عمران سلمان:
لا أعرف شخصيا كيف ومتى ومن أطلق الفكرة الغريبة بأن الحزب الديمقراطي الأميركي يدعم أو يفضل أو يتعاطف مع جماعة الإخوان المسلمين، لكن من الواضح أن هذه الفكرة شائعة اليوم في أوساط عربية كثيرة، ولدى بعضها هي من المسلمات، رغم افتقارها إلى أي دليل حقيقي يدعمها، ما يجعل مسألة فحصها أمرا ضروريا.
أصل الفكرة
أتصور أن الجذر الرئيسي لهذه الفكرة يعود إلى عام 2011 فيما بات يعرف بـ "ثورات الربيع العربي"، وإلى حقيقة أن إدارة أوباما اختارت التعاطي الواقعي والاعتراف بنتائج عملية التغيير التي جاءت بها تلك "الثورات"، بما في ذلك في مصر. مع أن هذه الإدارة ولا سيما وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون آنذاك، تمسكت بالرئيس المصري الأسبق حسني مبارك حتى آخر لحظة، ولم تقر بالوقائع على الأرض إلا قبل أيام قليلة فقط من سقوطه.
لكن قرار الإدارة اللاحق بالتعامل مع نظام الإخوان المسلمين والذي جاء به المصريون أنفسهم في انتخابات حرة ونزيهة، وكذلك وقوفها إيجابيا من "الثورات" العربية الأخرى، والتي تصدر واجهتها الإسلاميون بحكم الأمر الواقع، خلق الانطباع بأن إدارة أوباما تشجع الإخوان المسلمين أو تقف إلى جانبهم أو تفضلهم.
والحقيقة هي أن الولايات المتحدة وجدت نفسها في وضع صعب في تلك المرحلة. فمن جهة كانت السياسات الأميركية التقليدية هي الوقوف إلى جانب الحكومات القائمة، والنظر بعين الشك والريبة تجاه أي تغيير راديكالي وتفضيل التحولات السلمية، وفي الوقت نفسه كانت الأنظمة العربية تسقط واحدا بعد الآخر، فيما تموج الشوارع العربية بالتظاهرات المطالبة بالتغيير.
وكان الوقوف ضد حركة التغيير بمثابة انتحار سياسي، فيما المغامرة بإبداء دعم واضح لما يجري في الشارع كان يعني أيضا السير نحو المجهول.
اعتقد أن التقييم المنصف سيجد أن إدارة أوباما عموما فضلت الوقوف في منتصف الطريق، وإن مالت في بعض الأحيان لجهة الشارع.
رسائل كلينتون
لكن بعض الحكومات العربية فسرت التحرك الأميركي على أنه تخل عن الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة وخيانتهم. وفاقم من حساسيتها أن الخطاب الأميركي استمر في الدعوة التقليدية الى إقامة أنظمة حكم ديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، ما أدى إلى شيوع فكرة أن إدارة أوباما كانت لها يد مباشرة فيما يحصل في المنطقة.
وفيما بعد وجدت هذه الحكومات مصلحة في ترسيخ وترويج هذه القناعة، ولدعمها جرى تصيّد كل ما يصدر في واشنطن من تقارير أو مذكرات رسمية أو خاصة.
وفي هذا الصدد اكتسبت الرسائل التي أفرجت عنها إدارة الرئيس دونالد ترامب، من البريد الإلكتروني لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أهمية خاصة. فقد استخدمت هذه الرسائل بمثابة حجة ودليل على التواطؤ الأميركي المزعوم مع الإخوان المسلمين والعمل على تمكينهم.
وقد كان لدي ما يكفي من الفضول للبحث في هذه المسألة، بحيث قضيت وقتا لا بأس به في مطالعة أهم هذه الرسائل وما كتب عنها في الصحافة العربية. والخلاصة التي توصلت لها هي التالي:
لا يوجد في هذه الرسائل أو الإيميلات ما يشير من قريب او بعيد إلى أي تورط أو نشاط أميركي بدعم الإخوان المسلمين أو أي جماعة إسلامية أخرى.
مضمون هذه الرسائل هو عبارة إما عن تقييمات أميركية للوضع الذي كان سائدا في مصر وقتها، أو أخبار وتسريبات من مصادر خاصة داخل جماعة الإخوان المسلمين أو مؤسسة الجيش بشأن الوضع السياسي، أو مقتطفات من الصحف تتحدث عن نشاط هاتين المؤسستين. وفي أحيان قليلة جدا كانت هناك عروض أميركية بالمساعدة في إرساء الديمقراطية ونظام حكم القانون.
هذه الرسائل هي جزء طبيعي من عمل أي سفارة أجنبية في أي بلد في العالم. وليس فيها ما يشي إلى مخططات أو اتفاقات أو أي شيء من ذلك.
العديد من وسائل الإعلام العربية لم تخرج من هذه الرسائل بأي نص أو مقتطف يفيد بالادعاءات المذكورة، واكتفت باستخدام هذه الرسائل على نحو عشوائي وفوضوي لتأكيد فرضيتها المسبقة.
سوء فهم
هناك أيضا في سياسات الحزب الديمقراطي بالداخل الأميركي، ما يغري على تصوير الأمر على أنه تسامح أو تشجيع للإسلاميين، وهذا أبعد ما يكون عن الدقة.
فالحزب الديمقراطي له موقف إيجابي من الأقليات عموما، بما في ذلك المسلمين. وهذا الموقف يمتد إلى احترام الخصوصيات الدينية والثقافية والإثنية لهذه الأقليات، على النحو الذي لا نرى له مثيلا في الحزب الجمهوري مثلا. وهذا الاحترام يشمل الرموز الدينية للمسلمين بما في ذلك ارتداء الحجاب والتعاطف معهم في وجه التمييز والانتهاكات التي قد تلحق بهم. ومن هذا الباب يجري التعامل مع المنظمات الأميركية المدافعة عن حقوق المسلمين أو الناشطين في هذا المجال.
طبعا هذه المنظمات ربما يكون لها صلات بالإخوان أو جماعات الإسلام السياسي الأخرى، لكن هذا لا يعني أن الحزب الديمقراطي يتعاطف مع هذه الجماعات. الحقيقة أن الموقف من المسلمين يمتد أيضا إلى الأميركيين غير المسلمين، خاصة الذين يكونون هدفا للتمييز على أساس ديني أو عرقي أو يتعرضون للاضطهاد في بلدانهم الأصلية مثل البهائيين أو الأيزيديين أو الطائفة الاحمدية أو ما شابه.
أجندة غير دينية
من الناحية النظرية فإن برامج وأفكار الحزب الديمقراطي هي الأبعد ما تكون عن أيديولوجية الإخوان المسلمين أو الإخوان المسيحيين، لأنها برامج يغلب عليها الطابع الليبرالي، واللاديني في الكثير من الأحيان. فالديمقراطيون هم المناصرون التقليديون لقضايا النساء وحقهن في الأجر المتساوي وفي التصرف بأجسادهن، بما في ذلك مسألة الإجهاض، وهم أيضا المدافعون عن المثليين والمهاجرين والفئات الضعيفة في المجتمع.
والمدن التي يحكمها ديمقراطيون، مثل نيويورك وسان فرانسيسكو ولوس أنجلوس وواشنطن العاصمة وغيرها هي المدن الأكثر ليبرالية في أميركا.
هذه الخلفية تجعل الديمقراطيين بالضرورة هم الأبعد عن جماعة الإخوان المسلمين التي تمقت الليبرالية والعلمانية أو عن أي جماعة تقوم على أساس الدين.
والواقع أن غالبية "المسلمين المحافظين" في أميركا كانوا، لهذه الأسباب بالذات، ولوقت قريب يصوتون إلى الحزب الجمهوري لأنهم يجدون قيمه تتناسب أكثر مع قيمهم. وقد صوتوا بكثافة للمرشح الجمهوري جورج بوش الإبن خلال انتخابات عام 2000. بعد ذلك حدث تحول في توجهات المسلمين، نحو الحزب الديمقراطي. والسبب هذه المرة سياسي وليس ديني. فعلى الرغم من موقفهم السلبي دينيا من الديمقراطيين، إلا أنهم شعروا بأن الجمهوريين، وخاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر قد اتجهوا كثيرا نحو اليمين، والكثير منهم كان له موقفا سلبيا من الحربين في العراق وأفغانستان. والبعض اعتبر ذلك استهدافا للمسلمين.
انزعاج حكومي
فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية لا يوجد دليل على أن الإدارات الديمقراطية كان لها موقف يدعم أو يحابي الإخوان المسلمين أو الجماعات الإسلامية. صحيح أن هذه الإدارات، لا تظهر ميلا نحو/أو تتبنى المواجهة الأيديولوجية مع الإسلاميين، لأن منطلقاتها سياسية وليست عقائدية أو أيديولوجية دينية كما هو الحال مع الإدارات الجمهورية (حيث يشكل اليمين المسيحي جناحا رئيسيا في الحزب الجمهوري)، لكنها كانت الأكثر شراسة حينما يتعلق الأمر بتنظيمي القاعدة وداعش وغيرهما من الجماعات المسلحة. وقد شهدت فترة أوباما نشاطا غير مسبوق، بما في ذلك استخدام الطائرات المسيرة، في استهداف زعماء ونشطاء هاتين المجموعتين.
خلاصة القول هي أن افتراض وجود صلة أو تعاون بين الحزب الديمقراطي الأميركي وجماعة الإخوان المسلمين، هي مجرد تصورات بنيت في أفضل الأحوال على حالات ظرفية، ولا يوجد ما يثبتها أو يدل عليها، وفي العديد من الأحيان هي ليست أكثر من انعكاس لانزعاج بعض الحكومات العربية إما من رفض الديمقراطيين الدخول في حروب أيديولوجية مع الإسلاميين، أو من الانتقادات التي يوجهونها فيما يتصل بحقوق الإنسان وغياب الديمقراطية.