من العباسيين إلى العثمانيين… كيف لعب "المُرشد الروحي" دوراً بارزاً في السياسة الإسلامية؟ - مقالات
أحدث المقالات

من العباسيين إلى العثمانيين… كيف لعب "المُرشد الروحي" دوراً بارزاً في السياسة الإسلامية؟

من العباسيين إلى العثمانيين… كيف لعب "المُرشد الروحي" دوراً بارزاً في السياسة الإسلامية؟

محمد يسري:

 

على الرغم من أن الإسلام لم يعرف قيام سلطة كهنوتية مستقلة، كما جرى الحال في السياق المسيحي في أوروبا العصور الوسطى، إلا أن من الممكن تمييز نوع من الإرشاد الروحي والديني ارتبط غالباً بالسلطة، فصار جزءاً منها، في بعض الأحيان، ومهيمناً عليها في أحيان أخرى.

يمكن القول إن التاريخ الإسلامي عرف شكلين رئيسيين من أشكال السلطة، هما السلطة الدينية الممثلة بالعلماء والفقهاء والأولياء، والسلطة الزمنية الممثلة بالخلفاء والسلاطين والأمراء، وقد جرت العادة على الإشارة لكل من الصنفين، تحت مسمى قرآني، واسع الدلالة، وهو "أولي الأمر".

في الفترة المبكرة من عمر الدولة الإسلامية، تهيأت الظروف لتوحد السلطتين في شخص الخليفة الراشدي أو الأموي، والذي كان إما أحد الصحابة المتفق على عدالتهم، أو واحداً من التابعين الكبار المقدمين عند جمهور المسلمين من أهل السنة والجماعة.

ولكن، مع إقامة الدولة العباسية في ثلاثينيات القرن الثاني الهجري، وتزامُن ذلك مع تأسيس العديد من المذاهب الفقهية والفكرية في البلاد الإسلامية، ازدادت رقعة التباين بين السلطتين الدينية والزمنية.

في تلك الفترة، تولى الحكم مجموعة من الخلفاء، البعيدين عن أمور الشريعة والفقه والدين، ومن هنا ظهر العلماء الدينيون الذين ارتبطوا بعلاقات وثيقة بالساسة، فشرعنوا لحكمهم وصبغوا قراراتهم بالصبغة الدينية، كما أنهم في كثير من الأحيان أقنعوا الخلفاء والسلاطين المعاصرين لهم ببعض أفكارهم ومعتقداتهم، واستغلوا مكانتهم الدينية والروحية في فرض سطوتهم ونفوذهم.

من الأمور المهم ذكرها في هذا الإطار، أن ظاهرة المرشد الروحي أصبحت أكثر وضوحاً بعد وصول الأتراك والشراكسة إلى السلطة. يمكن تفسير ذلك بأنه كان من السهل على الخليفة العربي أن يُظهر نفسه في صورة الخبير العارف بأمور الدين، أما السلطان غير العربي - التركي أو الشركسي أو المغولي- لم يكن بمستطاعه تقديم الصورة نفسها، فاحتاج إلى وجود مرشد روحي- أصوله عربية في أغلب الأحيان- ليُسبِغ على حكمه الصفة الدينية الخالصة، وليَمنح مشاريعه التوسعية صفتها المقدسة، وليُبقي الصلة قائمة مع العرق العربي الذي كان له الفضل الأول في العصر الإسلامي الأول.

الدولة العباسية... من أبي يوسف لابن حنبل

يمكن القول إن ثمة تغييراً حقيقياً وقع في شكل الخلافة وطبيعتها في عصر الدولة العباسية، إذ مال الخلفاء العباسيون للتشبه بملوك الفرس القدامى، فاهتموا ببلاطهم، وعملوا على تعيين ذوي الحظوة والمكانة في المناصب السيادية بالدولة، وهو الأمر الذي سمح في ما بعد بظهور شخصيات دينية ذات نفوذ روحي قوي، امتد ليصل إلى الخلفاء أنفسهم.

من القيادات الدينية التي مارست نفوذاً روحياً قوياً على الخلفاء العباسيين، صاحب أبي حنيفة، الفقيه أبي يوسف، والذي عُين قاضياً للقضاة في عهد هارون الرشيد.

ظهرت سلطة أبي يوسف في تحكمه بتعيين القضاة في شتى أنحاء الدولة العباسية، إذ حصر القضاء في المذهب الحنفي دوناً عن غيره من المذاهب الفقهية، وكان بمثابة المرجع الذي اعتاد الرشيد أن يعود إليه كلما ضاقت به السبل، واشتدت به الشدائد.

