لويز غالوريني:
للملائكة حضورٌ متحفّظ وإنما منتشر في القرآن. الكلّ يعرف معنى كلمة "مَلَك" لكن من يستطيع تعريفها بدقة؟ ما هو شكل المَلَك؟ وماذا يفعل المَلَك في أيامه ولياليه؟
ماهية الملائكة من النصِّ القرآن
في الحقيقة يصعب إدراك ماهية الملائكة من النصِّ القرآني وحده للوهلة الأولى، في اللغة أيضاً يُفلِت المَلَك من التحديد الأحادي وتظهر الازدواجية، فجَمعُ الكلمة يقبل ضمير جمع غير العاقل وضمير جمع العاقل في الوقت نفسه. فالملائكة هي، أو الملائكة هم، كائناتٌ من الغيب معروفة لدورها المحوري في الخيال الديني، في المراسلة بين الله والأنبياء، ومرافقة هؤلاء في لحظاتٍ هامّة من حياتهم، وخاصة في الأديان التوحيدية، فماذا يُرينا القرآن عن هذا الموضوع؟
نعرف أن الملائكة تكوّن جزءاً أساسياً من العقيدة كما نرى في الآية (4:136): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}، ومن قراءةٍ عميقة للقرآن نستخرج أن الملائكة تظهر تارةً بشكلٍ واضحٍ وتارةً أخرى بشكلٍ غامض: مجموعة من الآيات تذكرهم بشكل مباشر مع الكلمات "مَلَك"، "مَلَكَين" أو "ملائكة" مثل الآية السابق ذكرها، فيما مجموعة ثانية من الآيات تلمّح إلى وجود ملائكةٍ وإنما بطريقةٍ مفتوحة للتفسير والتأويل، فلا أثر للكلمة "مَلَك" في تلك الآيات، مع أن المفسّرين المختلفين لاحقاً سيثبتون فيما بين السطور وجودَ ملائكة.
على سبيل المثال نجد الآية (96:18) عن الزبّانية {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}: يفترض البحث الحالي في الأدب واللغويات أن تلك الكلمة تُشير إلى نوعٍ من الجنّ، أو كائنات من الميثولوجيا الشرقية القديمة، فيما يرى المفسّرون فيها ملائكة من حرس الجحيم، استعانةً بالآية (74:31) التي توضّح أن {مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً{.
وفي النار نجد مثالاً آخر وهو "مالِك" رئيس ملائكة الجحيم: في الآية (43:77)، وما قبلها وما بعدها، لا ذكرَ لكلمة "مَلَك"، فمن السياق المباشر وحده لا نستطيع التحديد بشكل مؤكد أنه من الملائكة. وهناك آيات غامضة تماماً لا تُفسّر من خلال آية أخرى، مثل الآية الأولى لسورة الصفات حيث يرى الكثيرون جنداً ملكياً: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا{.
مثالٌ أخير من تلك الآيات المثيرة للاهتمام، هي الآيات التي بُنيَت عليها قصة الإسراء والمعراج (وهي 17:1 و51:1 إلى 18): الملائكة من أبرز الشخصيات في الروايات العديدة التي ظهرت لاحقاً عن الإسراء والمعراج، وجبريل أوّلهم، أما في الآيات القرآنية المتعلّقة بتلك الحادثة فنجد فقط شخصيةً مجهولةً موصوفة بـ"شديد القوى"، ولا ذكر لجبريل ولا لمَلَك.
أما الآيات عن إبليس فتمثّل فئةً خاصة بين الوضوح والغموض: القارئ يفهم أنه من صنف الملائكة في سياق الآيات (7:11 و15:28 إلى 31 و17:61 و38:73 إلى 74) أما الآية (18:50) فتُصرّ أنه "من الجنّ"… فالأمر مفتوحٌ والمفسّرون كلّهم يقدّمون شروحاً لذلك بطُرُقٍ مختلفة، علماً بأن الجانب اللغوي هو أيضاً غنيٌّ بالاحتمالات: في كتاب لسان العرب لابن منظور يُشير إلى أن جذر كلمة "جنّ" قد يدلّ قديماً على أي كائناتٍ من عالم الغيب… من بينها الملائكة!
يذكر القرآن أربعة أسماء خاصة غير مالِك، مرصودة للملائكة، وهي جبريل وميكال وهاروت وماروت.
من السياق المباشر للآيتين (2:97 و 2:98) نفهم أن جبريل وميكال هما المَلَكَان الشهيرَان المعروفَان عند الكثيرين، وقد يعود ذلك إلى أن هذين الاسمين مشتركان بين القرآن الكريم والكتاب المقدّس.
نلاحظ من الرسم القرآني أن "ميكال" هو رسم بديل لـ"ميكائيل"، واحد من رؤساء الملائكة في المسيحية، أما جبريل فلا يحتاج إلى تقديم، ودوره المِحوري معروف، من حيث نقل القرآن إلى الرسول، سنداً للآية (2.97)، إضافة إلى كونه أيضاً رئيس الملائكة في المسيحية. أما هاروت وماروت، الملكَان المعلّمان المرسَلان إلى بابل (2:102) فلا يستمتعان بنفس الصيت خارج العالم الإسلامي، مع أن أمرهما لا يخلو من العجائب.
استناداً إلى بحوث الآداب والأديان، يبدو أن اسمَيهما قادمان من أسطورةٍ فارسيةٍ قديمة، فيما قصتهما وشخصيتيهما في القرآن، وفي التفاسير اللاحقة، تعود إلى نصٍّ مسيحي قديم من إثيوبيا "كتاب المراقبين"، من بين أصولٍ مفترضة أخرى، وبعيداً من صورة الملائكة الصافية، نراهما يعلّمان الإنسان أشياء مريبة، مثل السحر، مع أن ذلك يتم بإذن الله.
في ما يتعلّق بمظهر الملائكة نجد آيةً واحدة فقط (35:1) تُعطينا تفاصيل عن عدد أجنحتهم: ا{الْحَمْدُ للهِّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيما خَلقُهم لا يُذكَر على خلاف الإنسان والجنّ، وعلينا الاستعانة بالحديث كي نعرف أن الملائكة مخلوقاتٌ نورانية (أنظر صحيح مسلم حديث رقم 2996(.
وفعلاً لا تُدرِك وجود الملائكة في القرآن عن طريق مظهرهم، بقدر ما تُدرِكهم عن طريق أفعالهم، وأفعال الملائكة المختلفة في القرآن تدلّ على أدوارهم المختلفة: أولاً، هم مرسَلون من الله إلى الأنبياء ومريم أم عيسى، كما نرى مراراً في النص القرآني، والآية )35:1(تثبت هذا الدور الأساسي، كما رأينا أنهم حفظة من الجحيم، وفي المقابلة حفظة الجنة أيضاً.
ثانياً، نجد من بين الملائكة مَن يدعمون ويساعدون الإنسان بطريقةٍ فردية (على سبيل المثال المَلَك الحارس أو الحافظ في الآية 86:4) أو بطريقةٍ جماعية (خلال معركة بدر في الآيتين 3:124 و 3:125) وهذا الدور القتالي يُشير إلى قدرةٍ مَلَكية قوية من التأثير على البُعد المادي لعالمنا، ولا يقتصر على البُعد الروحاني فقط.
ملائكة يكرّسون أنفسهم لطلب المغفرة من أجل الإنسان عند الله
ثالثاً، نجد ملائكة يكرّسون أنفسهم لطلب المغفرة من أجل الإنسان عند الله (42:5)، مع أن ملائكة آخرين يرسلون لعنات أيضاً في بعض الأحيان (2:161).
رابعاً هناك مَن يستقبلون الأرواح بعد الموت (16:28 إلى 32)، ومنهم مَلَك الموت الذي لا اسمَ له في القرآن (32:11).
خامساً تتوزّع الملائكة في مهمّات مختلفة غير مختصّة بالإنسان، مثل حمل العرش والتابوت، وبشكل عام نجدهم ينفّذون أوامر الله، كونهم مثال الطاعة، ومثال المؤمن من الإنس والجنّ.
من دور الملائكة في المراسلة بين الله والإنسان، ومن أدوارهم الأخرى، نلاحظ أن تحوّلاً مهماً على المستوى الكوزمولوجي تمّ في الخيال العربي القديم وقت ظهور القرآن، إذ أن المراسلين بين عالم الغيب وعالم الإنسان كانوا موجودين ومعروفين في الجزيرة العربية قبل الإسلام، أي الجنّ.
فمن المعروف أن الجنّ كانوا مرافقي الشعراء، فكانوا أيضاً رُسُل الغيب إلى الكهّان وأهل السحر، وبما إن الملائكة وآلهة صغرى كانت مألوفة في الشرق الأوسط، وتقوم بوظيفةٍ مماثلة في إطار أديان أخرى حينذاك، فيبدو أن الكهّان العرب فضّلوا التعامل مع الجن لاستطلاع أخبار الغيب، وهذا بطريقة تُشابه تقاليد الشعوب ذوي الأعراف الروحانية "الشامانية".
ومن الأمثلة على تلك العادة، المشاهد العديدة التي تملأ القرآن، حيث يتهم أهلُ مكة الرسولَ بالتعامل مع الجن، ويطلبون منه استحضار مَلَك إن كان صادقاً في أقواله، لكن الملائكة من عالم الغيب فليسوا مَرئيين … إلا من أشخاصٍ نادرين مثل الأنبياء ومريم، فيخسر الجنّ في القرآن وظيفة التواصل السماوي لمصلحة الملائكة (72:8 و 72:9)، وبات الجن متَّهَمين بنَقل أخبارٍ مزيَّفة أو غير كاملة، وأصبح الملائكة هم الوسطاء الأمناء المختارون من قبل الله لنَقل الأخبار والالهام من السماوات إلى عالم الإنس، أما الجنّ، المخلوقات النارية التي خلقها الله قبل الإنسان (15:26 و 15:27)، فسيبقون في عالم الغيب، وإنما بشكل موازٍ لعالم الإنس وليس فوقهم، ولهم الحرية في التسليم أو رفض العقيدة الجديدة، مضطرين على ترك مسافة بين الإنسان والسماء كلياً للملائكة.
اللافت اليوم بفكرة الملائكة، إضافة إلى فكرة الجنّ القديمة، أن شخصيات الملائكة قبل 14 قرن كانت، في نصٍّ ديني مؤسس، رمزاً لزحزحة كبيرة في نظام عالم الغيب وكائناته، وبالتالي في الخيال الديني لدى شعوب مختلفة.