحية وثقافية هائلة لمليارات المؤمنين من مختلف الديانات حول العالم، لكن تصريحاته قوبلت بانتقاد نائب وزير الخارجية التركية، يافوز سليم كيران، طلب الذي قال في تغريدة على تويتر "لا تقلق يا سيادة السفير سام بروانباك، فتركيا تعلم جيدًا كيف تحافظ على ميراثها الديني والثقافي". وتناسى كيران أن ذلك ليس ميراث تركيا، ولكنه إرث مغتصب، ويخضع لحراس غير أمناء عليه استغلوه لجني المال سياحيًّا، وأبقوا عليه في محاولة للتلويح بأن تركيا لها ذات التفتح الأوروبي، فيمكنها ذلك من الانضمام إلى الاتحاد، واليوم يستغله أردوغان ورقة للمكايدة السياسية، متعللًا بالسيادة الوطنية. على اعتبار أن "آيا صوفيا هي وقف للسلطان محمد الفاتح، وأي قرار سيصدر بشأنه هي فقط المنوطة به".
ما يحدث ليس بجديد على الساحة التركية فمنذ وصول العدالة والتنمية إلى السلطة في 2003، تزايدت الفعاليات الإسلامية داخل هذا الموقع، ونُظمت حلقات لتلاوة القرآن وصلوات جماعية في محيطه. على الرغم منه أنه موقع تراث عالمي لا يجب تديينه، في سلوك طارد لأصحاب الديانات الأخرى. وعلى الرغم من ذلك؛ فإن الأمر لا يتعلق بالجدل الدائر حول هل هو مسجد أم كنيسة، ولكن الأمر يتعلق بالأعمال الفنية والقيمة التاريخية، وتدمير التاريخ وتزييفه.
رمز التعددية يغلق أبوابه في وجه الآخر الديني
ورغم دعوة فرنسا إلى الحفاظ على ما سمّته الكنز العالمي الموضوع على لائحة اليونسكو للتراث العالمي "آيا صوفيا". وكذلك دعوة الولايات المتحدة لتركيا بعدم تحويل المتحف إلى مسجد ليبقى نموذجًا لالتزام تركيا تجاه احترام التقاليد الدينية والتنوع التاريخي الذي أسهم في الجمهورية التركية، ومن أجل ضمان إتاحته للجميع، ودعوة الرئاسة الروسية السلطات التركية إلى أن تأخذ بعين الاعتبار قيمة المكان "المقدس"، مؤكدة أنه "يجب على هذا المكان وهو رمز للتعددية وتقبل الآخر أن يبقى مفتوحًا أمام الجميع". ودعوة الناطق الرسمي باسم المفوضية الأوروبية، إريك مامر، لتركيا إلى الإبقاء على المعلم التاريخي كما هو.
فتنة دينية عالمية
ويبدو أن أردوغان يتعمد إثارة فتنة عالمية دينية، فبعض الردود غير الدبلوماسية جاءت غاضبة، توضح حجم الكارثة التي أقدم عليها أردوغان، إذ نقلت وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء عن متروبوليتان هيلاريون رئيس إدارة العلاقات الخارجية في بطريركية موسكو، قوله في التليفزيون الحكومي: "لا يمكننا العودة إلى العصور الوسطى الآن". وأضاف "نحن نعيش في عالم متعدد الأقطاب، نعيش في عالم متعدد العقائد ونحتاج إلى احترام المشاعر الدينية"، موضحاً أن "الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لم تفهم الدافع وراء تحويل آيا صوفيا، وأنها تعتقد أن السياسات المحلية كانت وراء هذه الخطوة، ونعتقد أنه في الظروف الحالية يعتبر هذا العمل انتهاكًا غير مقبول للحرية الدينية".
تلاوة القرآن في صحن الكنيسة
هذه ليست المحاولة الأولى لتحويل المتحف إلى مسجد تنطلق منه الصلاة للمسلمين فقط، ولكن سبقتها محاولات وسلوكيات استفزازية، ففي عام 1991 أعادت تركيا فتح أبواب مسجد “قصر هونكار” في آيا صوفيا أمام العبادة مجددًا؛ بحجة أن “قصر هونكار” ليس جزءًا أساسيًّا من آيا صوفيا، إنما تم تشييده في العصر العثماني على يد السلطان محمود الأول، وهو القسم المفتوح للعبادة حاليًّا وليس كامل آيا صوفيا.
في 31 مايو 2014م نظمت جمعية تسمى "شباب الأناضول" فعالية لصلاة الفجر في ساحة المتحف تحت شعار "أحضر سجادتك وتعالَ"، وذلك في إطار حملة داعية إلى إعادة متحف آيا صوفيا إلى مسجد. وكانت الجمعية قد ذكرت أنها قامت بجمع 15 مليون توقيع للمطالبة بإعادة المتحف إلى مسجد. إلا أن مستشار رئيس الوزراء قد صرح، آنذاك، بأنه لا نية لتغيير الوضع الحالي لآيا صوفيا.
المقال المصرية