عادل كريمي:
المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والإستخبارات ـ المانيا وهولندا
المقدمة:
شهد الواقع السياسي العربي المعاصر بروز جمعيات إسلامية وحركات تجمع بين ما هو سياسي وما هو ديني. تحمل في مؤلفاتها وأدبياتها وبياناتها الشعبية التأسيسية شعارات التغيير والتنوير والإنقاذ والإصلاح، غايتها الأولى المعلنة تحرير المجتمعات العربية الإسلامية من مظاهر البدع الضالة، وتطهيرها من “الكفار” و “دعاة التكفير” و”داعمي الإلحاد والزندقة”. فالمجتمعات العربية الإسلامية – من وجهة نظر هذه الجماعات والحركات- تعيش جاهلية ثانية، أو على حدّ عبارة الشيخ المصري محمد قطب (جاهلية القرن العشرين)(1)، وهي تقريبا أشدّ خطورة وأكثرها تمظهرا من الجاهلية الأولى، لأنّ الثانية ساهمت فيها عناصر خارجة يرجعها كثيرون إلى المستعمر الغربي الذي أصبحت كل منتوجاته وبرامجه تسيطر على عقول العرب منذ الثورة الصناعية إلى اليوم، أما الأولى فهي طبيعية وحتمية، كان فيها العرب يجهلون كل شيء ويعيشون في ترحال دائم وفي صراع القوى المفارقة، شأنهم في ذلك شأن الأمم المجاورة الأخرى.
لقد تعددت الحركات الإسلامية وكثرت الجمعيات والتيارات الداعية إلى الإصلاح والتغيير، والملاحظ أنّ دور هذه الجمعيات وغيرها لم ينته عند البعد الحركي/الديني فقط، بل اختلط بما هو سياسي وأصبح قادتها وزعماؤها يطمحون إلى الحكم والسلطة ويريدون إدارة شؤون البلاد، بعد أن تحولت أنشطتها وبرامجها إلى مجال السياسة وأظهرت قدرتها الشاملة على تقديم برامج إصلاحية طويلة المدى وحاولت إقناع المجتمعات التي تنشط هذه الحركات داخلها برغبتها المطلقة في الإصلاح الشامل وتحقيق التقدم والنماء، كما هو الشأن مع حزبي العدالة والتنمية في المغرب وتركيا، وجماعة الإخوان في مصر(2)، وحركة النهضة في تونس.
وبالإضافة إلى هذه الحركات الإسلامية التي تتظاهر بالاعتدال والوسطية(3)، برزت حركات أخرى متطرفة رفعت في العلن سلاح التكفير ولم تحترم سيادات الدول التي تنتمي إليها. من هذه الحركات نذكر: “تنظيم القاعدة” بأفغانستان الذي تزعمه أسامة بن لادن، وخَلَفَه أيمن الظواهري من بعده، وجماعة السلفية الجهادية”، و”جماعة التكفير والهجرة”، و”تنظيم أنصار الشريعة” في تونس، و”تنظيم داعش” الذي يختزل اسما كاملا هو “دولة الإسلام في بلاد العراق والشام”(4)
ولعل ما يميّز هذه الحركات المتطرفة هو اعتمادها التكفير سلاحا في زمن التفكير مثلما يتراء لنا في عنوان كتاب “التكفير في زمن التفكير” للمفكر المصري نصر حامد أبو زيد.(5) وتحويلها حضارات شعوب إلى حطام، ومساهمتها في انهيار أنظمة سياسية وإدخال مجتمعات في حروب أهلية دائمة. كان كل ذلك بسبب التكفير والتعصّب والفهم الخاطئ للعقيدة الإسلامية.
فما المقصود بالتكفير؟ وما هي أبرز أنواعه؟ وما هي مختلف سياقاته التاريخية؟ وكيف وظفت أبرز الحركات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة، سلاح التكفير في العصر الحديث، ورفعته في وجه الشعب والحاكم المتجسّد في جهازي الأمن والدفاع الوطنيين على حدّ سواء؟
في حدّ التكفير:
يشتق مصدر “التّكفير” من الفعل (كَفَرَ) و(كَفَّرَ). ومن أهمّ معانيه اتّهام الآخرين بالزندقة والإلحاد ونكران وجود الله، خاصّة إذا كان الآخرون قد أشركوا بالله، وخرجوا عن الطاعة، وارتدّوا عن الإسلام ولم يؤمنوا سرّا أو جهرا بأصول هذا الدين الإسلامي، ولم يتمثلوا ما أوجب الله عليهم أركان الإسلام الخمسة، وأن يجعلوا لله ولدا أو شريكا في الألوهية. وفي الأغلب الأعم ارتبط مفهوم الكفر بالغرب (أي دار الحرب) واقترن مفهوم الإيمان بالعرب المسلمين (أي دار السلم والإسلام). ورد في لسان العرب لابن منظور في مادة (كفر) أنّ “الكفرَ: نقيضُ الإيمان. آمنّا بالله وكفرْنا بالطاغوت، كفر بالله يَكْفَرُ كُفْرًا وكَفُورًا وكُفْرَانًا. ويقال لأهل دار الحرب: قد كفروا أي عَصُوا وامتنعوا. والكُفْرُ: كُفْرُ النّعمة وهو نقيض الشكر. والكُفْرُ: جحود النعمة، وهو ضدّ الشكر. وقوله تعالى: “إنَّا بِكُلّ كافرون. أي: جاحدون. وكفر نعمة الله يكفرها كفورا وكفرانا وكفرا بها: جحدها وسترها. وكافره حقه: جحده. ورجل مكفر: مجحود النعمة مع إحسانه. ورجل كافر: جاحد لأنعم الله، مشتق من السّتر. وقيل لأنه مغطى على قلبه: قال ابن دريد: كأنه فاعل في معنى مفعول والجمع كفار وكفرة وكفار مثل جائع وجيّاع ونائم ونيام. ويعني التفكير الذل والخضوع. وأكْفَرْتُ الرَّجُلَ: دعوته كافرا. يقال: لا تكفرّ أحدا من أهل قبيلتك. أي لا تنسبهم إلى الكفر. أي: لا تدعهم كٌفَّارًا، ولا تجعلهم كُفَّارًا بقولك وزعمك. وكُفِّرَ الرَّجلُ أي نسبه إلى الكفر(6.”(
ولعل المستصفى من تعريف التكفير هو أن يتهم شخص، شخصا آخر الكفر والإلحاد إما ظلما وجورا وظنّا، وإمَّا حقيقة وتبيّنا وتوقُّفًا، وقد اتخذته بعض الجمعيات والفرق الإسلامية والدينية والسياسية قديمها وحديثها سلاحا مضادا لمواجهة السلطة والحكّام، والمتعاونين مع سلطات البغي والفساد والإلحاد والجور، كما أنها اتخذته سلاحا حادا ضد المجتمع والأفراد والنحل، وكذلك ضد المجتمعات المختلفة عنها في الثقافة واللغة والعادات والتقاليد.
فما هي الأسباب الرئيسية التي تجعل هذه الجماعات الإسلامية ترفع سلاح التكفير ضد الدولة والمجتمع؟ وما هي أهمّ السياقات التي عرفت “ظاهرة التكفير” عبر التاريخ؟
أسباب التكفير:
قد تتعدد الأسباب الداعية إلى التكفير، تدفع بشخص أو مجموعة أشخاص لهم توجه فكري أو ديني معين (مشترك)، إلى تكفير مجموعة أخرى، هذه الأسباب يمكن أن نجملها في ما يلي:
الاختلافات السياسية والدينية بين الفرق والجماعات الإسلامية وهو ما يفضي إلى تناقض مصالحها، واضمحلال أفكارها الإيديولوجية.
فهم الأمور الواقعية والسياسية والدينية فهما ساذجا سطحيا دون أن يتم التعمق في حيثياتها الحقيقية.
سوء فهم للدين الإسلامي، والجهل بمقاصده البعيدة والقريبة والتوقف عند ظاهر النص دون استنطاق دلالاته العميقة.
عدم القبول بفكرة التعايش مع الآخر المختلف عنهم في اللغة والدين والعادات والتقاليد.
الإسراف في التحريم، مما أدى إلى التباس المفاهيم والتداخل في ما بينها.
الاشتغال بالقضايا الجانبية بدلا من الاهتمام بالقضايا الكبرى كالبطالة والفقر والجهل والتخلّف… إلخ.
التسرّع في الأحكام الدينية والفقهية، دون التثبّت منها ومدى مشروعيتها، وذلك عائد بالأساس إلى جهل بالدين والنزوع وراء الرّغبة في الابتداع واتباع الهوى، والتظاهر بفهم مقاصد الشريعة وفهم معنى الجهاد في سبيل الله .(7)
هكذا إذن، تفاعلت هذه الأسباب المختلفة في تنمية “الوعي التكفيري” داخل عقلية هذه الجماعات الدينية التي سعت إلى احتلال العالم وتقسيمه وفق شهواتها، وأهوائها الإيديولوجية، وصاغوا التصورات بكون هذا العالم مقسما إلى دارين: دار الكفر والإلحاد ويمثلها الغرب، ودار الإيمان والإسلام، ويمثلها العرب.
ولعل الملاحظ أنّ هذه الجماعات وجدت الدّعم الخارجي. من مال وسلاح …إلخ والدعم الداخلي تمثل خاصة في الحاضنة الشعبية التي وجدتها في عديد الدول مثل: أفغانستان والعراق والصومال وليبيا… فكل هذه العوامل ساهمت في نموّ ظاهرة التكفير وتزايدها في الفكر الحديث لكنّ ما يلفت الانتباه أنّ ظاهرة التكفير قديمة جدا في الحضارة العربية الإسلامية. تعود بدايتها إلى عهد الرّسول محمد، حيث كانت لها سياقات عديدة تجلت فيها. فما هي أبرز هذه السياقات؟ وما هي أهمّ مظاهرها؟
أبرز سباقات التكفير:
التكفير ظاهرة قديمة جدا في التاريخ العربي الإسلامي. بدأت مظاهرها بتكفير المنافقين والمشركين في عهد الرسول (8)، وبتكفير المرتدين ومانعي الزكاة في عهد أبي بكر الصديق. ثم تنامت هذه الظاهرة مع ظهور عديد الفرق الكلامية، كفرقة الخوارج التي كانت تكفرّ الناس بعد رفضها لمبدإ التحكيم حين الانتهاء من موقعة صفّين، فَخَرَجَ هؤلاء عن علي بن أبي طالب. وأسسوا فرقة أطلقوا عليها اسم “الحرورية”، ونصبوا عبد الله بن وهب الرّاسي أميرا عليهم. لكنّهم انقسموا إلى عشرين فرقة. وكان تكفيرهم ذا طابع سياسي أكثر مما كان طابعا دينيا، لأنه يتعلق بقضية الإمامة أو الخلافة. وقد كفّر هؤلاء عثمان بن عفان وطلحة والزّبير، وعمر بن العاص، وأبا موسى الأشعري ومعاوية بن أبي سفيان. يقول محمد علي أبو رّيان: ” وكلّ من رضي بالتحكيم وصوّب الحكمين أو احدهما، وأوجب الخوارج الخروج على السلطان الجائر وقتاله، وعلى هذا فإنّ آراءهم هذه، إنّما تجْعَلُ منهم فرقة سياسية ولكنّهم أضافوا إليها نظرات حول حقيقة الإيمان وشروطه فقالوا: إنّ الأعمال جزء مكمّل للإيمان. فمن يرتكب ذنبا(أي كبيرة من الكبائر) يعتبر مرتدا وكافرا، بل لقد أوجبت الأزارقة قتله مع أولاده ونسائه(9”(
وقد ناقشت فرق كلامية عديدة مسألة تكفير مرتكبي الكبائر هل يخلّد في النار أم لا؟
في هذه المسألة اختلفت آراء الخوارج والشيعة والمرجئة بين متشددة كالخوارج، ومتساهلة كالمرجئة. وقد ناقشت الأشاعرة والمعتزلة هذه الآراء حينما تناولت قضية مرتكب الكبيرة ومواقف الشرع منه. يقول محمد علي أبو ريان في هذه المسألة: ” وعلى هذا فإننا نرى كيف أنّ نشأة هذه الفرق الأولى في الإسلام إنّما كانت بسبب سياسي أولا. ولم تلبث هذه الفرق أن كفّرت بعضها بعضا نتيجة لتفسير كل منها لمدلول الإيمان، وعما إذا كان أمرا قلبيا محضا أم مرتبطا بالعمل. فكفّرت الخوارج مرتكب الكبيرة بل أباح بعضهم دمه. وأرجأت المرجئة الحكم عليه إلى يوم القيامة. أما المعتزلة، وإن كانت معظم مباحثهم تدور حول مسائل الأصول، إلا أنهم اتخذوا موقفا معينا بصدد مشكلة مرتكب الكبيرة، فقالوا: إنّه في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان.”(10)
ولعل ما يمكن استصفاؤه من هذا القول، أنّ نشأة الفرق الكلامية في التراث الفكري الإسلامي، كان منطلقها التكفير السياسي الذي ارتدى قناع التكفير الديني وباتت له نتائج سلبية تطورت بتطور المجتمعات وبنمو أفكارها وتبدل عاداتها وتقاليدها.
وفي هذا السياق لابد من التذكير بحديث نبوي يشير إلى ما يمكن أن تكشفه الخلافات بين الفرق الكلامية والملل والنحل من مشاكل شاملة في المجالين السياسي والديني تساهم في إضعاف المنظومة الفكرية العربية الإسلامية وبروز “التكفير” كأسلوب معاملات بين الأفراد والجماعات التي لها توجهات فكرية وإيديولوجية وعقائدية مختلفة، ويرى كل طرف أنه على صواب والآخر على خطأ وكفر وضلال. يقول النبي في هذا السياق: ” افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار، إلا واحدة. قيل من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثلِ ما أنا عليه وأصحابي.”(11) لكن هناك من يشك في صحة هذا الحديث، لأنّ المسحيين واليهود يذكرونه في مقولاتهم بهذا التحديد تقريبا، مثلما يذكر ذلك، محمد علي أبو ريان في كتابه “تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام”.(12)
هذا ولم يقتصر التفكير على الفرق الكلامية والديانات المختلفة فحسب، وإنّما امتد مجاله ليشمل سياقات عديدة وعلوم أخرى كثيرة. نذكر على سبيل المثال: تكفير أبي حامد الغزالي للفلاسفة المسلمين ووصفه لهم بكونهم أهل بدعة، في مسائل عديدة كـ:
أ/ قولهم بأزلية العالم.
ب/ إنكارهم لحشر الأجساد.
ج/إنكارهم لمعرفة الله بالجزئيات(13)
لكنّ الغزالي وجد معارضة كبيرة من بن رشد الذي دافع على الفلاسفة وبرأهم من تهمة التكفير(14)
وكذلك تكفير الأدباء والمفكرين الذين اتهموا بالزندقة (زنادقة من الفرس) لانتمائهم إلى طائفة المانويين في العصر العباسي الثاني مثل أبي العتاهية وأبي نواس ومسلم بن الوليد وبن المقفع وبشار بن برد وبن الرّاوندي و أبي عيسى الوراق.
إن في العصر العباسي الثاني (باعتباره عصر مجون وفساد وانحراف أخلاقي…إلخ) تردّد مصطلح الإلحاد والزندقة أكثر من مصطلح التكفير. فما هي مظاهر ذلك؟
لقد تداول مصطلح الإلحاد في العصر العباسي أكثر من مصطلح التكفير. ولامس الأدباء والشعراء والفلاسفة والمتصوفة والمثقفين أكثر مما كان يمسّ عامة الناس. ثم تواصل الاتهام بالإلحاد والزندقة في الأندلس حيث اتهم ابن رشد بالإلحاد، لأنّه كان يشتغل بالمنطق والفلسفة والطب…إلخ، لهذا السبب شنّ عليه الفقهاء حملات تشويه وأحرقوا كتبه ومؤلفاته بتهمة الزندقة والكفر، لكن في المقابل كان الغرب يطلع على الفلسفة الرشدية ويأخذ منها ويعتبرها مرجعا لأنّها تمثّل دعامة أساسية لبناء نهضة حضارية داخل أي مجتمع متحضر.
والملاحظ أنّ الاتهام بالكفر والإلحاد والزندقة لم تنته مظاهره في العصر العباسي
أو العصر الأندلسي، وإنّما امتدت لتصل العصر الحديث وتتسع رقعته ليشمل الإعلاميين والمثقفين والأدباء ورجال الدين الوسطيين الذين يؤمنون بثقافة الآخر ويؤمنون –أيضا- بالاختلاف كما هو الحال مع طه حسين وأدونيس ونجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وحسن الترابي وأحمد البغدادي والرّوائي حيدر حيدر..إلخ.
أهم أنواع التكفير:
توجد أنواع كثيرة للتكفير ظلت تنتقل من جيل إلى جيل ومن عصر إلى آخر. وكانت في كل انتقال تكتسب حدة أكثر وتكتسي خطورة أكبر.
1/ التكفير الديني:
للتكفير الديني مظاهر عديدة بيّنها الفقهاء ومصنّفوا كتب التوحيد والعقيدة وأصول الدين، وعلماء الشريعة الإسلامية، وأجملوها في أمر واحد هو “الكفر بأصول الإيمان” وهي الكفر بالله / الكفر بالملائكة / الكفر بالكتب السماوية / الكفر برسل الله / الكفر باليوم الآخر / الكفر بنعم الله / وكذلك “الكفر بأركان الإسلام” مثل الكفر بالصلاة والكفر بالزكاة والكفر بالصيام والكفر بالحج.
لقد حارب أبو بكر الصّديق مانعي الزكاة، واعتبرهم مرتدين عن الإسلام ولو كانوا موحدين، مستشهدا بقوله: “خذ من أموالهم صدقة”(15) وفي هذا السياق ذاته قال عمر بن الخطاب “ألا لا تضربوا المسلمين فتذلّوهم ولا تمنعوهم حقهم فتكفرّوهم لأنّهم ربما ارتدوا إذا منعوا عن الحقّ(16)”.
وهناك مِنَ العلماء مَنْ يصنّف الكفر إلى أربعة أنواع: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق. يقول ابن منظور في هذا السياق: “قال بعض أهل العلم : الكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار بأنّ لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به ، وكفر جحود ، وكفر معاندة ، وكفر نفاق ؛ من لقي ربه بشيء من ذلك لم يغفر له ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. فأما كفر الإنكار فهو أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد ، وكذلك روي في قوله تعالى : إنّ الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون أي الذين كفروا بتوحيد الله ، وأما كفر الجحود فأن يعترف بقلبه ولا يقر بلسانه فهو كافر جاحد ككفر إبليس وكفر أمية بن أبي الصّلت ، ومنه قوله تعالى : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به يعني كفر الجحود ، وأما كفر المعاندة فهو أن يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به حسدا وبغيا ككفر أبي جهل وأضرابه ، وفي التهذيب : يعترف بقلبه ويقر بلسانه ويأبى أن يقبل كأبي طالب حيث يقول :
ولقد عَلِمْتَ بأنّ دِينَ مُحـمّد مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِّيَةِ دِينًا
لولا الملامةُ أو حَذَار مَسَبَّةٍ لَوْ جَدَّتْنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
وأما كفر النفاق فأن يقر بلسانه ويكفر بقلبه ولا يعتقد بقلبه”.(17)
أما سعيد بن جبير فقد صنفه إلى أنحاء مثل: الكفر بالله والكفر بكتاب الله ورسوله، وكفر النفاق، والكفر بوحدانية الله. يقول ابن منظور مشيرا إلى رأي سعيد بن جبير في الكفر: “كتب عبد الملك إلى سعيد بن جبير يسأله عن الكفر، فقال: الكفر على وجوه: فكفر هو شرك يتخذ مع الله إلها آخر، وكفر بكتاب الله ورسوله، وكفر بادعاء ولد لله، وكفر مدعي الإسلام، وهو أن يعمل أعمالا بغير ما أنزل الله ويسعى في الأرض فسادا ويقتل نفسا محرّمة بغير حق، ثم نحو ذلك من الأعمال كفران: أحدهما كفّرَ نعمة الله، والآخر التكذيب بالله.”(18)
ولعل المستصفى من هذه الآراء أن التكفير الديني يرتبط ارتباطا وثيقا بقضايا الدين والإيمان والعقيدة وأصول الدين.
2- التكفير السياسي:
يتعلق هذا النوع من التكفير بالحقل السياسي، كأن يتم تكفير الحاكم، أو تكفير السلطة الحاكمة، أو تكفير الديمقراطية أو تكفير زعماء الأحزاب السياسية واستباحة دمائهم في الشوارع والدعوة إلى قتلهم لأنهم أعداء الإسلام،(19) أو تكفير الفرنجة وأنظمتهم السياسية أو القوانين الغربية، وقد يكون هذا التكفير راجعا بالأساس إلى اختلاف الفرق والحركات والجمعيات والتيارات السياسية على مستوى المرجعيات والمنطلقات الإيديولوجية والأهواء والمصالح.
3- التكفير الفكري:
يتعلق هذا النوع. بما هو فكري وثقافي، حيث ظهرت حملات تكفيرية طالت العلماء والمثقفين والمبدعين والشعراء بسبب قصيدة أو كتاب أو أغنية أو رأي أو قولة أو دور فني في عمل درامي… ولم تقتصر هذه الظاهرة على العصر العباسي فحسب، وإنما امتدت نارها لتشمل العصر الحديث، وخاصة بعد ما سمّي بـ “ثورات الربيع العربي”.
ومهما يكن من أمر، فإنّ كثيرا من الحركات الإسلامية السياسية وغير السياسية، رفعت شعار التكفير وتبنته في كثير من المناسبات وهو ما كشف غلوّها في التّشدّد والتّطرف اللذين قاداها إلى ممارسة العنف ضد السلطة والمجتمع.
فما هي أبرز هذه الحركات؟ وما هي أهم نشاطاتها؟
أبرز الحركات الإسلامية وأنشطتها:
1-الجماعة الإسلامية:
الجماعة الإسلامية حركة دينية أسسها أبو الأعْلَى المودودي سنة 1939 م. بالهند في مرحلة أولى، ثم بالباكستان سنة 1941. تأثرت هذه الحركة بجماعة الإخوان المسلمين في مصر. ويعدّ زعيمها أبو الأعلى المودودي رأس التكفيريين، كان قد شكك في كثير من الأحاديث النبوية التي أجمع العلماء على أنّها صحيحة ولا جدال فيها.
ومن الأفكار التي يدعو إليها المودودي هي تكفير المجتمع والحاكم على حد سواء. يقول محمد عمارة في هذا السياق: “من بين الدعاة الإسلاميين المحدثين انفرد أبو الأعلى المودودي ببعث قضية تكفير المسلم التي ظهرت في الإسلام لأول مرة مع الخوارج. (20)
فالمستصفى من كلام محمد عمارة أن المودودي هو أوّل من بعث فكرة التكفير في العصر الحديث، وهو أوّل من دعا إليها بعد فرقة الخوارج، باعتبارها جماعة في شكل طائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الخاصة: ولعلّ الذين يتتبعون مسار الدعوات والحركات الإسلامية الحديثة والمعاصرة يلفت انتباههم أنّ أبا الأعلى المودودي زعيم التكفيريين بالهند والباكستان، قد انفرد من بين زعماء بقية التنظيمات الإسلامية ببعث الخوارج الذين أقروا بتكفير مرتكب الذنوب (أي الكبائر) إذا مات دون توبة نصوح، ويخرج عن إطار الملّة وهذا في حد ذاته يمثّل انحيازا حتى وإن كان غير معلن صراحة لفكر الخوارج، وإعجابه بأفكار ومبادئ بن تيمية وغيره من التكفيريين الذين عرفتهم الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل. (21)
لقد نظر المودودي إلى الإسلام تحت هيمنة الحضارة الغربية التي يصفها بالجاهلية لأنها أبدلت قوانين تشريعية منزّلة من عند الله في القرآن، بقوانين أخرى فلسفية، من وضع البشر تتعارض كليا مع المبادئ والأصول التي جاء من أجلها الإسلام، فدين محمد قد غُلِبَ على أمره، وحدود الله قد انتهكت واعتدي عليها وكادت تنعدم من الوجود بسبب غلبة الكفر، وإهمال شريعة الله. وأن أرض الله قد علت فيها كلمات أعداء الله لأنّ. “الكفر هنا هو الحضارة الغربية المادية الإلحادية، التي غلبت وغلب أهلها – أعداء الله – على الإسلام وشريعته وأمته وحضارته إنه حكم ذو طابع حضاري وسياسي وقومي ووطني” (22)
إنّ المودودي يواجه الغرب المستعمر مواجهة عنيفة ويعتبره هو المتسبب المباشر في تعويض شرع الله بالتشريعات الوضعية. ومن ثمة انتقل المودودي إلى تكفير المجتمعات الإنسانية المعاصرة ووصفها بالجاهلة والكافرة. وهو ما جعل مشروعه الفكري قائما بالأساس على مقولتين رئيسيتين هما: الجاهلية والتكفير.
2-جماعة الإخوان المسلمين:
ظهرت هذه الجماعة في مصر مع مرشدهم حسن البنا سنة 1928 (23)، وقد كانت رؤية هذه الجماعة قائمة في الظاهر على التصحيح والتغيير والتوجيه والتنوير وبناء ذات مسلمة، والمشاركة في بناء المجتمع المدني والدخول في غمار السياسة كما هو شأن الحركة في السنوات الأخيرة بعد ثورات الربيع العربي سنة 2011، حينما وصلت إلى الحكم وصار محمد مرسي رئيسا لجمهورية مصر العربية، لكنّ العسكر نزعه من السلطة بعد وجود تسريبات تؤكد تورطّ حركة الإخوان في خيانة الوطن، أدى ذلك إلى الحكم بالإعدام على عديد من قادة هذه الحركة.
هذا وقد عرفت هذه الحركة الإخوانية مبدأ التكفير مع السيد قطب الذي كان متأثرا كثيرا بأفكار أبي الأعلى المودودي، وقد قال سيد قطب بمقولتي “الجاهلية والتكفير”، مما أدى بجمال عبد الناصر إلى إعدامه سنة 1966، لأنّ مقولات التكفير انتشرت بين فئات المجتمع المصري، ورفعت الشعارات التكفيرية ضد الخصوم السياسيين وزعماء التنظيمات السياسية التي تختلف إيديولوجيا مع أفكار هذه الجماعة.
3-حركة النهضة:
ظهرت هذه الحركة في تونس (كانت تسمى سابقا حركة الاتجاه الإسلامي)، سنة 1972، وأعلنت رسميا عن نفسها سنة 1981. كانت أنشطتها في البدايات دعوية، قائمة على التصحيح والتغيير والتوجيه والتنوير وبناء ذات مسلمة.
لكنها في مارس 2011 تم الاعتراف بها كحزب سياسي من قبل حكومة محمد الغنوشي الثانية بعد مغادرة زين العابدين بن علي البلاد. تعد هذه الحركة في الوقت الحاضر من بين أهم الأحزاب السياسية في تونس، قادتها الأنشطة الحركية التي يخوضها قادتها ومنخرطيها داخل البلاد وخارجها إلى الفوز في انتخابات 23 أكتوبر 2011، مارست الحكم عبر تحالف الترويكا مع حزبين آخرين هما “المؤتمر من أجل الجمهورية” و”التكتّل من أجل العمل والحريات”.
ولعل المتتبع للشأن السياسي التونسي زمن حكم حركة النهضة الإخوانية. يمكن له الاعتراف بحملات التكفير التي شهدتها أغلب المساجد التونسية، وكان يعلنها أئمة موالين للحركة (في صفاقس / في مدنين / في تونس / في المنستير/ في سوسة). وقد طالت هذه الحملات في مرحلة أولى عناصر الأمن الوطني والجيش، ثم شملت معارضين سياسيين من اليسار المعارض. انتهت باغتيال شكري بلعيد في 6 فيفري 2013 ومحمد البراهمي في 25 جويلية 2013.
4-أيمن الظواهري ومبدأ التكفير:
لقد تبلور مبدأ التكفير مع أيمن الظواهري الذي يعدّ من أهم قيادي تنظيم القاعدة بأفغانستان، وتنظيم القاعدة منظمة إسلامية أصولية متعدّدة الجنسيات تم إنشائها من بقايا المتطرفين والمجرمين الإخوان المسلمين إضافة إلى مرتزقة الجماعات الإسلامية الجهادية التي كانت تقبع في سجون الجزائر ومصر وبعض دول الخليج.
ولعل قصة نشأة هذا التنظيم بدأت عندما اندفع المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية (لأسباب خاصة بمصالحهم) إلى مساعدة الأفغان لطرد السوفييت من أراضيهم.
وبأوامر مباشرة من أمريكا أطلق الشيوخ العرب فتاويهم داعين للجهاد في أفغانستان فأخذت أعداد هائلة من الإرهابيين تتدفق على هذا البلد، وكان أبرزهم العضو في جماعة الإخوان المسلمين عبد الله العزام، الذي أسس سنة 1984 مكتبا للخدمات في بيشاور على الحدود الأفغانية وأخذ يُنظّم دخول المجاهدين العرب إلى أفغانستان. ويشرف عليهم فيها، وأصبح مكتبه مقرا لقيادة كتيبة دولية من المقاتلين، واتّخذ أسامة بن لادن مساعدا أوّل له.
ولعل من بين العرب الوافدين على مكتب عبد الله العزام، أيمن الظواهري الذي يعتبره أنصاره أشرس المقاتلين. قدم من مصر بعد أن كان قائدا لما يسمى بجماعة “الجهاد الإسلامي” التي كانت تعتبر نفسها هي فقط من يمثّل الإسلام على الأرض.
لقد كفر أيمن الظواهري بالديمقراطية، واعتبر الحاكمين بها كفّارا. لأنّ الديمقراطية حكم الشعب، في حين تتميّز الشريعة بربّانية مصدرها وقد عبّر الظواهري عن أفكاره التكفيرية في كتابه (الحصاد المرّ، الإخوان المسلمون في ستين عاما) ويسرد مجموعة من الأدلة بحصرها فيما يلي: ” توافرت أدلة الكتاب والسنة وأقوال العلماء من السابقين والمعاصرين على أنّ تبديل الشريعة الإسلامية بغيرها كفرٌ وبالذات بهذه الصورة الشنيعة التي نراها في بلاد المسلمين الآن، وأنّ هذه الأنظمة المستبدلة لشرع الله خارجة عن الملة الإسلامية للأسباب الآتية: عدم الحكم بشريعة الله واستبدالها بقوانين مختلطة ملفقّة سمّاها الشيخ أحمد شاكر رحمه الله بـ “الياسق العصري” ، الاستهزاء بالشريعة، الحكم بالديمقراطية التي وصفها المودودي بحاكمية الجماهير وتأليه الإنسان، استحلال المحرمات وتحريم الحلال.”(24)
فالمستصفى من أقوال الظواهري، هو تكفيره كلّ من لم يحكم بشريعة الله، أو يسخر منها حينما يحكم بغير شريعة التوحيد. كما أنّه يكفّر الديمقراطية بكل مظاهرها وتجلياتها سواء أكانت إيجابية أم سلبية، ويكفّر أيضا المجالس النيابية والقوانين المعاصرة التي تحرم الحلال وتحلل الحرام.
ويرى الظواهري أنه إذا لم يَحْكِم الحاكم بحكم الله لا تجوز طاعته، ولابد من مجاهدته والخروج عليه. ويستشهد بشرح الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث النبي محمد (ص) “إلاّ أن تروا كفورا بواحا عندكم من الله فيه برهان”. ويقرّ بإجماع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، ولم يستثن من ذلك إلا إذا وقع من السلطان كفرا صريحا. (25)
إنّ أيمن الظواهري يعد المنظّر الإيديولوجي الأخطر لتيار الأفغان العرب، ومؤسّس تنظيم طلائع الفتح، وريث أبي الأعلى المودودي وسيد قطب حيث يؤسس تصوّراته النظرية على تكفير الديمقراطية والغلوّ والتطرف والتشدّد والعنف.
5-جماعة التكفير والهجرة:
تعتبر هذه الجماعة من أهم الحركات السياسية الإسلامية التي رفعت سلاح التكفير لمحاسبة خصومها. تأسست في سجون مصر سنة 1965 بقيادة الشيخ علي إسماعيل ماهر، وعبد العزيز زناتي، وشكري أحمد مصطفى، بعد مجموعة من الاعتقالات التي أدت إلى إعدام سيد قطب. وقد تبلورت هذه الجماعة في صفوف طلبة الجامعات سيّما جامعة أسيوط. وقد كثر أتباعها في الوطن العربي مثل: الجزائر، اليمن، الأردن، المغرب…
وقد كفّرت هذه الجماعة مرتكبي الكبائر الذين لم يتوبوا منها. كما كفّرت الحكام والمحكومين والعلماء الذين يتمادون في الضلالة. واختارت الهجرة مسلكا للهروب من عالم الجاهلية والفساد.
تعتمد هذه الجماعة في المستوى المنهجي والتكتيكي على ثلاث خطوات أساسية هي الدعوة إلى أفكارهم السياسية، والاستضعاف باعتباره نوعا من التقنية أو الهجرة إلى الجبال والصحاري والمغاور والأماكن الخالية، مع الحفاظ على بعض التابعين المتواجدين في الساحات الدينية كالجوامع. لكنّ الأخطر عند هذه الجماعة هو إسقاطها “صلاة الجمعة” والدعوة إلى الأمية لأنّ النبي محمد كان أميّا، وبالتالي من الصعب التوفيق بين أمور الدنيا وأمور الآخرة.
6-السلفية الجهادية:
ظهرت السلفية الجهادية في السعودية، وقد رفضت التواجد الأمريكي في أرض الحرمين أثناء حرب الخليج الأولى، واعتبرت قوات العدو كافرة، أسس هذه الحركة أسامة بن لادن.
وقد تشكلت جماعة أخرى (سلفية جهادية) في مصر تحت قيادة أحمد عشوش، تسمى بالطليعة السلفية الجهادية (أنصار الشريعة) التي أعلنت في بيانها التأسيسي أنّها تهدف إلى تصحيح الوضع الإسلامي بالدعوة إلى التوحيد وعدم الشرك بالله والحكم بما أنزل الله، ومحاربة البدع وأهلها، ومحاربة المشركين السياسيين (على حد تعبير أنصار هذه الجماعة) من ليبراليين وقوميين وشيوعيين، وأسلمة المنظومة التربوية وإشاعة الشرع السلفي وفك أسارى المسلمين، وكلّ هذه المبادئ نصّ عليها بيانها الصادر سنة 2012، الذي كان سلاح التكفير حاضرا حضورا لافتا فيه. (26)
الخاتمة:
يبدو من خلال الحركات الإسلامية والجماعات الإرهابية التي ذكرنا أهمها، أنّ ظاهرة التكفير تحضر حضورا مبالغا فيه في المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة، تنمّ عن غلوّ وتطرّف وجحود فكري. لأنّه من غير المعقول أن يُتَّهَمَ مسلم بالتكفير وهو يؤمن بالله ولا يشرك به أحدا. ويقيم فرض الإسلام، لذلك لابدّ من الاحتراز والتريث والترّوي في إصدار الأحكام الخطيرة كالتكفير.
لقد استخدمت الحركات الإسلامية والجمعيات الدينية المعاصرة مبدأ التكفير كسلاح في زمن التكفير والعقلانية، ووجهته إلى بعضها البعض، ممّا نتج عن ذلك غلوّ وتطرف وتشدّد. وقد تحوّل هذا الغلو في بعض الأحيان، إلى عنف معنوي وإرهاب دموي. ثمة أسباب عدية وراء استخدام هذا السلاح وعود إلى الجهل. والأمية والفهم السطحي للقرآن، وعدم فهم مقاصد الشريعة فهما صحيحا. والغلو في الدين إلى درجة التطرّف.
وقد اتخذ التكفير عند الحركات والجماعات الإسلامية طابعا سياسيا في جوهره، وإن كان يظهر في أحيان كثيرة على أنّه تكفير ديني، علاوة على ذلك، فإنّ الحركات الإسلامية أنواعُ وأصناف. فيها المتطرفة والمعتدلة. لكن المتطرفة منها هي التي رفعت سلاح التكفير، واستخدمته بكثرة وتطرف مبالغ فيه، دون تريث أو احتراس أو تروّ عميق.
وعلى هذا الأساس يجب على كافة الحركات الإسلامية المعاصرة وخاصة المتطرفة – الاعتراف بالاختلاف الفكري، والتنوع الإيديولوجي والانخراط في المجتمع الحداثي والتفاهم مع كل مكونات المجتمع، واستبدال الخلاف السياسي المؤدي إلى العنف والإرهاب وسفك الدماء، باختلاف بنّاء يهدف إلى تحقيق المصلحة الوطنية ومراعاة الخصوصية الفردية وحرية المعتقد، لما فيه من منافع للأفراد والجماعات والدّولة بشكل عام.
الإحالات والهوامش:
محمد قطب، جاهلية القرن العشرين، دار الشروق، بيروت، لبنان، ط 1، سنة 1980، يشير المفكر في كتابه إلى تقارب الأفكار والرؤى حول مصطلح “جاهلية”، إذ ثمة من يعتبرها نقيضا للعلم أي “الجهل” بكل الأشياء من معارف وديانات…إلخ. وثمة من يعتبرها تأخرا أي نقيضا للتقدم والرّقي الفكري والحضاري، وينتهي إلى تقديم تصوّره للجاهلية، ويعتبرها [حالة نفسية ترفض الاهتداء بهدى الله، ووضعا تنظيميا يرفض الحكم بما أنزل الله]، مستأنسا بقوله تعالى: “أَفَحُكْمُ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ”.
ياسر حلمي الشاعر: التاريخ الأسود للجماعة، بين يهودية حسن البنا وماسونية الإخوان، إصدارات، لندن، فبراير 2014، الجزء الثالث: نشأة جماعة الإخوان المسلمين، ص 116 وما بعدها.
المرجع، نفسه ص 142: الشعار في جماعة الإخوان، ص 159: الجماعة، ص 159.
الدكتور مازن شندب: داعش، ماهيته، نشأته، إرهابه، أهدافه، إستراتيجيته، الدار العربية للعلوم، ط (1) سنة 2014، الفصل التمهيدي، ص 1.
نصر حامد أبو زيد: التفكير في زمن التكفير، دار سينا للنشر، القاهرة، مصر، ط 1، سنة 1995.
ابن منظور: لسان العرب (مادة كفر)، دار صبح، بيروت، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، ص 114.
للتوسع: أنظر حمادي عبد الجليل البريدي، التخدير من الغلو في التكفير، دار ابن الجوزي، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، سنة 2006، ص ص 33-40.
لم يكن يعرف أهل الجزيرة (جزيرة العرب) في عهد الرسول هذا الإلحاد بمعناه اليوم (أي اللاّدين) إنّما كانوا، إمّا مشركين من عبدة الأوثان أو يهودا أو نصارى، ثم بقية من أهل الكتاب ممن بقي على التوحيد وهم قلة. أمّا إنكار وجود الإله الخالق المدبّر، فلم يكن معروفا في العرب إلاّ في قلة تكاد تُذْكَرُ من الدهريين.
محمد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، دار النهضة العربية بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1976، ص 125.
المرجع نفسه، ص 27.
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وقيل: صحيح على شرط مسلم.
محمد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، ص 115.
أنظر: أبو حامد الغزالي: تهافت الفلاسفة.
أنظر: ابن رشد، تهافت التهافت.
سورة التوبة، الآية 103.
هذا الشاهد ورد ذكره في لسان العرب، ص ص 114-115.
ابن منظور: لسان العرب، [مادة كفر]، ص 114.
المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
يمكن الإشارة هنا إلى حملات التشويه التي تعرّض إليها شكري بليعد ومحمد البراهمي سنة 2013، عندما تم تكفيرهما أكثر من مرة من طرف المنظمات والأحزاب الدينية من داخل البلاد وخارجها، انتهت هذه الحملات باغتيال بلعيد في 06 فيفيري 2013 والبراهمي في 25 جويلية 2013. ويمكن الإشارة كذلك إلى الاغتيالات التي طالت بعض عناصر الأمن والجيش الوطنيين من قبل الإرهابيين الذين كانت لهم علاقة مع هذه المنظمات والأحزاب الدينية.
محمد عمارة، رؤية إسلامية لقضايا ساخنة، تكفير المسلم، ضمن مقدمة كتاب العربي، الكويت، العدد 29، سنة 1977، ص 07.
هناك بعض المصادر تقرّ بالتعارض التام بين مواقف الخوارج ومواقف ابن تيمية والمودودي، لكن هذا يبقى محل جدال، مادام ثمة خيط رابط يجمعهم ومبدأ “واحد يتفقون حوله وهو “التكفير”
محمد عمارة، رؤية إسلامية لقضايا ساخنة، ص ص 7-8.
ياسر حلمي الشاعر، التاريخ الأسود للجماعة ص 125-126-127-128.
أيمن الظواهري، الحصاد المرّ، الإخوان المسلمون في ستين عاما، مطبوعات جماعة الجهاد، د.ت، ص 06.
للتوسع أنظر أيمن الظواهري، المرجع نفسه، ص ص 6-7.
يتوافق بيان تنظيم أنصار الشريعة في مصر، تقريبا مع بيان تنظيم الشريعة في تونس الذي يتزعمه أبو عياض وأدرجته حكومة علي العريض على لائحة التنظيمات الإرهابية، في أوت 2013.