مالك العثامنة:
لا أرى في المسلسل الكويتي "أم هارون" إلا إساءة عبثية وساذجة أمام المعالجة التاريخية المطلوبة، أما كونه يتحدث عن تاريخ اليهود في الجزيرة العربية فتلك حقيقة تاريخية يوثقها التاريخ الإسلامي "الكلاسيكي" نفسه.
ألم ندرس في مدارسنا أن مدينة يثرب "المدينة المنورة لاحقا"، كان يسكنها الأوس والخزرج وبنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. ألم يعلموننا أن قبائل الثلاث الأخيرة هي قبائل يهودية كانت في يثرب؟
الحيلة اللغوية كانت في استخدام مفردات مثل "استوطنت تلك القبائل يثرب" أو "سكنت فيها"، وهذه مغالطة تاريخية بحيلة لغوية مضللة، فحسب السمهودي ابن المدينة في مؤلفه التاريخي (وفاء الوفا في أخبار دار المصطفى)، بأن اليهود هم من بنوا يثرب كمدينة وكانوا أكثر من عشرين قبيلة، وبالروايات التاريخية فإن اليهود قدموا إلى ما يعرف اليوم بالحجاز بعد زمن موسى النبي بقليل، وهناك هجرة ثانية ذكرها ياقوت الحموي لليهود إلى يثرب بعد أن اضطهدتهم الإمبراطورية الرومانية.
الأخطر حسب بعض الروايات التي وثقت أصل اليهود في الجزيرة العربية (وهذا يحتاج قراءة أكاديمية من متخصصين حقيقيين) أن من بين الأعلام "اليثربيين" من أصل يهودي، كان الصحابي أبو أيوب الأنصاري، وهو من بني النجار من قبائل يثرب!
طبعا، المشكلة في التاريخ أنه رواية المنتصرين، أو من كانت لهم الغلبة والسيادة على الجغرافيا، وهذا يتفرع عنه تراكم التضليل والذي يمزجه المزاج العام بشيء من التعصب الديني أو الشوفينية القومية، فينتج عن ذلك فهم أعوج للتاريخ، ومعالجة ممسوخة للحاضر، مبنية على أوهام وأكاذيب.
كنت قرأت مقالة الزميلة الدكتورة نيرڤانا محمود في الحرة عن نفس الموضوع، وعلى خلفية المسلسل الكويتي "أم هارون" تحدثت نيرفانا في مقالها عن المهندس المصري نعوم شبيب، الذي هندس ونفذ وبنى فعليا برج القاهرة، أهم معالم العاصمة المصرية، منوهة إلى أن نعوم شبيب هو مصري يهودي، وبالعودة إلى الرابط الذي تضمنه مقال نيرڤانا محمود عن حياة المهندس المبدع، أجد أنه هاجر إلى كندا عام 1971، وهو من مواليد عام 1915، مما يعني أنه هاجر برفقة زوجته وأبنائه وعمره 56 سنة، مما يدفعني للتساؤل ما الذي يجعل رجلا صاحب مكتب هندسي ناجح، قام بتنفيذ برج القاهرة ومباني جريدة الأهرام وكنيسة سانت تريز وسانت كاترين وأول ناطحتي سحاب في مصر على التوالي، إلى ترك كل أمجاده المهنية والشخصية للهجرة بعيدا وبعيدا جدا!
ربما الإجابة تكون في أنه ذات السبب الذي يجعل كثيرين في العالم العربي تقوم قيامتهم لأن شركة إنتاج تملكها حياة الفهد قررت أن تذكر في "دراما ضعيفة ومضللة" وجود يهود في الكويت!
)استطرادا وعلى الهامش، فإن مشاهد خطأ البائع اليهودي ببيعه العرق كمشروب كحولي بدلا من الحليب لأهل الحي من المسلمين، استغباء بائس وساذج، فمن يا ترى لا يميز بين العرق (وهو بلا لون كالماء) برائحته اليانسونية النفاذة عن الحليب الأبيض خفيف الرائحة؟ إلا إذا كان العرق يباع "مكسورا" وهذا طبعا مستحيل).
عزيزي الغاضب من حقائق التاريخ: الأهم من مسلسل أم هارون ومحاولات "ضخ الأدرينالين البائسة فيه" أن تعلم مثلا وليس حصرا بأن أول من أسس الفن العراقي الموسيقي الحديث والذي تستمتع بأغانيه كلها، كان فضلا يعود للأخوين صالح وداود الكويتي (كنيتهما)، وهما من مواليد الكويت وأصلا من البصرة العراقية، وحتى عام 1951، كان الأخوان قد وصلا قمة سلم النجاح في أعمالهما الموسيقية وقد كانا من مؤسسي الإذاعة العراقية، لكن ومثل المهندس العبقري "نعوم شبيب"، قررا الهجرة إلى إسرائيل عام 1951! أليس ذلك مدعاة للتفكير عن الأسباب التي تدفع رجلين بقمة نجاحهما ليقررا الهجرة والبداية من جديد؟
هذا يجعلني أفكر بالفنانة الراحلة الجميلة ليلى مراد، وهي من يهود مصر، والتي نجت من الاضطهاد الوشيك بعد اتهامها (بدون أدلة) أنها حولت أموال لإسرائيل، وكانت نجاتها بفرار ذكي من دينها للدين الإسلامي، وبإشراف من حسن البنا شخصيا "مؤسس الإخوان المسلمين".
ماتت السيدة ليلى مراد عام 1995، ولم تضطر إلى الهجرة خارج مصر، وحافظت على نجاحها ومجدها الفني، لكنها اضطرت إلى التنازل عن هويتها الدينية من أجل ذلك.
ماذا لو بقيت ليلى مراد على يهوديتها؟ هل كان سيذكرها أحد اليوم؟
في كتب التاريخ "المدرسية" وغيرها من كتب التاريخ التي تم "حقننا" بها، تعلمنا أن أكرم العرب كان حاتم الطائي، وأن أوفى العرب كان السموأل، مع إضافة خطيرة وبسيطة وقصيرة أنهما عاشا في العصر الجاهلي، وفي أحسن الأحوال عاشا في عصر ما قبل الإسلام!
تلك عبارة تشبه جرة قلم عملاق تشطب عصورا بكامل تفاصيلها المعيشية والحياتية والحضارية، فحاتم الطائي كان مسيحيا، والسموأل أوفى العرب، كان يهوديا (شيموئيل)، لكن كتب التاريخ المنهجية لا تذكر ذلك، فتنشأ أجيال بعد أجيال تتواتر فكرة ملخصها التالي:
"الجغرافيا كانت عتمة تاريخية مطلقة، لا شيء على الإطلاق إلا كثبان وأناس بحواجب كثيفة ولحى حمراء ووجوه شريرة يقتلون وينهبون ويسجدون لصنم من العجوة، ثم فجأة وبدون مقدمات ينتشر النور والضوء، وتصبح الشخصيات حية ونابضة ووردية في عالم وردي جدا شخصياته ملائكية".
هذا كله ترسخ في وجداننا ووعينا ولا وعينا مما انعكس على كل تفاصيل حياتنا، حتى في موقفنا من الاحتلال الإسرائيلي (وهو احتلال باعتراف الأمم المتحدة)، لكن طريقة معالجتنا للمواقف كانت دوما سبب خسارتنا لقضايانا.
الزميل المهذب والكاتب الصحفي الأردني باتر وردم كتب في صفحته على فيسبوك إضاءة مكثفة لكن ضرورية أنقلها كما هي:
مجرد حقائق للتاريخ:
1 ـ الحركة الصهيونية نشأت في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر ردا على حركات مناهضة لهم كانت عميقة الجذور في المجتمعات الأوروبية نابعة من أسباب دينية واقتصادية.
2 ـ من أجل الخلاص من "المشكلة اليهودية" في أوروبا اتفق أثرياء العائلات اليهودية والحركة الصهيونية مع حكومات أوروبية وخاصة بريطانيا للهجرة إلى فلسطين.
3 ـ الجرائم التي ارتكبتها النازية ضد اليهود ساعدت في تسريع الهجرة تحت رعاية الحكومة البريطانية واستغلت الحركة الصهيونية الهولوكوست بكل ذكاء وفعالية.
4 ـ في العالم العربي، ومنذ مئات السنين قبل ذلك كانت هنالك جاليات يهودية عاشت بطريقة عادية مع المجتمعات المسلمة والمسيحية تحت كل أنواع الخلافة والأنظمة السياسية وهؤلاء موجودون قبل الحركة الصهيونية.
5 ـ الحديث عن مسلسل حول اليهود في الخليج أو العالم العربي ليس جريمة بحد ذاتها وليس خيانة، ولكن المهم المضمون وألا يتم الترويج لتزوير التاريخ لأهداف سياسية تتعلق بوضع القضية الفلسطينية في الفترة الحالية.
ما كتبه وردم، يجعلني أستطرد بقراءتي الذاتية، ففي نقطته الأولى والتي أتفق معه فيها، فإن العدائية لليهود كانت موجودة وبقوة في أوروبا (شكسبير في تاجر البندقية رسم شخصية شيلوك حسب الانطباع السائد وقتها)، وهذه العدائية انتهت إلى شوفينية ويمينية وفاشية انغلقت على الجميع ضد الجميع، فانتهت بمأساة حرب عالمية أبادت الملايين من الجميع.
النقطة الثانية صحيحة تاريخيا، وفعليا ما كان للفكرة الأوروبية "الأرستقراطية" بحل "المشكلة اليهودية" أن تنجح في أرض فلسطين، لو لم يكن الوعي قاصرا في العالم العربي نفسه في التعامل مع تاريخه الذاتي العربي الإسلامي بكل ما فيه من تضليل ممنهج، وطبعا هذا يقودنا للنقطة الثالثة بتوظيف سياسي ممول جيدا للاضطهاد النازي لليهود (والذي يحب كثير من الغوغاء إنكار وجوده ضمن ذات العقلية التي تم تضليلها)، وهذا حسب النقطة الرابعة لا ينفي حقيقة أن اليهود كمجتمعات ضيقة كانت جزءا من مجتمعات أوسع في العالم العربي، ولهم حاراتهم وأحياؤهم وحضورهم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي.
وعليه، وكما أقفل باتر فكرته، فالحديث عن مسلسل يتحدث عن اليهود في المجتمع العربي ليس جريمة، لكن المأساة تكمن في المعالجة البائسة والقاصرة والتي هي برأيي أيضا تحت تأثير ذات العقلية التي تم تضليلها منذ بدأ المؤرخ في العصر الأموي كتابة "مؤلفاته".
وهنا أجد أن المقال طال إلى حد غير مسموح به، وقد يكون للحديث بقية.