يحكي أبو الفرج الأصفهاني، في كتابه "الأغاني"، العديد من القصص المؤكدة على قوة العلاقة بين الرجلين. كما أكد الذهبي عليها، في كتابه "سير أعلام النبلاء"، بقوله "بلغ أبو يوسف من رئاسة العلم ما لا مزيد عليه وكان الرشيد يُبالغ في إجلاله".

عهدالمأمون

أما في عهد المأمون، فظهر اسم الفقيه أحمد بن أبي دؤاد، والذي شارك الخليفة عمله الدؤوب في حمل الناس على القول بخلق القرآن، حتى إذا ما اقتربت نهاية المأمون، نجده يوصي به أخيه وخليفته المعتصم بالله، فيقول له بحسب ما يذكر الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك": "أبو عبيد الله أحمد بن أبي دؤاد لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع ذلك".

المعتصم الذي لم يُشبه المأمون في سعة المعرفة والاطلاع اختار أن يقتدي بالوصية بشكل حرفي، فأعلى من شأن ابن أبي دؤاد، وقلّده منصب قاضي القضاة، ولم يُخالف له رأياً. ويذكر المسعودي أن المعتصم أظهر رأيه في القاضي المعتزلي يوماً ما فوصفه "هذا والله الذي يُتزيّنُ بمثله، ويُبتَهَجُ بقربه، ويُعَدّ به ألوف من جنسه".

مكانة ابن أبي دؤاد، ظلّت على حالها في عهد هارون الواثق بالله بن المعتصم، إذ ظلّ في منصبه الرفيع، وبقي مسيطراً على الأوضاع الدينية في الدولة.

مع وصول المتوكل على الله إلى السلطة، انقلبت الأحوال، إذ "غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد، وصادره، وسجن أصحابه"، وبطَشَ بالمعتزلة المسيطرين على مفاصل الدولة، في مقابل إعلائه من شأن أهل السنة والجماعة، ومن شأن رمزهم الأهم في ذلك الوقت، الإمام أحمد بن حنبل.

ورغم تهيئة الأوضاع لسيطرة ابن حنبل وأقرانه على السلطة الدينية في هذا الوقت، إلا أن حِرص المتوكل على الاستئثار بالسلطة، وزُهد ابن حنبل في القرب من الخلافة، منعا من حلول "بطل المحنة" محل أعدائه من المعتزلة.

على سبيل المثال، يذكر الذهبي أن المتوكل التمس من أحمد بن حنبل أن يأتيه "فذهب إلى سامراء ولم يجتمع به، استعفى، فأعفاه، ودخل على ولده المعتز، فدعا له"، وفي موقف آخر يرويه أبو الفرج ابن الجوزي، في كتابه "مناقب الإمام أحمد بن حنبل"، أن المتوكل الذي كان يطمع في تقريب ابن حنبل من دائرته، كان قد أرسل له أحد موظفيه، حاملاً رسالة مفادها "قد صحَّ عندنا نقاء ساحتك، وقد أحببت أن آنس بقربك، وأن أتبرّك بدعائك، وقد وجهت إليك عشرة آلاف درهم معونة على سفرك".

وبحسب الرواية، فرّق ابن حنبل الأموال في المساكين والأيتام وفي أصحابه، ولم تُمهله الأقدار طويلاً حتى توفي في 241 هـ.

المماليك... القبول بهيمنة العلماء لشرعنة الحكم

بدأ حكم سلاطين المماليك في مصر والشام متزامناً مع تعرّض العالم الإسلامي للخطرَين الصليبي والمغولي، واللذين وصلا لأوجهما في منتصف القرن السابع الهجري.

المماليك الذين تمردوا على أسيادهم القدامى من أمراء البيت الأيوبي، عملوا على التقرب من كبار العلماء والشيوخ ورجال الدين في عصرهم، والتمسوا في ذلك إسباغ صفة الشرعية على حكمهم الذي لطالما تعرض للانتقاد بسبب بداياتهم المرتبطة بخضوعهم للعبودية والرق.

يمكن القول إن الفقيه الشافعي عز الدين بن عبد السلام، والذي اُشتهر بلقب سلطان العلماء، كان أول مرشد روحي ذا تأثير قوي وعميق على سلاطين المماليك في مصر، وقد ظهر ذلك في موقف الشيخ الرافض لتحصيل جبايات إضافية من الرعية قُبيل معركة عين جالوت، وانصياع أمراء المماليك لأمره إذ باعوا الكثير من أملاكهم وتنازلوا عن أموالهم في سبيل إعداد الجيش، وكان في مقدمتهم السلطان، سيف الدين قطز.

بعد وصول الظاهر ركن الدين بيبرس إلى السلطة، ظلّ معظِّماً لمقام العز، ويصف تاج الدين السبكي ذلك في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" بقوله "كان بيبرس يُعظِّم الشيخ العز ويحترمه، ويعرف مقداره، ويقف عند أقواله وفتاويه".

وفي السياق نفسه، بالغ جلال الدين السيوطي، في كتابه "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة"، في وصف خضوع بيبرس لسلطان العلماء، إذ قال "كان (بيبرس) بمصر منقمعاً تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لا يستطيع أن يخرج عن أمره، حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر ملكي إلا الآن".

غير أن وفاة العز في 660 هـ، لم تمنع من ظهور مرشد روحي جديد يتبعه سلاطين المماليك، وهو القاضي الشافعي ابن دقيق العيد، والذي بلغ من نفوذه على سلاطين عصره، بحسب ما يذكر السبكي، أن "أحدهم إذا رآه من على البعد قام له، فإذا وصل عنده قبل السلطان يده، فيقول له شيخ الإسلام هذا خير لكم هذا ينفعك".

من المهم هنا أن نذكر أن السيرة الصوفية الشعبية في مصر المملوكية، قد تحدثت كثيراً في قصصها المتواترة عن النفوذ القوي الذي تمتع به الأقطاب والأولياء على السلاطين، وهي القصص التي اختلط فيها الواقع بالخيال كعادة الحكايا الشعبية في كل زمان ومكان.

على سبيل المثال، أشاعت المصادر الصوفية، أن الظاهر بيبرس أعّد موكباً حافلاً لاستقبال القطب الصوفي السيد أحمد البدوي عند دخوله لمصر قادماً من الأراضي الحجازية، كما أن سلطان مصر اعتاد أن يزور البدوي في داره بمدينة طنطا، ليلتمس منه البركة والدعاء بالنصر على الأعداء.

المماليك

في السياق نفسه، يتحدث أحمد بن عثمان الشرنوبي، في كتابه "طبقات الشرنوبي"، عن محاولة السلطان الأشرف خليل بن قلاوون للنيل من مكانة الشيخ الصوفي الشهير، العارف بالله إبراهيم الدسوقي، وأن السلطان لما أيقن بقوة الشيخ وعظمته، لم يسعه إلا أن يسافر لزيارته في مدينة دسوق الواقعة على النيل في شمالي مصر، فتاب وأناب بين يديه وطلب منه المغفرة والصفح، حتى عفا عنه الدسوقي وبشّره بفتح مدينة عكا الحصينة.

تلك العلاقة الوثيقة بين السلطة المملوكية من جهة، والعلماء والمتصوفة من جهة أخرى، ظلت قائمة حتى نهاية العصر المملوكي، ودخول العثمانيين إلى مصر في 922 هـ.

من أهم الأدلة على ذلك، ما أورده ابن إياس الحنفي في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، إذ يذكر في أخبار سنة 922 هـ، بعد هزيمة المماليك في موقعة مرج دابق، ومحاولتهم الأخيرة لجمع شتاتهم لمواجهة قوات سليم الأول التي اقتربت من مصر، أن جميع أمراء المماليك لجأوا إلى الشيخ الصوفي أبو السعود الجارحي، وأوكلوا إليه أمر اختيار سلطان جديد عليهم.

يقول الحنفي:"أحضر الشيخ أبو السعود بين يدي الأمراء مصحفاً وحلّفهم عليه بأنهم إذا سلطنوا طومان باي لا يغدرون به ولا يثيرون الفتن، وينتهوا عن ظلم المسلمين وأصر على الأمير طومان باي بأن يتقبل السلطنة وتقبلها".

الأتراك... حضورٌ دائم للمرشد

رغم أن العنصر التركي كان عنصراً فعالاً على الساحة السياسية في بلاد الإسلام، منذ فترة مبكرة من عمر الدولة العباسية، إلا أن ذروة المجد التركي بدأت على يد السلاجقة الذين أسسوا دولة واسعة لهم في منتصف القرن الخامس الهجري، وشارك سلاطينهم خلفاء الدولة العباسية الحكم والنفوذ.

سلاطين السلاجقة ارتضوا أن يُقرّبوا منهم مجموعة من كبار علماء الدين المسلمين، وأظهروا انقيادهم التام لهم، وكان من أهم هؤلاء كل من إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وتلميذه حجة الإسلام أبي حامد الغزالي.

الاثنان، استجابا لدعوة الوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي للتدريس في المدارس النظامية، وصارا بمثابة المرجعية العلمية المؤيدة للسلاجقة، وساندا السلاطين الأتراك في حربهم ضد الفاطميين الإسماعيلية، وفي المقابل تم رفع مكانتهما حتى صارا من أهم رجال الدين في العالم الإسلامي وقتذاك.

الأتراك

مع أفول نجم الدولة السلجوقية، وتنامي قوة ورثتها من العثمانيين، ظلّ الاعتماد على المرشد الروحي الديني سمة مميزة للحكم التركي، فعلى سبيل المثال، تحكي الكتابات العثمانية القديمة عن الشيخ أده بالي –أديب علي- والذي رجع إليه أرطغل زعيم قبيلة كايي –النواة الأولى للدولة العثمانية- في كل صغيرة وكبيرة، كما أنه أوصى قبل موته ابنه عثمان، باتباعه والانقياد التام لحكمه وأوامره.

وبحسب ما ورد في اللوحة المعلقة على مقبرة الغازي أرطغرل في مدينة سكود، فقد جاء في تلك الوصية: "انظر يا بني! يمكنك أن تؤذيني، ولكن لا تؤذ الشيخ إده بالي، فهو النور لعشيرتنا. ولا يُخطئ ميزانه قدر درهم! كن ضدي ولا تكن ضده... فإنك لو كنت ضدي سأحزن وأتأذى، أما لو كنت ضده فإن عينيّ لن تنظر إليك. وإن نظرتا فلن ترياك، إن كلماتي ليست من أجل الشيخ إده بالي، بل هي من أجلك أنت".

استجاب عثمان لتلك الوصية بشكل حرفي في ما بعد، واتخذ من إده بالي مرشداً روحياً له، وتزوج من إحدى بناته وأنجب منها وريثه على العرش.

وفي السياق نفسه، تتحدث المصادر العثمانية عن الصلة الوثيقة التي جمعت بين السلطان أورخان والصوفي الشهير حاج بكتاش ولي، وذلك رغم الشكوك القوية التي تقدح في اجتماعهما في زمن واحد، وتؤكد تلك المرويات على أن أورخان بنى جيشه الإنكشاري بمباركة من بكتاش ولي.

أيضاً، تظهر آثار الإرشاد الروحي في عصر السلطان محمد الفاتح، والذي تتلمذ في صغره على يد مربيه الشيخ شمس الدين الكوراني، وظل الفاتح بعد وصوله للسلطة محافظاً على احترامه وتقديره، إلى الحد الذي أظهره في بعض الصور القديمة، وقد وقف أمامه بخشوع، فيما جلس الكوراني بأريحية.

وفي عهد الفاتح أيضاً، يظهر اسم العالم الصوفي الكبير آق شمس الدين الذي نال حظوة كبيرة في الدولة العثمانية، ولعب دوراً مهماً في دفع السلطان لغزو القسطنطينية.

ومن بين المواقف التي تُبيّن مقام آق شمس الدين وهيبته، ما ذكره محمد بن علي الشوكاني، في كتابه "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع"، من أن السلطان محمد الفاتح جاء إلى خيمة الشيخ يوماً ما و"هو مضطجع لم يقم له، فقبّل السلطان يده".

وحتى في الفترة الأخيرة من العصر العثماني التي اتسمت بالضعف والتفكك، أبقى السلاطين على قربهم من مرشديهم الروحيين بكل وسيلة ممكنة، فعلى سبيل المثال، عمل السلطان عبد الحميد الثاني بعد خلعه على التواصل مع مرشده الروحي الشيخ محمود أفندي أبي الشامات شيخ الطريقة الشاذلية.

وبحسب ما نشره سعيد الأفغاني في مجلة "العربي" الكويتية في عددها الصادر كانون الأول/ ديسمبر عام 1972، فإن السلطان المخلوع أرسل برسالة مؤثرة إلى شيخه، أورد فيها أسباب المؤامرة التي حيكت ضده. وافتتح الرسالة بقوله: "أرفع عريضتي هذه إلى شيخ الطريقة العلية الشاذلية، إلى مفيض الروح والحياة، وإلى شيخ أهل عصره الشيخ محمود أفندي أبي الشامات، وأُقبّل يديه المباركتين راجياً دعواته الصالحة... سيدي، إنني بتوفيق الله تعالى مُداوم على قراءة الأوراد الشاذلية ليلاً ونهاراً، وأعرض أنني ما زلت محتاجاً لدعواتكم القلبية بصورة دائمة".

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث