المساواة في الميراث... نعيد النظر في أجوبة معاصرة لإشكاليات التراث - مقالات
أحدث المقالات

المساواة في الميراث... نعيد النظر في أجوبة معاصرة لإشكاليات التراث

المساواة في الميراث... نعيد النظر في أجوبة معاصرة لإشكاليات التراث

محمد يسري:

 

لا تزال مسألة المساواة بين المرأة والرجل في الميراث، تستحوذ القدر الأكبر من النقاش والجدل في العالم الإسلامي، منذ دعا الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي إلى ذلك بشكل مُعلن في 2018م، وحتى اللحظة الحالية.

تزامناً مع هذا القرار السياسي، صدرت مجموعة من الدراسات العلمية المهمة، والتي عملت على النبش داخل أعماق المنظومة الفقهية الإسلامية، لإعادة قراءة الأحكام المتعلقة بتلك المسألة وتقييمها من جديد، ولتقدم أجوبة وتخريجات منطقية لبعض من الإشكاليات التراثية التي تقف كحجر عثرة في سبيل تحقيق المساواة العادلة.

للذكر مثل حظ الأنثيين... تفسير جديد

مما لا شك فيه، أن أحد العقبات المهمة التي تقف في صف عدم وقوع المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، هي تلك المنبثقة من الفهم التقليدي للآية الحادية عشرة من سورة النساء، والتي جاء فيها "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ...".

وجهة النظر التراثية التقليدية في تفسير تلك الآية، تذهب إلى ضرورة الفهم الحرفي لها، دونما مراعاة للسياق أو الآيات الأخرى المنظمة لمسائل وأحكام الإرث، ولعل تفسير ابن جرير الطبري في كتابه "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" لتلك الآية، من أكثر التفاسير تعبيراً عن الروح التراثية، إذ قال: "يعهد إليكم ربكم إذا مات الميت منكم وخلَّف أولاداً ذكوراً وإناثاً، فلولده الذكور والإناث ميراثه أجمع بينهم، للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، إذا لم يكن له وارث غيرهم، سواء فيه صغار ولده وكبارهم وإناثهم، في أن جميع ذلك بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين".

الراحل الدكتور محمد شحرور، قدم تخريجاً جديداً لذلك الإشكال، في كتابه "نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي"، إذ اعتمد بالمقام الأول على الفهم اللغوي المختلف لنص الآية، وذكر أن المعنى المنضبط لها هو أن نصيب الذكر يتساوى مع نصيب الأنثى، وأن الفقهاء الذين اجمعوا على أن الذكر يرث ضعف الأنثى، قد أخطأوا، لأن ذلك المعنى لا يستقيم إلا لو كان نص الآية هو "للذكر مِثْلا حظ الأنثى"، وهو ما لم يرد إطلاقاً في النص المقدس.

شحرور ذهب إلى أن الآية الواردة، تتحدث عن حالة بعينها، وهي تلك التي يكون فيها الإناث ضعف عدد الذكور، فعندها يرث الذكر ضعف نصيب الأنثى، أما فيما يخص الحالات الأخرى فالأمر يختلف، فلو كان عدد الإناث مساوي لعدد الذكور، فإن الجميع يرث القدر ذاته، أما في الحالات التي يزيد فيها عدد الإناث عن ضعف عدد الذكور، فأن شحرور يستند إلى باقي الآية الكريمة "فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك..."، وعلى هذا إن فرضنا وفاة رجل وتركه لأربعة أولاد (ذكر واحد وثلاثة إناث)، لكانت حصة الذكر في تلك الحالة 33.33% من التركة وحصة الإناث الثلاثة 66.66%، وهو ما يعني أن كل أنثى ترث 22.22% من التركة.

"لا وصية لوارث": الإجماع مقابل القرآن

ذكر النص القرآني صراحةً، أن للفرد أن يوصي بما يشاء قبل موته، وأن تلك الوصية يجب أن تُنفذ قُبيل توزيع التركة على الورثة، وذلك بموجب الآية الثانية عشرة من سورة النساء: "وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ"، وفي الوقت ذاته، فإن النص القرآني قد أكد على أولوية الأقارب في الوصية، وذلك بموجب الآية 180 من سورة البقرة: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ".

هذا النص يتوافق بشكل كامل مع صفة الحرية التي منحها الدين الإسلامي لمعتنقيه، والتي تمنح كل فرد الحق في توزيع أمواله وأملاكه بالشكل الذي يتوافق مع أفكاره وأولوياته ورؤيته الخاصة في الحياة.

ولكن لو نظرنا إلى المدونة التشريعية السائدة والمُتعارف عليها، لوجدنا أن العقل الإسلامي الفقهي، قد عمل على انتاج منظومته القانونية الخاصة، محتكماً –بالمقام الأول- إلى ضوابط البنية الاجتماعية العربية السائدة، ولما كانت تلك البنية في صورتها المبكرة، هي بنية قبلية عشائرية ترى أن الفرد ليس له انتماء خارج العشيرة، وليست له الحرية في أن يتصرف في ماله، لأن هذا المال ليس ماله فقط، بل مال العشيرة كلها، فأن المدونة الفقهية قد تغافلت عن الدلالة الواضحة للنصوص السابقة، واحتكمت لحديث "لا وصية لوارث"، الوارد في مسند أحمد بن حنبل، رغم أنه من أحاديث الأحاد، التي اختلف العلماء في حكم حجيتها وضرورة العمل بها.

بحسب ما يذكره بعض الباحثين المعاصرين، فأن ذلك الحديث، سرعان ما تم تأييده بما حُكي عن اجماع الفقهاء على عدم جواز الوصية لأحد من الورثة، وما ذكره بعضهم من أن الآية قد نُسخت وبطل حكمها، بحسب ما يذكر الطبري في تفسيره على سبيل المثال.

المرأة والأطفال الصغار كانوا أكثر من تعرض للظلم والغبن من جراء تغيير ذلك الحكم، فمن المعروف أن الكثير من الآباء الذين يستشعرون دنو أجلهم، يمتنعون عن كتابة الوصية لبناتهن وأطفالهن، خوفاً من مخالفة ما قدمه الفقهاء على كونه الشرع، ورغم ما يتحصل عن ذلك من ضرر لأقرب الناس إليهم، وبذلك صار اجماع الفقهاء المعارض للنص القرآني في تلك المسألة حاكماً وقيداً على تطبيق روح العدالة.

التعصيب: الصراع السياسي يساهم في ظلم المرأة

في اللغة، التعصيب هو قرابة الرجل لأبيه، ويُقصد به أهل الرجل من الذكور، سواء كانوا من الأبناء أو الآباء.

مصطلح التعصيب في الفقه الإسلامي قُصد به، أنه وبعد أن يأخذ أقارب المتوفي حقهم الشرعي المنصوص عليه، فأن باقي الميراث يؤول إلى العصبة من الذكور دون الإناث، وذلك استناداً إلى الحديث المنسوب إلى الرسول في صحيح البخاري، والذي جاء فيه: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَر".

الملاحظة المهمة هنا، أن ذلك التشريع لم يرد بشكل واضح في القرآن الكريم، بل على العكس من ذلك، فأن مجموعة من الآيات قد وردت في سياق التأكيد على أولوية الأقربين بوراثة بعضهم البعض، دون التطرق لتحديد الجنس، ومن ذلك الآية الخامسة والسبعين من سورة الأنفال: "وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ، والآية السادسة من سورة الأحزاب: "النَّبِيُّ أولى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إلى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً"، فيما أكدت آيات أخرى– صراحةً- على تساوي الرجل والمرأة في إرث المتوفي، ومنها الآية السابعة من سورة النساء" :لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيباً مَّفْرُوضاً".

ويُعدّ كتاب "ميراث النساء ووهم قطعيّة الدلالة (تلك قسمة ضيزى)"، من تصدير الدكتورة نائلة السلّيني، وبمشاركة جماعية من جانب مجموعة من الباحثين التونسيين، من أهم الكتب الحديثة التي عملت على حلحلة الإشكالية الخاصة بالتعصيب، ومناقشة السياقات الاجتماعية والتاريخية التي ظهر وتأصل فيها.

ويذهب الباحث فريد بلقاسم في الكتاب، إلى أن المستند الأول الذي بنى عليه الفقهاء نظرية التعصيب، هو بالحقيقة مستند مزيف، لأن عبد الله بن العباس-وهو راوي حديث التعصيب- قد أنكر أنه رواه، وهو الأمر الذي من شأنه بالتشكيك في الفكرة برمتها.

التعصيب، في كثير من الأحيان، قد ينطوي على ظلم اجتماعي بائن ولا سبيل لإنكاره أو التنصل منه، ومن أوضح صور هذا الظلم، أنه في حالة وفاة الوالد تاركاً من ورائه ابنة واحدة أو مجموعة من البنات، فأن أي قريب من جهة الأب دون الأم ولو كان بعيداً، كعم أو ابن عم أو ابن ابن عم، فأن من حقه أن يقاسم البنت أو البنات في تركة والدهن.

الباحث المغربي محمد عبد الوهاب رفيقي أوضح الإجحاف الواضح في تطبيق قاعدة التعصيب، ولا سيما في زمننا المعاصر الذي تفسخت فيه الروابط العشائرية، وأضحى الرجل غير مسؤول عن الانفاق على الإناث من أبناء عمومته، فقال: "بأي حق وبأي ميزان يرث العم وابن العم مع البنت أو البنات، مع إعفائه من أي مسؤولية تجاههن؟ أي شريعة هذه لا تراعي أن نظام الأسرة قد تغير اليوم، فلم نعد نعيش زمن القبيلة، حيث كان الأعمام وأبناؤهم جزءاً لا يتجزأ من الأسرة؟ أي تصور هذا يسمح للعم وابن العم للدخول على البنت وأخواتها وجسد الميت لا زال طرياً بموته، فيطلب نصيبه من المسكن الذي عاشت فيه الأسرة الصغيرة حياتها، بنته طوبة طوبة وتعاونت على تأثيثه قطعة قطعة؟ أي قانون هذا يلجئ الناس للتحايل عليه والهروب منه عبر بيع ممتلكاتهم لبناتهم زمن حياتهم خوفاً من أن يدخل عليهم أخوه أو أبناؤه بعد موته؟".

الأسباب الاجتماعية العشائرية ليست هي السبب الوحيد في ظهور وتمكين قاعدة التعصيب وسيطرتها على العقل الفقهي، ولكن أيضاً من الممكن أن نلمح حضوراً قوياً ومؤثراً للأسباب السياسية، وخصوصاً تلك المرتبطة بالخلاف المبكر حول الإمامة والخلافة.

فلما كان التنافس بين المسلمين قد دب بعد وفاة الرسول بسبب الخلاف حول منصب الإمامة، وتحديد الشخص الذي يحق له وراثة كل هذه السلطة الروحية التي كان يتمتع بها النبي، فأن الأنظار قد اتجهت إلى أقربائه المقربين، والذين كان يتصدرهم بطبيعة الحال كل من العلويين، من أبناء علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء، من جهة، والعباسيين، أبناء العباس بن عبد المطلب، عم الرسول، من جهة أخرى.

أصداء النزاع بين العلويين والعباسيين على الاستئثار بالإرث الروحي للرسول، انتقلت في المدونة الفقهية إلى حيز الصراع على الإرث المادي بشكل عام، وما يشهد على ذلك، ما ذكره أبو منصور الطبرسي في كتابه" الاحتجاج"، من أخبار المناظرة الشهيرة التي دارت بين الخليفة العباسي هارون الرشيد والإمام العلوي الفاطمي موسى الكاظم، إذ أنكر الأول على الثاني فقال: "فلم ادّعيتم أنّكم ورثتم النبي والعم يحجب ابن العم وقبض رسول وقد توفي أبو طالب قبله والعباس عمّه حي؟"، فرد عليه الكاظم: "إنَّ في قول عليّ بن أبي طالب: إنّه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو أنثى لأحد سهم إلاّ الأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنّة، إلاّ أنّ تيماً وعدياً وبني أميّة قالوا: العم والدٌ، رأياً منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول الله".

من هنا، فأن نظرية التعصيب ليست من الأمور التي اتفقت عليها الأمة الإسلامية كلها، كما يحاول العديد من الفقهاء أن يؤكدوا، بل إن فريقاً كبيراً من المسلمين، وهم الشيعة الإمامية الاثناعشرية قد رفضوها رفضاً باتاً، وفي ذلك يقول رجل الدين الشيعي اللبناني المعاصر محمد جواد مغنية في كتابه الشيعة في الميزان: "التعصيب باطل من الأساس بشتى فروعه ومسائله، وإن التركة بكاملها للبنت أو البنات، وليس للأخ شيء لأن الولد ذكرا كان أو أنثى يأتي في الدرجة الأولى نسباً والأخ في الدرجة الثانية، والعم في الدرجة الثالثة".

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث