محمد المحمود:
تشتعل منطقة الشرق الأوسط بكثير من صور الصراع منذ أمد بعيد، وبصورة أوضح، منذ رحيل الاستعمار التركي قبل مئة عام. منذ ذلك التاريخ، والمنطقة الشرق أوسطية لا تكاد تهدأ؛ إلا لتبدأ رحلة صراع خارجي أو احتراب داخلي، وكأنما هو تعبير عنفي باليد والسنان عن عنف كامن في مضمر الجنان/ في منطق الوعي الثقافي، قد يجد ـ بين الحين والآخر ـ طريقه للتجلي في فلتات اللسان.
وبحق؛ لم يكن للاستعمار الأوروبي اللاحق دور محوري في التأسيس لهذا العنف بوضع لبناته الأولى، لا في التصورات النظرية/ الثقافية، ولا في مكونات الواقع؛ رغم أن "الإسلامويين" و"العربويين" كثيرا ما يُلِحّون على هذا المنحى الاتهامي للآخر الغربي؛ كتمهيد لتبرئة الذات، والخروج بها من نطاق المسؤولية المباشرة عن واقع التخلف المتواصل المتناسل، وعن واقع الصراع والاحتراب الذي شوّه معالم النفس الإنسانية من الداخل، قبل أن يشوه معالم الواقع الخارجي بالدمار وبالأشلاء والدماء في أكثر من بلد شرق أوسطي.
على مستوى العقل الواعي، لا ريب أن إنسان هذه الجغرافيا الشرق أوسطية محب للخير (في حدود مفهومه للخير)، وراغب ـ وبشوق عارم أحيانا ـ في تحقيق السلام والأمن والرخاء في الفضاء الذي يتموضع فيه، ولكنه ـ على مستوى العقل اللاّواعي ـ منخرط في تصوّرات ثقافية تراثية عميقة تدفعه بقوة ليحقّقَ وجودَه الأمثلَ من خلال مسلك تنافسي صراعي يبدأ من أصغر دوائر الانتماء؛ وصولا إلى الدخول ـ قدر الاستطاعة، وحسب الظروف ـ في صراع مع العالم كله، على اعتبار أن هذا العالم هو عالم الأقوياء الأثرياء المتآمرين على الذات بشتى صور التآمر، التي تبدأ ـ وفق تصوراتهم البدائية ذات المنزع العشائري في عمقها ـ من "الغزو الثقافي"، ولا تنتهي إلا بـ"الاحتلال!".
منطق العصر الحديث، المتمثل بمنظماته الدولية التي أقامها، وسَنَّ قوانينها، وأشرف عليها، وضمن، بقوته المادية، انتظام عملها وفاعليتها، منطق هذا العالم الحر/ العالم الغربي، يدفع باتجاه السلام ليعم العالم كله، حتى تلك البؤر المستعصية التي لا ترى مصالحها إلا في الخروج عليه، بينما خطابات الكراهية/ الثقافة المشحونة بتصورات الكراهية المتواشجة ـ في الغالب ـ مع معمار البناء العقائدي/ المقدس، تدفع في الاتجاه الآخر، أي في اتجاه لغة العنف التي تتصاعد لتصل مرحلة الصراع المسلح؛ متى ما سمحت الظروف الموضوعية على أرض الواقع مثل هذا الصراع.
الصراع الذي نراه كبيرا بين الدول، أو بين الدول والتنظيمات المسلحة الأممية العابرة للدول، هو الظهور الأبرز/ الصورة الكبرى للصراعات الصغرى ـ المضمرة أو المعلنة ـ بين مكونات المجتمع الواحد، كما بين أفراد المجتمع الواحد.
خلف صراع الأفراد، فصراع المجتمع، فصراع الدول؛ يوجد تصور ثقافي ما، يحكم منطق الفرد في رؤيته لنفسه، وللآخرين من حوله، وللعالم من وراء ذلك. وإذا كان هذا التصور الثقافي محكوما ـ في مكوناته الأساسية/ الغالبة ـ بمنطق العنف، فسينعكس ذلك ـ بالضرورة ـ على مُتَمثِّليه من الأفراد والمجتمعات.
لهذا، ما لم تتوفر المجتمعات الشرق أوسطية على مشاريع ثقافية/ إعلامية واسع التأثير لنقد هذه التصورات الثقافية العميقة، وتفكيكها، وكشف زيفها من ناحية، وإيضاح مستوى قدرتها على الإضرار بالجميع من ناحية أخرى، فستبقى فاعلة/ متفاعلة في عالم الأذهان، في عالم النظريات والأطروحات الثقافية، ومتحفزة للعمل في عالم الأعيان.
صحيح أن العامل الثقافي ليس كل شيء، وأن للعوامل الموضوعية/ الواقعية دور في تحديد مجريات الأحداث في منطقة ما، لكن يبقى العامل الثقافي هو العامل الأهم، العامل الحاسم، لأن الوقائع التي يمكن أن تفتح أبوابا للعنف/ للصراع تحدث في كل مكان وفي كل زمان، ولكن طبيعة الاستجابة/ الرد هي الأهم، من حيث كونها تفتح أبوابَ الصراع على مصارعها، أو تغلقها، وتجعل منها بادرة سلام قبل أن تتحول إلى بادرة صراع.
وبما أن "طبيعة الاستجابة/ الرد" مرتبطة أساسا بطبيعة المُكَوِّن الثقافي للفاعل في هذا المجال، فإن الاشتغال على العامل الثقافي يعني الاشتغال على المشكلة من جذورها، وأن الحل ـ إذا ما تحقق في هذا السياق ـ فسيكون حلا جذريا للمشكلة، وليس مجرد "تسكين مؤقت"؛ لا يلبث أن ينفجر في وقت لاحق بما هو أشد عنفا وكارثية من المتوقع في الحالة الأولى.
في الشرق الأوسط، ثمّة تاريخ طويل من التأسيس لخطاب الكراهية المكتنز بكل صور العنف المتخيل والحقيقي. كتابات طائفية، و ـ أحيانا ـ عرقية، ترسخت عبر قرون، حيث كان مؤسسو الفِرَق ورموزها وزعماء الطوائف والمذاهب والقبائل، المتشكل وعيهم أصلا بـ"داحس والغبراء" و"البسوس" و"صفين" و"الجمل" و"كربلاء" و"دير الجماجم"...إلخ، يؤسسون ثقافيا/ دينيا ـ عقديا لكراهية متبادلة، ترسّخت وتضخمت مع مرور الأيام، وكانت "براميل متفجرة" من الكراهية التي تنتظر عود ثقاب.
وكما يرى الباحث البحريني/ نادر كاظم، فإن المُؤلِّف الطائفي في القديم كان يخاطب طائفته خاصة، فيبوح بالكراهية بكل حرية، إذ الطرف المستهدف لم يكن حاضرا، بل لم يكن موضوع الخطاب (كراهيات منفلتة ص52).
ما يقصده نادر كاظم هو أن ما كُتِب في فترة تاريخية ما، وفي دوائر ضيقة، وكخطاب تعزيزي داخلي/ خاص، أصبح في العصر الحديث، (ابتداء من عصر الطباعة الذي عمّم الكتبَ وجعل الاطلاع على التراثات ممكنا لأي مهتم، وانتهاء بعصر وسائل التواصل التي جعلت كل المدونات التراثية، بكل مواضيعها المفهرسة بعنوانيها الفرعية الصاخبة كرها وعنفا) تحت أمر حركة الإصبع الواحد لأي إنسان يريد أن يعرف أي شيء عن تراثه أو عن تراث خُصَمائه الدينيين أو السياسيين.
وهنا، تنفلت الكراهيات من عقالها/ من حدودها الخاصة التي يفترض أن كاتبها الأول لم يُرِدْ لها أن تتجاوزه، لتكون جزءا أساسيا من لغة التخاطب/ الحوار الديني والمذهبي في المجتمع الحديث.
الأسوأ من ذلك، أي الأسوأ من انتشار وذيوع خطابات الكراهية، وانتقالها من الخاص إلى العام، أن رموز الوعظ وسدنة معمار العقائد ومُؤسسي الأحزاب والتيارات الدينية، بل وبعض الدول، استثمروا كثيرا في هذا الخطابات التي نقلوها من "ظرفها التاريخي"، و"خصوصيتها المذهبية/ الدينية"، وربما من جُغْرَافيّتها الخاصة، لتكون "نمط وعي عام" يشتغل على الواقع بكل مكوناته؛ فينتج خطابه الصراعي الجديد/ القديم. وبلا ريب، فإن خطابات الكراهية إذا اندمجت في الواقع فاعلة/ متفاعلة، فلا بعد أن تتحدد ردود فعل هذا الواقع على ضوء مقولاتها، وهذا ما يجعل معتنقيها الجدد يتوهمون في هذه الردود مَصاديقَ تُثْبت أن ما كتب قبل مئات السنين حقٌّ أزليٌّ عابرٌ للزمان والمكان.
ما لم تتغير الثقافات الحاكمة للوعي، والتي هي ـ في أغلبها ـ دينية تراثية؛ فلن تتغير الأوضاع في الشرق الأوسط من أقصى إيران شرقا إلى حدود ليبيا غربا. لن يستطيع أبناء الشرق الأوسط إقامة مجتمعات تَسَالُميّة؛ ما لم ينتقدوا/ يُفَكّكوا كل ما يُشَكّل وَعْيهم الصراعي في العمق.
لقد تحدّث غوستاف لوبون في كتابه (الثورة والفرنسية وروح الثورات ص101) عن أوهام أولئك الذين يعتقدون أن الإنسان يمكن أن يتغير إلى ما يناقض ماضيه/ تشكله الثقافي الأول بمجرد وضع قوانين جديدة، وأكد ـ بدلالة الوقائع اللاحقة للثورة على مدى قرن كامل ـ أن تجديد المجتمع بالأنظمة/ القوانين لا يجدي في ظل ثقافة مناهضة لهذه القوانين، إذ ستنقلب عليها ـ بشكل صريح أو بالتفاف ماكر ـ، فالنصر في النهاية هو لتلك الثقافة الراسخة/ الموروثة التي يمتزج فيها المعرفي بالوجداني.
وباختصار، لا يمكن للعقول التراثية المشبعة بالعقائد الاصطفائية، وشحنات الكراهية العالية، هذه العقول الاحترابية لا يمكن لها أن تقيم مجتمعات تسالمية على أسس مدنية راسخة تتجذر مَدنيّتها/ تسالمها مع مرور الأيام.
وبصراحة تضيء هذا الاختصار، لا يمكن أن تطلب من إنسان أن يتعامل مع مواطنه الآخر (الآخر طائفيا أو عرقيا) كشريك مدني في إقامة مجتمع متسالم؛ بينما هو يقرأ ويسمع ويتشكّل وَعْيه ـ بإيمان عميق، وراسخ، وحاضر في الوجدان على الدوام ـ أن هذا المواطن/ الآخر عدوٌ مُبينٌ، وأنه لا يتمنّى له الشر أو حتى الهلاك فحسب، وإنما ينتظر ـ على أحرّ من الجمر ـ أية فرصة سانحة لينخرط في مشاريع قتالية تستهدف الفتك به وبعائلته وبمجتمعه الصغير.
وفي المقابل، يؤمن الثاني بما يؤمن به الأول تماما، وكلاهما ـ من بعد ذلك ـ مَطويٌّ على قناعة احترابية مفادها: إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، بمنطق الفرد وبمنطق الجماعة والطائفة، ثم كل طائفة/ كل جماعة تتغنى بأمجاد ذئابها، وتكتب تاريخهم في أسفار الخالدين.