د. عماد بوظو:
لم يبدأ عصر التنوير والنهضة الذي أوجد الحضارة الحديثة إلا عندما تم فصل الدين عن الدولة؛ وهذا الأمر لم يقتصر على عدم إجبار أي شخص على اعتناق دين أو معتقد أو تقليد معين، بل شمل عدم خضوع الأنشطة البشرية للمؤسسات الدينية. لكن المرجعيات الإسلامية رفضت هذا الفصل، واعتبرت أنه شأنا غربيا قام فقط لفصل الكنيسة عن الدول الغربية. واتفق سيد قطب والخميني على أن الإسلام دين ودولة وعلى أن الحاكميّة لله، وقال الخميني إن فصل الدين عن الدولة مفهوم وضعه الاستعماريون في أذهان الشعوب.
وانسجاما مع هذه الرؤية الإسلامية قدّمت مؤسسة الأزهر قبل أيام مشروع قانون للأحوال الشخصية، أعدّته هيئة كبار "العلماء"، وكلمة العلماء عند الأزهر تعني رجال الدين، فالعلم عندهم هو التنقيب في كتب الحديث والسيرة التي كتبت بعد عدة قرون من الدعوة، واستخلاص أحكام منها، ثم اعتبار هذه الأحكام قطعيّة وكأنها أتت مباشرة من عند الله.
اعتبر بعض النواب أن اقتراح الأزهر قوانين يعتبر مخالفة دستورية. وقال مثقفون ونشطاء مجتمع مدني وخبراء في حقوق الإنسان والمرأة، إن الأزهر قد تجاوز دوره وتدخّل في عمل المشرّعين وحوّل مصر إلى دولة دينية.
من جهته، ردّ شيخ الأزهر على هذه الانتقادات بقوله: "حين يكون الوضع متعلقا بقوانين مصدرها القرآن والسنة والشريعة الإسلامية التي هي المصدر الوحيد الذي يمكن أن تنطلق منه أحكام الأحوال الشخصية، لا يصح أبدا ولا يقبل أن يترك الحديث فيها لمن هب ودب"، والمقصود بمن هب ودب علماء الاجتماع وخبراء حقوق الإنسان والقانونيين الذين يبحثون عن أنسب الوسائل لحماية المجتمع والأسرة والمرأة والطفل.
وتابع شيخ الأزهر معتبرا أن إعداد قانون الأحوال الشخصية هو حق يخصّه وحده، ثم استدرك، بما يشبه الاعتراف، بأن التراث الإسلامي غير عادل تجاه المرأة وملقيا مسؤولية ذلك على الله: "أما مسألة الموقف من المرأة فإن الأزهر مبلّغ لرسالة الله، ونحن مسؤولون أمام الله عن ما نقول"، واختتم حديثه بالتلميح إلى أن أي قانون يصدر عن أجهزة الدولة إذا لم يكن بمباركة الأزهر فلن يتقيّد به أحد.
ويدلّ هذا على إصرار الأزهر على تقديم مشروعه، رغم أن جميع القوانين التي تسير عليها الدول العصرية هي قوانين وضعيّة لم تشرّعها المؤسسات الدينية بل البرلمانات، بما فيها القوانين التي تتناول الأحوال الشخصية، وتستند هذه القوانين إلى مفاهيم حقوق الإنسان والمساواة بين البشر، وتتضمن شرعة حقوق الإنسان: "تتخذ الدول التدابير الكفيلة بتساوي حقوق الزوجين وواجباتهما قبل وأثناء وبعد الزواج". كما ضمنت اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة إدماج مبدأ المساواة في الدساتير بحيث تعترف الدول بالمساواة التامة بين جميع مواطنيها وبمساواة المرأة مع الرجل أمام القانون.
وقال الدستور المصري لعام 2014 إنه يتسق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "الذي شاركت مصر في صياغته ووافقت عليه، دستور يحقق المساواة بيننا في الحقوق والواجبات دون أي تمييز"، وتضمنت المادة 53 من هذا الدستور، "المواطنون متساوون لا تمييز بينهم بسبب الدين والعقيدة أو الجنس... وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كل أشكال التمييز".
وعندما تؤكد الدساتير الوطنية للدول على التزامها بميثاق حقوق الإنسان فإن هذا يرتّب عليها نتائج إلزامية إيجاد قوانين تعلو القوانين "الشرعية" الخاصة بالجماعات الدينية، بحيث يتمكن المواطنون الذين لا يريدون أو ليسوا منتمين لإحدى الطوائف من الخضوع للقانون المدني، أي الإطار الأوسع الذي يشمل جميع مواطني الدولة، لأن واجب الدولة هو حماية حقوق مواطنيها إذا تعرضت للانتهاك من التشريعات الخاصة بالطوائف الدينية.
وفي مصر يوجد ملايين الأقباط، وهم ليسوا سيّاحا أتوا لمشاهدة الأهرامات بل هم سكان مصر الأصليين. وهناك طوائف أخرى في مصر إضافة إلى من لا يمارس طقوس أي دين، فحسب الشرعة العالمية لحقوق الإنسان لا يجب إجبار هؤلاء على السير حسب الأحكام الشرعية للأزهر، ولذلك يبدو وكأن هدف الأزهر من تقديم مشروعه الحالي هو قطع الطريق أمام مناقشة جدّية لقوانين جديدة للأحوال الشخصية تراعي العصر وحقوق الإنسان المصري.
وكما هو متوقع فقد تضمّن قانون الأحوال الشخصية الذي قدمه الأزهر انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان. فهو لا يؤمن بالمساواة بين المواطنين، ففيه مثلا من المسموح زواج المسلم من مسيحية بينما لا يمكن زواج مسيحي من مسلمة. ويقيّد حرية الاختيار في الزواج وسلطة الإنسان على مشاعره وجسده، كما يتضمن أوضاع تمييزية بين الذكر والأنثى في الحقوق الطبيعية والحقوق العينية، مثل الحق بأن يتزوج الرجل عدة نساء أو أن تكون حصّته في الإرث ضعف حصّة المرأة.
إقرار السلطات المصرية لهذا القانون التمييزي يتناقض مع التزامها مبادئ حقوق الإنسان، ولكن إذا أصرّت المرجعيات الدينية على إجازة تشريعاتها تلك في بعض الحالات الخاصة، انطلاقا من أن عقود الزواج مثل بقية العقود "شريعة المتعاقدين"، وتقوم على قاعدة التراضي والأهليّة، فمن الممكن أن يقوم رجل دين بإقناع إحدى النساء بأن الله سيكافئها في الآخرة إذا سمحت لزوجها بأن يحضر إلى منزلها امرأة أخرى تقاسمها زوجها وكل شيء آخر، أو إذا وافقت على أن يأخذ أخاها ضعف حصتها من الإرث، وفي حال اقتنعت بذلك فمن الممكن أن تعطيه محكمة الطائفة الإذن، وتساعده في الحصول على استثناء من الدولة لهذه الحالة الخاصة، لكن من غير المقبول أن تكون قوانين الدولة نفسها هي التي تشرعن التميز بين الرجل والمرأة.
وفي جميع الأحوال فإن قوانين الأحوال الشخصية السارية حاليا لم تعد مقبولة، وقال محمد أبو حامد وكيل لجنة التضامن بمجلس النواب "مر 100 عام على القانون الحالي وأصبح لا يتناسب مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي نعيشها حاليا"، وهذا كلام صحيح، ولكن قيام شيوخ الأزهر بعملية إصلاح هذه القوانين لا يمكن أن يحمل أي تغيير باتجاه الأفضل، خصوصا أنهم أكثر تزمّتا حتى من رجالات الأزهر في بدايات القرن الماضي أيام مفتي مصر المجدد والإصلاحي محمد عبده، ففي وثيقة المبادئ التي وقّعها الأزهر عام 2011 قال شيخ الأزهر أحمد الطيب إنه يريد "دولة مدنية شريطة أن تكون المبادئ الكلّية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع"، والشطر الثاني من هذه الجملة يفرغ الشطر الأول من محتواه، فكيف تكون دولة مدنية وتستقي أحكامها من مصادر دينية؟
يجب أن يتوافق قانون الأحوال الشخصية المنشود أولا مع مبادئ حقوق الإنسان، وأن يعدل بين جميع المواطنين بغض النظر عن دينهم وجنسهم، وأن يؤكد على أن مرجعية الدولة هي فوق أي سلطة أخرى، ممّا يقوّي العلاقة بين المواطن والدولة التي تقف على مسافة واحدة من مختلف أبنائها، وحسب التجارب البشرية لا يمكن الوصول إلى مثل هذا القانون عن طريق رجال الدين.