تاريخ "خلق القرآن"... تدوين على مقاس السلطتين السياسية والدينية - مقالات
أحدث المقالات

تاريخ "خلق القرآن"... تدوين على مقاس السلطتين السياسية والدينية

تاريخ "خلق القرآن"... تدوين على مقاس السلطتين السياسية والدينية

عمار السوّاد:

 

إذا كان التاريخ سياسياً بامتياز، لأن السلطة هي الواجهة وما سواها جندي مجهول، فإن تدوينه على مقاسات السياسة لا تفعله السلطة السياسية الرسمية فقط، بل تشاطرها بذلك الدينية والثقافية... هذه الشراكة فعلت فعلها مع تأريخ فرضية "خلق القرآن" التي أظنها أهم ما أنتجه العقل النقدي في العقيدة الإسلامية خلال القرون الأربعة الأولى من عمر الإسلام.

أين حدثت صناعة التزييف بالفعل؟ صناعة الكذبة تظهر حين أريد أن يتم التعامل التاريخي مع مقولة "خلق القرآن" باعتبارها مجرد إجراء سلطوي. نُسيت النظرية نفسها أو تم تناسيها، وشاع الحديث فقط عن "محنة خلق القرآن" أو "محنة أحمد بن حنبل"، وعن تبني سابع الخلفاء العباسيين، المأمون، لها، مقابل انقلاب عاشرهم، المتوكل، عليها.

والتدليس ليس في أن المحنة لم تحدث، بل في جعلها عنواناً، ونسيان النظرية نفسها. التعامل مع الموضوع على أنه محنة سياسية ألقى بظلاله على نزاع فكري مثّل طرفيه المعتزلة من جانب وأحمد بن حنبل وغيره من سابقيه ولاحقيه الرافضين للقول بـ"خلق القرآن" على الجانب الآخر.

عمداً، أُهملت النظرية وما مرّت به من تطورات ومتغيرات وتحديات جعلت حاكماً مهماً، مثل المأمون، يدين بها ويستخدمها كإيديولوجيا للحكم. إنه تشويه تعمّد حرّاس سلطة العقيدة الرسمية فعله. وضعوا كلَّ شيء في مسار سياسي، لتظهر الأمور وكأنها مجرد معطيات حكم متغيّرة وليس ذروة عقلانية قتلتها السياسة.

فالفرضية شكلت ذروة استخدام العقل في مرحلة مبكرة من حياة الدين الإسلامي. هي تعبير جوهري عن الجدل الصريح بين "العقل" الذي قاد تيار الاعتزال وبين "الحديث" المنتمية إليه غالبية المذاهب الإسلامية الموجودة. وبانتصار النص على العقل انهارت منظومة صناعة الرأي، ونقد التراث.

قرن ونصف من الجدل

الفرضية ببساطة كاملة تقول إنّ القرآن مخلوق من الله وليس جزءاً من الذات الإلهية. وأبسط استدلال عليها اعتمد على كون "كلام الله" المرسل إلى النبي محمد مكتوب ومنطوق ومقروء بلغة البشر، وله أبعاد فيزيائية، فهو أثر من آثار الرب وليس جزءاً منه، هو مضاف إليه وليس قطعة منه، إذ يستحيل، بناء على الثابت العقائدي الإسلامي، أن يكون شيء مادي جزءاً من "المُطلق" الذي وصفه القرآن نفسه بـ"ليس كمثله شيء".

مرّت الفرضية بأربع مراحل رئيسية: البداية الفكرية، الانتشار الفكري، التبني السياسي ثم المنع السياسي.

لا نجد اختلافاً يُذكر بين مؤرخي الأفكار بشأن أول استخدام لمصطلح خلق القرآن. إنه يعود إلى كل من الجعد بن درهم (ت. 105 هـ) والجهم بن صفوان الترمذي (ت. 128هـ). الاثنان قُتلا، وأولهما قُتل بتهمة الكفر، وهو أوّل مَن قُطع رأسه في الإسلام على خلفية موقف فكري صرف. وينقل ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" أنّه ذُبح مثل الخراف تحت منبر والي الكوفة، كأحد قرابين عيد الأضحى.

أما الجهم فقُتل بتهمة الخروج على الحاكم، ويروي الطبري في تاريخه أن قاتله من أنصار مدرسة الحديث النبوي.

لحظة البداية إذن كانت دموية وشديدة المواجهة مع السلطة وفقهاء الخطاب الرسمي. عاصرت البدايات ما يُعرف بعهد التابعين، العهد الرابط بين صحابة النبي محمد، أي عصر النص، وبين ظهور المذاهب الفقهية ومن ثم العقائدية، أي أنّها جاءت في فترة التمهيد لتبويب الأفكار، وتصنيفها وإظهارها كمذاهب ومدارس.

وفي مرحلة انتشارها، أصبحت الفكرة جزءاً لا يتجزأ من بواكير أفكار المعتزلة. طبعاً، من غير المشهور ما إذا كان واصل بن عطاء (131هـ)، المؤسس المعروف للمعتزلة، تبنى خلق القران، لكنّ شريكه الآخر في التأسيس عمرو بن عبيد (143هـ) تأثر بالجهم بن صفوان. وكان أكثر مَن أسس للمقولة داخل عقائد المعتزلة، هو بشر بن غياث المَريسي (218هـ).

امتدت مرحلة الانتشار تقريباً منذ نهايات العصر الأموي إلى السنوات الأخيرة من عهد المأمون العباسي، أي ما يقارب قرناً من الزمن، وهي الفترة التي شهدت ظهور المذاهب الفقهية، واحتدام السجالات العقائدية والفلسفية بشأن قضايا عدة.

كانت كثرة ظهور المدارس، المذاهب والتيارات الإسلامية، صفة القرن الهجري الثاني. هو عصر ولادة المذاهب الخمسة الكبرى وعدد من التيارات العقلية والنصية والروحية التي ستحدد ملامح فترات مقبلة من تاريخ المسلمين.

أخذت التيارات المتوالدة طريقها إلى الدخول في السجال حول "خلق القرآن". نظّر له المعتزلة وغيرهم وتردد كثيرون ورفضه آخرون. قيل إن أبا حنيفة قال بخلق القرآن، رغم نفي بعض تلامذته لذلك. غير أن عبد الله بن أحمد بن حنبل نَقل في "كتاب السنة"، عبر أكثر من مصدر، اعتقاد أبو حنيفة بذلك، ونقل ذلك أيضاً ابن نعيم الأصبهاني في "كتاب الضعفاء" والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد".

وليس مستبعداً عن أبي حنيفة الذي تبنى آراءً عقلية كثيرة أن يتبنى رأياً مثل هذا. ومؤسف أن المدوَّنة الإسلامية لم تنصفه. جلّ ما وصل إلينا هو عبر مدوّنة تلميذه أبي يوسف، أول قاضي قضاة في الخلافة العباسية، مع ملاحظة أنها الخلافة نفسها التي عارضها أبو حنيفة وسجنته مراراً.

المأمون وخلق القرآن

المرحلة الثالثة من حياة فكرة "خلق القرآن" هي مرحلة تبني الخليفة العباسي المأمون لها، واستخدامه سلطته للدفاع عنها وملاحقة معارضيها ومنكريها، وأمره باعتناقها، في ما عُرف بـ"محنة ابن حنبل" التي يروي فصولها الطبري في تاريخه.

هنا لازم الاعتزال الفرضية، فبات المعتزلة آنذاك يمثلون القول بهذا الرأي. غير أن السجال حولها تحوّل من جدل فكري إلى مذهبي. تيار الاعتزال بات آنذاك إيديولوجيا ضد إيديولوجيات، ورأياً مذهبياً ضد آراء مذاهب أخرى. وساهم في ذلك تبني السلطة لموقف هذا التيار، وحربها على مَن يقف بالضد منه.

أخطأ المعتزلة بالالتصاق بالسلطة. الأفكار العقلانية تفقد قيمتها إذا حصلت على دعم بفعل غير عقلاني. ربما تربح بضعَ سنين، غير أن ذلك قد يجر عليها ويلات لقرون. رصيد الأفكار المتنورة عقلانيتها، وإذا استخدمت سلاحاً غير ذلك ستخسر الاثنين، خصوصاً أنها تخالف السياق المقدس وتكسر الثابت.

وعلى أي حال، انحسرت فكرة خلق القرآن. الخصوم كانوا منسجمين مع لاهوتية نظام الخلافة، وسنين الربيع التي عاشتها بها كانت مؤقتة، فلا توجد سياسة لاهوتية قادرة على الاحتماء طويلاً بتيار ينقد الميتافيزيقيا، بل يمهد لتفكيكها.

من هذا المدخل وصلت الفرضية إلى صفحتها الأخيرة، عندما انقلبت السلطة عليها، واتخذت موقفاً يناقض السابق. ففي عام 234 هجرية، جرّم المتوكل العباسي الجدل في القرآن، لذلك سمي بـ"رافع المحنة".

سجّل المعتزلة في ما بعد حضوراً وخاضوا معارك كلامية وأسسوا مدرستي اعتزال البصرة وبغداد، لكنهم كانوا مجرد مذهب، انحسر منذ القرن الخامس الهجري وذاب في المذاهب الفقهية والعقائدية الأخرى.

وبانحسار هذه العقلانية هيمنت الحنبلية. مقولات محدودة بقيت من الاعتزال اقتبستها أو سرقتها عموم المذاهب الإسلامية، خصوصاً المذاهب الشيعية، لكنها لم تستخدم المقولات العقلانية التي اكتسبها من المعتزلة علمياً، بل كانت تتعكز عليها في الصراع المذهبي.

النتائج الملازمة لخلق القرآن

قبل السؤال عن قيمة القول بخلق القرآن، لا بد من سؤال آخر هو هل إن ذلك القول يمس قدسية النص المؤسس؟

تقديس الأشياء والأشخاص غير مرتبط بالقدم. شخصية النبي محمد مثلاً مقدسة عند المسلمين، يرونها ذات هالة إلهية، لكنها ليست قديمة بقدم الإله، بل إنه ولد ومات. لذلك لا تعني مقولة الخلق عدم التقديس.

ومن جانب آخر، للمقولة نتائج عملية. فعندما نقول إن القرآن محدث وجديد ومرتبط بالعصر النبوي وليس قديماً بقدم خالقه فإن ذلك يعني القول بطروء كل ما يطرأ على المخلوقات: مولود ويشيخ ويموت.

وأصحاب المقولة أدركوا أهمية ما قالوه. القصة ليست مجرد جدل مترف، إنما ارتبطت برؤية عقدية ذات أثر، مسّت أصول الدين، وليس فروعه فقط. النص المقدس ليس خالداً، حاله مثل بقية المخلوقات، يخضع للكثير من ظروف المخلوق.

وعندما نفترض أن هناك نهاية زمنية للمخلوق (القرآن)، باعتباره أثراً عن الرب وليس جزءاً من الإله، فإنّا بالضرورة سنقول إن ما بعد موته يمكن أن يعني ولادة آخر. ويقول الإسلام إن نبيه خاتم الأنبياء، وإن الوحي انقطع عن الأرض، لكنه لا يقول إن الدين خاتم التشريعات والقوانين، ما يعني أن الشريعة يمكن أن تتغير.

فالنصوص القرآنية تدلنا على ما يثير الاهتمام، وهو أن الخاتمية التي تحدثت عنها ليست خاتمة التشريع والأفكار، بل نهاية عصر الوحي والنبوات. بمعنى أن انقطاع ما يُعرف بالوحي لا يعني بالضرورة منع الإنسان عن استكشاف حياته وقوانينه وقيمه بنفسه. وربما تكون مرحلة العقل هي المرحلة اللاحقة وفق دورة الحياة المخلوقة من خالق العقل والكتب المقدسة.

من هذه النقطة تحديداً، تبرز أهمية مقولة "خلق القرآن"، كونها تعني أن البناء القانوني والعقائدي والفكري مستمر، حتى لو توقف "جبريل" عن التدخل بحياة البشر. إنها، كنظرية أو فرضية، تشير إلى أن مَن روّجوا لها أو استدلوا عليها، أدركوا مبكراً خطورة وضع الإنسان أسيراً لوحي الماضي، وفهموا أن التاريخ مستمر والحاجات متوالدة والموضوعات متناسلة.

أظن أننا كنا أمام وعي مبكر صنع مقولات مهمة أخرى كان يمكن أن تُنتج فرقاً وتغييراً، غير أن المسلمين لم يكونوا مؤهلين للتغيير. لذا هي لم تكن محنة أحمد بن حنبل أو خلق القرآن، بل محنة العقل.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث