حامد فتحي:
تعددت مشارب الإصلاح الديني في الإسلام، إلا أن أغلبها ظل يدور داخل البنى التقليدية للتراث، وركّز بعضها على الإصلاح الانتقائي لبعض أحكام الشريعة، دون تقديم رؤية جوهرية تشمل الدين بشكل عام، فلم يتحقق المأمول منه. ورغم مرور ما يزيد عن قرن ونصف على "عصر النهضة" فإن المسلمين لا زالوا يتجادلون على أبسط متطلبات الإصلاح.
في ظل هذا الواقع، يطرح باحثون رؤية شاملة للإصلاح، لا تبدأ من الشريعة بما هي قوانين ومعاملات، بل تبدأ من الأصل الإسلامي الأول، وهو الاعتقاد أو الإلهيات، أي من موضوع علم الكلام، أو علم أصول الدين.
يرى هؤلاء أن أصول الدين هي الإطار العام الذي خرجت من تحت عباءته العلوم الدينية، والتدين الإسلامي الرسمي والشعبي، وأنه إذا أردنا إصلاحاً فلن يتحقق إلا بإصلاح الأصول.
لماذا التجديد في علم الكلام؟
هناك عدة تعريفات لعلم الكلام لا تختلف في ما بينها كثيراً، ومن أشهرها الذي يعبّر عن جوهر هذا العلم، وهو تعريف ابن خلدون وفيه: "هو علم يتضمن الحجاج على العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية"، وأول هذه العقائد مسألة التوحيد، وما يتعلق بأسماء الله وصفاته، والوحي، والنبوة، والإيمان، وغيرها من المسائل التي تتعلق بالعقائد الإسلامية.
مسألة التجديد الكلامي (التجديد في علم الكلام) ليست جديدة، فقد بدأت مع النهضة العربية-الإسلامية في النصف الأول من القرن الـ19، في الهند ثم العالم العربي، وإيران، إلا أنها لم تنل اهتماماً كبيراً مثل قضايا الإصلاح السياسي، والإصلاح الاجتماعي، والتجديد الفقهي.
ويرى المشتغلون بعلم الكلام الجديد أن أحد أسباب إخفاق الإصلاح الإسلامي أنه لم يبدأ بالأساس، أي بالعقائد وعلم الكلام.
وعلم الكلام الجديد يُقابَل مع علم الكلام القديم في المنهج والرؤية. يقول المفكر العراقي، ومؤسس ومدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، عبد الجبار الرفاعي لرصيف22 إن علم الكلام الجديد "يبحث في شرح وبيان وتحليل المعتقدات، والكشف عن بواعث الحاجة للدين، ومختلف الآثار العملية لتمثلاته وتحولاته في حياة الفرد والجماعة".
في كتابه "علم الكلام الجديد"، تناول المفكر الهندي شبلي النعماني (1857-1914) موضوعات جديدة مثل الدين والعلوم الحديثة، حقوق الإنسان، مسألة الانتحار، حقوق المرأة، الإرث، والحقوق العامة للشعب، بموازاة المباحث القديمة مثل وجود الله، النبوة، المعاد، والتأويل.
وحمل عنوان الكتاب المذكور أول استخدام لمصطلح "علم الكلام الجديد"، إلا أن إرهاصات التأسيس تعود إلى المفكر الهندي سيد أحمد خان (1817-1898) الذي رأى ضرورة إعادة بناء نظام التربية والتعليم للمسلمين في الهند في إطار يتسع لاستيعاب العلوم والمعارف الحديثة، وذلك خلال دراسته في بريطانيا.
تلقف ثلة من المجددين في إيران الإسهامات الهندية، وبنوا عليها ومنهم: مرتضى مطهري، وعلي شريعتي، وعبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري، مع وجود خلاف حول مدى إسهام كل منهم.
أما في العالم العربي، فظهرت إرهاصات محدودة، أهمها تجديد الشيخ أمين الخولي في مناهج دراسة النص القرآني، وإسهامات حسن حنفي في مؤلفاته عن "التراث والتجديد"، وهي إسهامات يعود الفضل إلى عبد الجبار الرفاعي في جمعها، وشرحها، وتقديمها للقراء العرب، من خلال مجلة قضايا إسلامية معاصرة، والكتب التي ألّفها والتي أثْرت البحث في العلم الجديد.
عن البدء بإصلاح علم الكلام، يقول الرفاعي الذي يُعَدّ من أهم الباحثين المعاصرين المهتمين بتأسيس هذا العلم الجديد، والذي ألّف فيه كتباً منها "الدين والظمأ الأنطولوجي"، "الدين والنزعة الإنسانية"، و"الدين والاغتراب الميتافيزيقي": "علم الكلام في رأيي يمثل نظرية المعرفة في الإسلام، وهو الذي ينتج منطق التفكير الديني، ومنطق كل عملية تفكير فهو الذي يحدد طريقة التفكير".
ويضيف: "ذلك يعني أن أية بداية لتحديث التفكير الديني في الإسلام لا تبدأ بعلم الكلام ومسلماته المعرفية ومقدماته المنطقية والفلسفية، فإنها تقفز إلى النتائج من دون المرور بالمقدّمات".
في مؤلفاته، يشرح الرفاعي أن تجديد الفقه يبتني على تجديد علم أصول الفقه، وتجديد الأخير يبتني على تجديد علم الكلام، ذلك أن الأسس التي يقوم عليها علم الأصول ليست سوى مسلمات ومقولات لاهوتية، حقلها هو علم الكلام الذي يستند إلى مسلّمات معرفية ومقدّمات من المنطق الأرسطي.
وبرأيه، لا يمكن تخطي القراءة السلفية الحرفية المغلقة للنصوص، وإنتاج قراءة تواكب العصر، ما لم نُعِد النظر بالبنية التحتية العميقة لإنتاج تفسير النصوص، ونتخطَّ آليات النظر والفهم المتوارثة.
يقول الرفاعي "إن علم الكلام يعبّر عن فهم المتكلمين للعقيدة، وفهمهم، كأية معرفة بشرية، يصطبغ بطبيعة الزمان والمكان، والنمط الحضاري للحياة، ومستوى تطور العلوم والمعارف الأخرى. وحتى تلك الحرية النسبية التي حظي بها المتكلمون الأوائل لم تعد موجودة منذ القرن الخامس الهجري، بسبب حظر السلطة العباسية للتفكير الكلامي، وفرض الاعتقادات السلفية".
وعن هذه النقطة الأخيرة، يقول "إن حظر التفكير الكلامي، والاقتصار على ظاهر النصوص، ومنع أية محاولة لعقلنة الفهم العقيدي يفضي إلى تعطيل العقل، وشيوع نزعة نصوصية إخبارية تبناها المحدثون".
هذا الحظر أدى إلى تعطيل التفكير الديني، وسيادة نسخة منغلقة عن الإسلام، وانتشار التطرف الديني ضد المخالفين، وانتشار الجمود والتقليد، حتى كانت صدمة اللقاء بالآخر الأوروبي مع الاحتلال البريطاني للهند، وإسقاط إمبراطورية المغول الإسلامية، ثم مع الحملة الفرنسية على مصر (1798).
جديد أو حديث؟
هناك إشكالية حول مسمى علم الكلام الجديد. تيار كبير يرى ألا حاجة إلى علم جديد، وأن المطلوب هو توسيع علم الكلام، وبعضهم يقبل بتسمية "علم الكلام الحديث"، تمييزاً له عن القديم.
يرفض المشتغلون بتجديد علم الكلام ذلك، ويرون أن كلمة الحديث تعني الفارق الزمني فقط، بينما كلمة الجديد تتجاوز مجرد إضافة عدة مسائل عصرية، بل هي عملية تتعلق بالمنهج والهدف واللغة، والموضوعات.
يقول عبد الجبار الرفاعي: "أنا أتبنى مصطلح ‘علم الكلام الجديد’، وإنْ كان باحثون أشد التصاقاً بالتراث يحرصون على استعمال مصطلح ‘علم الكلام الحديث’، وغير ذلك من تسميات تستبدل كلمة ‘الجديد’ بما يوازيها، في محاولة منهم للخلاص من الحمولة الدلالية لمصطلح ‘علم الكلام الجديد’، وما يشي به من قطيعة مع معظم كلاسيكيات علم الكلام القديم، ودعوة لإعادة بناء شاملة لعلم الكلام، تتخطى المنطق الأرسطي لتنتقل إلى المنطق والفلسفة الحديثين، والتحرر من سطوة الطبيعيات والرؤية القديمة للعالم، بتوظيف مكاسب العلوم والدراسات الإنسانية والرؤية الجديدة للعالم، وتبعاً لذلك يتحوّل منهج علم الكلام وبنيته، وتتبدّل كثيرٌ من مسائله، بل يحدث تحوّل في طبيعة وظيفته، فبدلاً من انشغاله في الدفاع عن العقائد، تصبح وظيفته الجديدة شرح وبيان وتحليل المعتقدات، والكشف عن بواعث الحاجة للدين، ومختلف الآثار العملية لتمثلاته وتحولاته في حياة الفرد والجماعة، تبعاً لأنماط الثقافة وطبيعة العمران والاجتماع البشري".
تسمية "علم الكلام الجديد" صارت شائعة في الثقافة الهندية والإيرانية والعربية، ويرى الرفاعي أن شيوعها سبب متابعته في استخدامها، ولولا ذلك لفضّل مصطلح "الإلهيات".
وانطلاقاً من كون الإلهيات تدخل في باب الميتافيزيقيا التي تتجاوز الطبيعيات، ومن أنها قضايا لا منهج واحداً لحسمها، بل تظل في باب الاعتقادات، لا المعرفة الواضحة، يتحتم تغيير المناهج والرؤى التي تتناول هذه القضايا، بما يترتب عليها من شيوع التسامح في الاعتقاد، بدلاً من التعصب.
"لا جوابَ أبدياً للأسئلة الميتافيزيقة الكبرى"، تلك هي المسلمة التي ينطلق منها الرفاعي في تأكيده على ضرورة بناء علم الكلام الجديد.
ويشرح قوله: "إن الإنسان لا يمكن أن يتصل بالله إلا من خلال الصورة التي يراها لله. وصور الله تتعدد بتعدد ما أنتجه لاهوت الأديان وعرفانها، بل ذهب محيي الدين بن عربي وبعض العرفاء إلى أن صور الله تتعدد بتعدد طرق البشر إليه. ولا يصل البحث في الميتافيزيقا إلى نتائج أخيرة، لذلك تظل الأسئلة العميقة فيها تتوالد باستمرار، بالتزامن مع تطوّر وعي الإنسان وتراكم معارفه وخبراته المتنوعة، وتنامي اكتشافاته لقوانين الطبيعة والتوغل في آفاق الكون والكشف عن أسراره".
لما كان الوحي هو الأمر الجوهري في النبوة، فإن بناء مفهوم جديد للوحي، يُعتبر العلامة الفارقة للتمييز بين المتكلم القديم، والمتكلم الجديد، وهو المعيار الذي ينفرد به الرفاعي، ويوضح ذلك بقوله: "يبتني هذا المعيار على اجتهاد جديد يقدمه المتكلم لبناء مفهوم للوحي، لا يكرر مفهومَه في الكلام التقليدي، وتفسير للنبوة بوصفها ظاهرة ميتافيزيقية، وتحليل لنوع الصلة الوجودية التي يعيشها النبي مع الله. أما طبيعة الكلام الإلهي، وكيفية تشكل النص القرآني، وتاريخ تدوين الآيات، وجمع المصحف، فكلّ ذلك وغيره من مباحث تتفرّع عن الكيفية التي يفهم فيها المتكلم حقيقة الوحي وكيفية تلقي النبي له. وعلى هذا نرى أن كلَّ قول جديد في علم الكلام ينبغي أن يتأسس على بناء مفهوم للوحي في آفاق العقلانية الحديثة".
بذلك، "يصبح كل متكلم يفكر في آفاق العقل الحديث، ويفهم الوحي فهماً ديناميكياً، هو متكلم جديد. وكل متكلم يفكر في آفاق العقل القديم، ويفهم الوحي فهماً ميكانيكياً، هو متكلم قديم"، يقول الرفاعي.
يخلص الرفاعي إلى أن "الكلام الجديد هو ‘علم’، لأنه يعتمد مناهج البحث العلمي، ويوظّف كل ما يحتاجه الباحث من مكاسب المعرفة البشرية، بلا ارتياب أو حذر، وهو بحث علمي في الكلام الإلهي، لأن موضوعه الوحي الذي هو الموضوع المحوري في علم الكلام الجديد، والكلام الإلهي مبحث أساسي في بيان حقيقة الوحي، وإمكانية تواصل الله مع الإنسان بلغة بشرية، وهو علم ‘جديد’ بوصفه لا يستنسخ مناهج الكلام القديم، ويتحرر من كثير من مسائله وجدالاته المكررة، ويتسع لمسائل جديدة تتصل بأسئلة ميتافيزيقية توالدت في ذهن إنسان اليوم ولم يعرفها إنسان الأمس، خاصة الأسئلة المتصلة بمعنى وجود الإنسان وحياته ومصيره".
وأورد الرفاعي في حديثه جملة من الاختلافات بين العلم القديم والجديد، في عدة مسائل منها أن "الكلام القديم اعتمد على الطبيعيات الكلاسيكية في تكوين رؤية للكون، أي طبيعيات اليونان التي أثبتت الفيزياء الحديثة زيفها. مقابل ذلك يتبني المتكلم الجديد العلوم الحديثة، ويعمل على صياغة الرؤية الدينية وفقها، وهو ما يؤدي إلى انفتاح الإنسان المسلم على العلوم. وفي علم الكلام القديم تتسيد النزعة التجريدية أو الفصام بين النظر والعمل، ونسيان الإنسان، والتعاطي معه ككائن ميكانيكي، وتجاهل روحه وقلبه وعاطفته، وتفريغ علم الكلام من مضمونه الاجتماعي، والتربية على الخوف وترسيخ نفسية العبيد وتراجع دور العقل وشيوع التقليد، وترسيخ اللاهوت الصراطي".
بالإضافة إلى ذلك، "يفتقر علم الكلام القديم للمضمون الأخلاقي، فلا نرى فيه أثراً لمباحث تعالج ماهية القيم الأخلاقية، وطبيعة العلاقة بين الوحي والأخلاق، ولم يدرس الفضيلة أو السعادة، وكيفية تحقيقها. وتسببت الرؤية الأشعرية السائدة في عدم القبول بالتحسين والتقبيح العقليين، وربط الحسن والقبيح بما يقرره الشرع في تفريغ الأخلاق من مضمونها، ونفي الأخلاقية عن كل المجتمعات غير المسلمة، وترتب على ذلك فقر أخلاقي في حياة المسلم، ورؤية تحقيرية تجاه الآخر"، حسب تعبير الرفاعي.
محورية الله أم الإنسان
ليس المقصود بالمحورية أحكام قيمية تتعلق بالأفضلية، بل بالأولوية في البحث، وبالهدف من الدين، وهناك رؤيتان رئيسيتان حول الوجود الإنساني في الإسلام.
ترى الرؤية الأولى أن الإنسان عبد لله، لا إرادة له، وأن الإسلام عبارة عن شريعة تقدّم قوانين وقيوداً يسير عليها الإنسان العبد في حياته، حتى يدخل الجنة في الحياة الآخرة، وتقوم هذه الرؤية على أن الإسلام وحده، بل مذهب بعينه هو الحق، وتُقصي المخالف في المذهب وليس فقط المخالف في الدين، ولا تهتم بماهية الإنسان، وكيف يعيش حياته. ونجد ترجمة لهذه الرؤية في التدين الشكلي الذي لا يعرف الإنسان فيه لذة الإيمان، ولا يقين له بالله، بل يردد مجرد شعارات جوفاء، ويمعن في تعذيب نفسه، وكراهية الآخر. ومن هذه الرؤية يخرج التطرف والإرهاب، ومعاداة الحريات، وسيادة روح الخضوع للاستبداد، تلك التي لم يعرف الإنسان سواها.
مقابل ذلك، هناك رؤية ثانية ترى أن للدين مكانة في الحياة، وله دور في حياة الإنسان، لكن ذلك لا يعني العبودية بالمعنى المبتذل أو بمعنى الخضوع للاستبداد، بل التجربة الإيمانية الحرة، والعلاقة الحرة بين الله والإنسان، وهذه الرؤية تحترم حق الإنسان في الحرية، والاعتقاد، وتعمل على تحويل الدين من مجرد طقوس إلى تجربة إيمانية وجدانية، وتحويل الشريعة من مجموعة قيود إلى مبادئ عامة تدعم القيم الإنسانية النبيلة.
تُترجم هاتان الرؤيتان في علم الكلام، فنجد في القديم محورية مسائل الله بدون ذكر كافٍ للإنسان. ويقول عبد الجبار الرفاعي لرصيف22: "لم يُدرج المتكلمون في مؤلفاتهم مبحثاً خاصاً بالإنسان، يتناول تأصيل موقف نظري يحدّد موقع الإنسان في سلم المخلوقات، أي منزلة الإنسان وقيمته بالنسبة إلى غيره، والهدف من وجوده، وحقوقه وحرياته، وطبيعة وظيفته، وأنماط حياته وثقافته، وعلاقتها بما يتشكل لديه من رؤية للعالم".
ويضيف أننا "في حاجة إلى صياغة رؤية جديدة للعالم، وإبراز موقع الإنسان فيها، وتحديد علاقته بالدين، مع التأكيد على أن الدين جاء لهداية الإنسان وتكريمه وخدمته. وتتجلى أهمية هذه الصياغة في واقع يتنامى فيه تطوّر الحياة الاجتماعية، وشيوع ألوان القهر والاستبداد، وامتهان الإنسان، وإهدار كرامته، وتدجينه على المفاهيم والقيم الرديئة".
يتصل بقضايا الإنسان موضوع صورة الله في الكلام القديم، فعندما ينشأ المسلم على صورة الإله الجبار، المرعب الذي يتلمس الهفوات لإلقاء الإنسان في الجحيم، سيتأثر نفسياً بهذه الصورة، وربما تصبغ معاملاته بالآخرين، ويقع بسببها في أسر الطقوس، والتطرف، والطاعة العمياء لرجال الدين، وسيلغي عقله، ولن يعرف قيمة الحرية. مقابل تلك الصورة هناك الصورة الرحمانية لله التي تركز على قيم الرحمة والحرية الإنسانية، وتسمح بحياة إيمانية تملؤها المحبة، والتسامح.
يفسر عبد الجبار الرفاعي ذلك بقوله: "صورة الله في علم الكلام القديم ‘الأشعري’ هي نموذج. هي صورة السيد المخيف المرعب، المتمرّس في البطش والتعذيب. وصورة الإنسان هي عبد مسترق خانع ذليل، لله أن يفعل به ما يشاء، يعذبه وإنْ كان طائعاً، ويثيبه ولو كان عاصياً، أي لا منطق للإيمان إطلاقاً، بل إله جبار يفعل ما يريد فقط، وما على الإنسان إلا التسليم، والخوف".
ترتب هذه النظرة "لاهوت الاسترقاق"، وهو بطبيعته "ينسج شباكاً معقدة لمختلف أنماط العبوديات التي تكبل حياة الشخص البشري، عبر إنتاج الاستبداد والنظام الأبوي في مختلف مستويات الاجتماع البشري، ويصادر حريات وحقوق الإنسان، ويجعله عبداً ذليلاً خانعاً، ويُفضي ذلك إلى إلحاد مختبئ، وإنْ كان يبدو مُقنّعاً بتدين زائف، ذلك أن الإنسان بطبيعته ينفر ممَّن يستعبده، ويكره مَن يمتهنه"، يُكمل الرفاعي.
يؤثر ذلك على تحقيق غاية الدين في الحياة، وهو ما يشرحه الرفاعي بقوله: "نمط الاسترقاق يُنتج علاقة مسكونة بالخوف والرعب والقلق بين الإنسان وربه، وهي علاقة لا تُسهم في تشييد حياة روحية أخلاقية أصيلة. ولعلاج ذلك يجب التحول إلى نمط علاقة تنبض بالتراحم والمحبة والوصال، وتقوم على الحرية والاختيار، دون إكراه أو امتهان. نمط الاسترقاق يرسخ للاستبداد، والخوف من الحرية، والفردية، والتفكير النقدي والعقلاني، والحداثة، ذلك أن الاستبداد يبحث دائماً عن الإجماع الشعبي، ويخشى التمايزات والمغايرة".
الكلام الجديد والإصلاح
يؤدي بناء علم كلام جديد إلى تغييرات كبيرة في الفكر والتدين الإسلاميين، سينعكس على رؤية الإنسان للعالم، والآخر، وحياته، وسيؤدي إلى تجديد حقيقي في أصول الفقه وفي الفقه، بما يجعل حقوق الإنسان محوراً هاماً في العلوم الإسلامية.
في كتابه "الدين والنزعة الإنسانية"، يقول عبد الجبار الرفاعي: "بناء إلهيات عقلية مستنيرة تحررنا من التفسيرات التعسفية القمعية للنصوص. وتحديث الإلهيات يتطلب الخروج من السياقات الكلاسيكية للتفكير الديني، وعدم التوقف عن طرح تساؤلات بديلة، والتوكؤ على منهجيات ومفاهيم مستوحاة من المكاسب الجديدة لفلسفة الدين، وعلوم التأويل وفتوحات المعارف البشرية، ما يفضي إلى التحرر من الصورة النمطية للإله التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية، والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب، والسعي إلى ترسيخ صورة رحمانية للإله تستلهم ما يتحلى به من صفاته الجمالية، وأسمائه الحسنى، ورحمته التي وسعت كل شيء".
يطمح الاجتهاد الكلامي لإحياء نزعة التفكير الحر التي شدد القرآن عليها، ويهدف إلى دراسة التراث بموضوعية، والتحرر من التحيزات الطائفية والقبليات المذهبية في البحث. و"تتجلى قيمة الاجتهاد الكلامي في الإصرار على التمييز بين الإلهي والبشري، بين المقدس وغير المقدس، بين الدين ومعرفة البشر للدين، بين العقيدة وإدراك الإنسان لها، بين الوحي الإلهي والعقل الإنساني، بين القرآن وتفسيره، بين الفقه وفتاوى الفقهاء والشريعة"، يقول الرفاعي لرصيف22.
وتتجلى أهمية علم الكلام الجديد في كونه مشتركاً بين أكاديميين ومفكريين من الشيعة والسنّة، ما يُعتبر التحدي الأول لهما، لاستقراء نجاعة الإصلاح المرجو من التجديد الكلامي. وكون الرفاعي درس في الحوزة العلمية، وتجمعه صلات بالمجددين من أبناء المذهبين، يجعله قادراً على استشراف ذلك. ويقول لرصيف22: "لا يمكن للمعنى الديني الذي ينتجه علم الكلام القديم إرساء أسس للعيش المشترَك بين مختلف الأديان والثقافات، وبناء علاقات دولية سلمية تحقّق المصالح المشتركة بين الشعوب، إذ لا تصلح المقولات الكلامية الموروثة منطلقاً للحوار الصادق المنتج بين الأديان، أو الفرق الكلامية في الإسلام، والذي لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا بالإيمان بالحق في الاختلاف، وتبنّيه أصلاً في أي حوار وتفاهم ونقاش مع المختلف في الدين، والعمل على اكتشاف ما هو جوهري في كل دين".
أما عن التدين الشعبي، "فمن صورة الله التي يرسمها المتكلم، وّيروجها أتباع الفرق والمذاهب يُشتقّ نمط التديّن، فإنْ تشكلت شديدة صارمة مستبدة يتشكّل تبعاً لها تديّنٌ متشدّد صارم مستبد، وإنْ تشكّلت رحيمة محبوبة جميلة يتشكّل تبعاً لها تديّن رحيم مولع بالحب والجمال".
وكخلاصة لكل ذلك، يقول الرفاعي: "عبادة الله بوصفه الأخلاقي تنتج تديّناً أخلاقياً، أما عبادة الله بوصفه الرحمن الرحيم فتنتج تديناً رحمانياً".
رصيف 22