لماذا لا يأكلون لحم الخنزير؟ - مقالات
أحدث المقالات

لماذا لا يأكلون لحم الخنزير؟

لماذا لا يأكلون لحم الخنزير؟

علي الأعرج:

 

دائماً ما يمارس الناس وجهات نظرهم كبديهيات وحقائق ثابتة دون البحث في خلفياتها، وهو ما ينتج عنه في كثير من الأحيان حالات من الجمود. بالطبع ليس الهدف من مناقشة هذه البديهيات أن تتم ممارستها، بل فكرة البحث بحد ذاتها لما تحتويه من متعة. في مسألة لحم الخنزير، تم البحث عن بعض الأسباب وراء التحريم.

في الآيات القرآنية "البقرة 173، الأنعام 145، النحل 115 والمائدة 3"، يقول الله بشكل واضح حول ما يجب على المؤمن عدم تناوله، وبرغم أن التحريم كان عاماً، كالمنخنقة والميتة والدم، إلا أنه في الآيات السابقة خصص الخنزير دون سواه كحيوان مستقل وحصري، هذا التخصيص يفتح مجالاً للتساؤل حول السبب لرفض الأديان للخنزير بتسمية واضحة ومحددة.

في التفاسير اللاحقة لدى بعض الأئمة والمتفقهين، تم توضيح بعض الأسباب، لكن هذه التفاسير ينقصها بعض المنطق إذا ما قورنت بأشباهها، فالتفسير الأعم هو أن الخنزير حيوان نجس بصورة عامة، بمعنى هو يتغذى على القاذورات كمدجّن، ويأكل الجيف كخنزير بري، وفي الرؤية المؤسطرة والمعاصرة أيضاً، يمارس الفاحشة مع كيانات تمت له بقرابة، وبرغم أن هذا الكلام غير علمي إطلاقاً، فهو بالمقابل لا يختلف عن أي ممارسة حيوانية أخرى، فالضباع مثلاً تأكل الجيفة وهي محللة في الشريعة الإسلامية، وبأحاديث مسندة عن الرسول بأن أكل ذوات الناب محرمة ما عدا الضباع، وهو الرأي الثاني الذي حلله وأباحه أكثر العلماء، كابن أبي شيبة، ابن عمر، ابن عباس، جابر، أبي هريرة، سعد بن أبي وقاص وأبي سعيد الخدري، وقول الشافعية، الحنابلة والظاهرية.

أما فيما يتعلق بأكل القاذورات، فكثير من الحيوانات المحللة، كالماعز، الدجاج، الإوز والبط، تتناول الروث بشكل صريح، ومع ذلك ما زالت محللة، ولا يملك المؤمنون أي مشكلة معها. أما مسألة ممارسة الفاحشة، ففي عالم الحيوان الجميع يمارس ما هو أكثر من عدم التمييز في القرابة، ليس فقط لأن المسألة فطرية، بل لأنها تقوم أصلاً على منطق المتعة المحضة دون التناسل، إن عالم الحيوان متفوق في المثلية الجنسية، كالأرانب والقطط والأفيال والزراف، ومع ذلك لا يملك المؤمنون أي مشكلة معهم، بل حتى أنهم يجعلون الحيوانات المدجّنة، كالثور في الحظائر، يمارسون التناسل مع كل الأبقار، دون وقوف على ما يسمونه التحريم الأخلاقي والفعل الشائن. إن عملية ربط كل السلبية بالخنزير لا يمكن أن تكون مقنعة لأنها لا تختلف عن باقي الحيوانات وسلوكياتها كحيوانات محللة.

ويخرج بعض علماء الدين المعاصرين والأكثر انفتاحاً لتبرير الأمر من مناحي علمية، من أن الخنزير يمتلك الدودة الشريطية "تينيا سوليم" التي تنتقل للإنسان، متغاضين عن الدودة الشريطية "تينيا ساجيناتا" لدى الأبقار، أو مثلاً قولهم إن أكل لحم الخنزير يجعلك ديوثاً، لأن لحمه يحتوي على كمية كبيرة من الهرمون الأنثوي الأستروجين، وبأن تناوله يؤدي بالشخص لازدياد الهرمون الأنثوي لديه، على الرغم أنه بالعلم الهرمونات الذكرية والأنثوية توجد في الجسم مسبقاً، وترتبط بفرز الغدد الجنسية والصماء.

وهذه الرؤية حول الخنزير الديوث نشأت مع المسيحية الأولى في تحريمها لأكله كاليهودية السابقة، قبل أن تسمحه مع التقادم الزمني. لا يوجد سبب علمي ومنطقي واضح لتحريم أكل الخنزير، إن كان في الديانة الإسلامية وقبلها اليهودية وحتى مسيحية عيسى ما قبل سيطرة الكنيسة وامتدادها... "لا تظنّوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" (متى5، 17\19)، بمعنى لا يجوز تغيير الشريعة اليهودية على لسان المسيح نفسه، بما فيها مسألة الخنزير التي ذُكِرت كثيراً في العهد القديم.

شخصياً، لم يكن أمامي لفهم هذه المعادلة التحريمية سوى بالعودة إلى الأسطورة البدائية، حيث يمكن أن نجد الجواب الأدق في الحضارات الأقدم. إن مسألة كره الخنزير ليست وليدة رؤية إلهية فقط أو دين أخير، بل هي ثقافة مغرقة بتاريخيتها.

يقول المؤرخ الإغريقي هيرودوت، بإيجاز: "يعتبر المصريون الخنزير حيواناً نجساً، فإذا لمس خنزير أحد الأشخاص وهو سائر، يجب عليه أن يغطس في النهر هو وثيابه (في العادات المصرية). وبالنسبة لرعاة الخنازير فكانوا فئة منبوذة في المجتمع المصري القديم وممنوعين من دخول المعابد المصرية ولا يتزوجون أو يُزوّجون إلا من عائلات رعاة خنازير مثلهم. أما الطبقات الثرية والكهنة فكانوا يقدمون الخنزير كأضحية فقط في يوم اكتمال القمر لإلههم أوزوريس وربة القمر إيزيس، فيأخذون الذنب والطحال وغشاء المعدة فيحرقونها حتى تتلاشى، ثم يأكلون اللحم في ذلك اليوم فقط (الاكتمال القمري)، بينما يعرضون عنه في الأيام الأخرى ولا يقربونه. أما الفقراء فكانوا يصنعون كعك بهيئة خنزير لتكلفته الباهظة اقتصادياً، فيقدمون الكعك كقربان".

نلاحظ في كلام هيرودوت حقيقتين، في المجتمع المصري القديم، رغم اعتبارهم الخنزير نجساً كانوا يأكلونه في يوم واحد (اكتمال القمر)، وهو اليوم الذي نشأت فيه أسطورة صراع حورس وست، عملية أكله هي نوع من الوفاء لحورس وإبداء التضحية بالنفس البشرية في أكل شيء نجس، مقابل عدالة المُلك التي سنتحدث عنها بعد قليل، والأمر الآخر، أن الخنزير يشكّل في النظام البيئي كلفة مادية، إن في عملية اصطياده كحيوان متوحش بري أو حتى تكلفته المادية كتربية وتدجين، وهو ما يستدعي النسبة الفقيرة أن تلتزم بتقديم قرابين رمزية.

لقد عرف الفراعنة تدجين الخنازير، ليس لأكلها على مر العام بل للتضحية بها في يوم محدد. في الأسطورة الفرعونية، عندما قام ست بقتل أخيه أوزوريس واستلم العرش، قطّعه إلى اثنين وأربعين جزءاً ودفن كل جزء في بقعة بعيدة عن الأخرى، قامت الآلهة إيزيس بتجميع أشلاء زوجها مرة جديدة وحبلت بابنها حورس الذي كبر واستعاد عرش والده بعد صراع مع ست الذي تشكّل بهيئة خنزير أسود، وجرح عين حورس التي كانت هي القمر، وعينه الأخرى هي الشمس، وهو الذي أخذها من أوزوريس والده إله الشمس، وإيزيس والدته ربة القمر. ست قتل أوزوريس الشمس، وحاول اقتلاع القمر من عين حورس والتي تجسدها إيزيس والتي كانت السبب في إعادة تجميع أشلاء زوجها وخلق حورس الذي ينافس ست على المُلك، فمحاولة اقتلاع عين حورس هو ترميز عميق لقتل إيزيس. لذا فإن عملية تربية الخنازير هي ثقافة أضاحي لعين حورس الذي أعاد المُلك والنظام للحياة ولوالده وقضى على الفوضى التي خلقها ست. بطريقة ما كان الخنزير في الأساطير القديمة هو رمز للفوضى الذي تشكّل ست على هيئته.

الأسطورة ذاتها بدأت تنتقل إلى مناطق أخرى في العالم، فانتشرت أيضاً لدى الكنعانيين في سوريا، حيث كان الرب آدون بعل يُعبد، وهو الذي مات بواسطة خنزير بري أثناء رحلة صيد في جبال لبنان، وهي الأسطورة المتداولة أيضاً لدى الإغريق بالنسبة لأدونيس الذي مات أيضاً بواسطة خنزير.

الخنزير في الحضارات القديمة تم نبذه بسبب فوضاه وبسبب قتله للآلهة، فليس غريباً أن تأتي الديانات التوحيدية برفض مطلق لفكرة الخنزير دون تقديم سبب مقنع لذلك الرفض، وجميع التبريرات العلمية حيناً والأخلاقية حيناً آخر لدى تلك الديانات أو علمائها المعاصرين، هي فقط محاولة تقديم سبب منطقي لتاريخ مؤسطر تجاه هذا الحيوان، المتجسد في التاريخ بالشراسة واللااستقرار وصعوبة صيده وتمرده وفوضاه الثقافية، تجاه فكرة الحُكم الأبدي للملوك القدماء بحسب الأساطير، والأهم تكلفته المادية كتربية وخطورته كاصطياد تاريخياً، ومن الناحية العلمية، سلوكه الفوضوي وقدرته على زعزعة النظام البيئي، فسلوك الخنزير لا يكتفي بإشباع الجوع، بل بتدمير الزرع وإحلال نوع من الفوضى في أي مكان يطؤه.

جميع هذه العوامل الأسطورية الثقافية الإلهية، والتاريخية الاقتصادية، خلقت من هذا الحيوان صورة شنيعة لعدم قدرة الإنسان على التعامل معه، فصورة الرفض هذه، هي أقرب لما عبّر عنه عالم النفس السويسري كارل يونغ يوماً في مسألة تناقل الموروث الأسطوري، إنها موروث الوعي الجمعي للثقافات القديمة.

فالمسألة التحريمية لا علاقة لها بنجاسة الخنزير، وعملية الرفض الاجتماعي لتناول لحمه، مرتبطة بشكل أثير في أسطورة شعبوية معاصرة ومستمدة من التاريخ الديني حول قلة شرفه، بأن الإنسان سيكون ديوثاً لا محال، فكثير من المؤمنين يزنون ويشربون الخمر بالرغم من أنه محرّم لكنهم لا يأكلون الخنزير، لأجسادهم قدرة دفاعية على الرفض سببها ثقافي شعبوي جنسي مرتبط بثقافي ديني محرّم وممتد لثقافة تاريخية للأساطير، جسدت النظام الموضوعي للمُلك والأبدية الألوهية، بعد قتل الخنازير كتجسيدات للمعنى الفوضوي والاقتصادي والبيئي. إنها بشكل أبسط: رفض جمعي لتاريخ الحيوان الذي يهدد المُلك الأسطوري في كل الثقافات.

بطبيعة الحال كل هذا الكلام ليس الهدف منه إقناع أحد أن يأكل لحم هذا الحيوان، ممن يعتقد بأن المادة هي ترويجية، لكن كل ما كُتب سببه الرئيسي هو محاولة فهم أكبر لنشوء الأسطورة في الدرجة الأولى، وألا يكون الرفض قائم دون بحث في خلفيته وفهمه بعمق.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث