العقل العربي الجمعي.. إلى أين؟ - مقالات
أحدث المقالات

العقل العربي الجمعي.. إلى أين؟

العقل العربي الجمعي.. إلى أين؟

محمد المحمود:

 

كتب الأديب العربي العالمي نجيب محفوظ كتابه "المرايا" ليتحدث فيه ـ بالنقد، بل وبالسخرية أحيانا ـ عن شخصيات واقعية في عصره، وذلك عَبْر أقنعة من الأسماء المستعارة؛ حتى لا يقع تحت طائلة المساءلة الأدبية، أو ربما المساءلة القانونية؛ فيما لو تحدث عن كل هؤلاء الذين جايلهم بأسمائهم الصريحة، وبهذه الدرجة العالية من الصراحة التي تصل حَدَّ التجريح.

لقد كان من الطبيعي لمحفوظ كروائي مبدع، بل ومن ضروريات نفي التطابق التام بين شخصياته المِرْآتية وما يقابلها في الواقع، أن يجري بعض التغييرات في هذا السرد السِيَري؛ مع الإمساك ـ في الوقت نفسه ـ بالخيوط الرئيسية لعناصر الحكاية التي يريد من خلالها التعبير عما يجول بخاطره من أفكار.

الشخصية الأولى التي يفتتح بها محفوظ "المرايا" هي شخصية إبراهيم عقل، وهذا الاسم هو قناع لشخصية واقعية/ منصور فهمي؛ كما يؤكد ذلك المعنيون بأدب محفوظ. ما يهمنا هنا هو أن إبراهيم عقل/ منصور فهمي كان عقلا معرفيا/ ثقافيا واعدا، أو كما كان يقول محفوظ: عقلا فذّاً يُبشّر بثورة عقلية لولا وشاية حقيرة أجهضته قبل أن يقف على قدميه، حيث اتهمه صاحب الوشاية بأنه طعن في الإسلام ضمن رسالته الدكتوراه التي قدمها للسوربون، وقد أثار هذا الواشي الصحافة في مصر ضده؛ فشنوا عليه هجوما ناريا يتهمونه فيه بالإلحاد وتبنِّي آراء المستشرقين لنيل الدكتوراه على حساب دينه وقومه، ثم طالبوا بفصله من الجامعة/ جامعة القاهرة. وهذا ما حدث للأسف، فبعد عام واحد من التدريس فيها فصل منها. ولم يعد إليها إلا بعد خمسة أعوام تقريبا؛ عبر وساطات وتنازلات وتأكيدات منه على التوبة، وأنه الابن البار لمجتمعه وتراثه وتقاليده ولنمط التدين العام.

يقول محفوظ عن هذا الحدث المركزي في حياة إبراهيم عقل/ منصور فهمي: "اهتز الدكتور من جذوره حيال الحملة العاتية، ولم يكن ذا طبيعة مقاتلة، ولا قِبَل له بتحدي الرأي العام". وهنا، وبسبب هذا الحادث المؤلم سينتحر منصور فهمي ثقافيا/ علميا، وسيستقيل من مُهمّاته العقلية كافة، ويصبح مجرد "طالب عيش"، مجرد موظف آلي بليد؛ بعد أن كان "طالب علم" يُبهِر زملاءه في السوربون بذكائه الحاد.

يصف محفوظ هذه الحالة المتردية المزرية التي وصل إليها أستاذه في الجامعة بقوله: "والظاهر أن المحنة علمته كيف يركز نشاطه في دروسه الجامعية، وينسحب من الحياة الفكرية خارج جدران الكلية. ولاحظنا أن همته يطويها الفتور والملال، وأن دروسه أقرب إلى التوجيهات العامة منها إلى المحاضرات الدسمة التي يلقيها علينا زملاؤه". بل وصل بطلابه إلى أن يجعلوه مثار سخرية قاسية لكثر ما سمعوه يُكرِّر مواعظ تقليدية بالية، ومقولات أخلاقية ساذجة، لم يلتزم بأبجدياتها عند أول منعطف يخفي مطمعا في سُلّم الترقي الوظيفي.

طهحسينطه حسين في صورة تعود للسيتينيات

هكذا تحوّل إبراهيم عقل/ منصور فهمي من مفكر/ مثقف واعد، يملك كثيرا من القدرات التي تؤهله للتأثير في عقول الأجيال تلو الأجيال، إلى "كارثة ثقافية"، إلى حالة فشل وانهزام واستسلام، إلى حالة انتحار روحي/ ثقافي تدفع مسارات اليأس إلى مداها الأقصى، بل الأقسى. وإذا أردت أن تعرف ما الذي فعله مثل هذا الانتحار أو الاندحار؛ قياسا على توقعات الممكن فيه، فقارن ما صار إليه منصور فهمي بما صار إليه زميله: طه حسين الذي اتهم بأبشع وأشنع مما اتهم به، وفصل من الجامعة كما فصل، وأبعد عن عمادة كلية الآداب أكثر من مرة...إلخ المتاعب بل والمصائب التي تعرّض لها، ومع هذا بقي صامدا، مستميتا في تعزيز قيم التنوير والتفكير الحر في مجتمعه؛ فصنع أجيالا من التلاميذ المباشرين وغير المباشرين، وبقي إرثه الأدبي والثقافي والسِّيَري مُلْهِما لملايين العقول من المحيط إلى الخليج.

لتدرك معنى وعظمة أن يحمل المثقف مسؤوليته الثقافية على كاهله، يكفي أن تعرف أن طه حسين خسر ـ وهو الضرير ـ وظيفته التي لا يحسن غيرها أكثر من مرة، بل والتزاما منه بمبادئه واتساقا مع أفكاره؛ رضي بأن يخسر منصب عميد كلية الآداب، بينما كان زميله/ منصور فهمي ـ في الوقت نفسه ـ يكتب المقالات التزلّفية النِّفاقية ليظفر بهذا المنصب، وفعلا ظفر به، ظفر به في الوقت الذي كانت الكلية تموج غضبا لطه حسين، حتى إن مدير الجامعة/ أحمد لطفي السيد الملقب بـ"أستاذ الجيل" قدّم استقالته من منصبه كمدير للجامعة اعتراضا على إبعاد طه حسين عن عمادة كلية الآداب.

هناك فرق بين من يُضَحِّي بالمنصب (مع قناعته بأنه من خلال المنصب سيصنع مزيدا من التنوير لن يصنعه خارج المنصب) لأجل أفكاره ومبادئه، ومن يضحي بالأفكار والمبادئ والقيم لأجل المنصب الذي سيتحول على يديه إلى مكسب شخصي، إلى مجد شخصي، إلى دائرة نفوذ يتكسب من خلالها بشكل مباشر أو غير مباشر؛ بعيدا عن أي اهتمام بالمهام الأساسية للوظيفة الخطيرة التي تسهم ـ على نحو حاسم ـ في تشكيل العقل الجمعي الذي سيتحدد على ضوئه مصير الأمة في مستقبل الأيام.

على امتداد قرن من الزمان "1919 ـ 2019" (1919، عام رجوع طه حسين من فرنسا ليعمل في الجامعة، وعودة منصور فهمي للجامعة بعد فصله)، كانت الثقافة العربية في شتى مساراتها حائرة بين نموذجيهما: طه حسين ـ منصور فهمي، وللأسف كان نموذج الأخير هو النموذج الغالب، بل الكاسح في المعاقل الأكاديمية العربية، وفي المؤسسات الثقافية، فضلا عن بقية المؤسسات. بينما كان النموذج الأول/ نموذج طه حسين، نموذج المثقف الواعي بدوره الحضاري، المثقف الذي يأخذ على عاتقه مهمة صناعة الوعي التقدمي، هو النموذج النادر، النادر جدا، بل الغائب في كثير من الأحيان.

المفكرون هم صناع الوعي. وعندما نطلق وصف "العقل العربي" فإنه وصف لمجرد يتجسد في الأفكار السائدة، والرؤى المُنَمّطة، كما يتجسد في المفكرين والمثقفين، بل وفي سائر المتعلمين الذين ينتجون خطابا يؤثر على مجمل العقول، وبالتالي، على الخيارات الجمعية، أو على الخيارات الفردية التي تُشَكِّل بمُجْملها خيارا جمعيا يتحدد مصير الأمة عليه إيجابا وسلبا. وقد كان هذا العقل العربي واعدا في البداية؛ بقدر ما كان ممثلوه واعدين، فقبل ثمانين أو سبعين عاما كان النموذج "الطه حسيني" له حضور ملحوظ على امتداد العالم العربي، كان نموذجا محترما في المِخْيال العام، بينما كان النموذج "المنصوري" أقل بكثير مما هو عليه الآن، فضلا عن كونه محل رفض وازدراء في المِخْيال العام.

صانعو الوعي العربي/ العقل العام: المفكرون العرب، المثقفون (المثقفون حقيقة أو من يدعون أنهم كذلك)، أصحاب المنابر الإعلامية المؤثرة، المتعلمون المشتغلون ـ جدلا وحوارا ـ على تدوير الأفكار والمقولات الثقافية والنظريات العلمية وترسيخها جماهيريا، كل هؤلاء ـ في أغليتهم الساحقة ـ يسيرون بـ"العقل العربي" إلى الهاوية، شعروا بذلك أم لم يشعروا. إنهم لا ينتحرون ثقافيا/ معرفيا فحسب، وإنما يأخذون معهم الملايين إلى ما هو أشد بؤسا من الانتحار الصريح.

أحيانا، ينتحر هؤلاء بالعودة إلى الخرافة صراحة، يتنكرون لما كانوا ينادون به من ثقافة تقدمية تنويرية؛ ويتدروشون على محنطات تراثية ليس فيها إلا رائحة الموت الذي يأخذ بالأنفاس بعيد على مسارات الحياة الواعدة بالأمل. وتكون المأساة أن شرائح جماهيرية واسعة تنساق وراء هذا التنكر الذي يأخذ شكل "توبة" دينية أو عودة ثقافية للجذور؛ لأنه يُعزّز لها ما تتمناه من علو وتفوق وصوابية تراثها الذي نشأت عليه، أي يُعزّز لها ذاتها؛ ويكفل لها توفير ما تستطيع الفخر به ولو وهما، حينما عجزت عن الفخر بما هو حقيقة في الواقع.

وفي أحيان أخرى ينتحر بعض هؤلاء بخيانة الأمانة الفكرية/ العلمية؛ نتيجة الوقوع في فخ المطامع الشخصية التي قد تأتي على شكل مغازلة منصب ما، أو استجداء مال أو عقار، أو طمعا طفوليا بجماهيرية واسعة يريدون أن ينافسوا عليها لاعبي الكرة وممثلي الكوميديا، ومشاهير نجوم الوعظ الفضائي. وفي سبيل هذه الجماهيرية البائسة يُضحّي هؤلاء بكل الأفكار التنويرية التي يرونها محل تَشكّك أو اتهام جماهيري، يغالطون في سبيل تفنيدها مبادئ المنطق وحقائق العلم، ويُقدِّمون عوضا عن ذلك "تهريجا صاخبا" يظنون أن الجماهير البائسة لا تحسن إلا الرقص عليه في ابتذال عقلي رخيص.

أيضا، لا يخفى أن اليأس والإحباط يخلق حالة تشاؤم قد تقود إلى مثل هذا الانتحار. لكن في الغالب هو انتحار لازم من حيث أثره المباشر، أي أن هؤلاء يكتفون بالانزواء يأسا وإحباطا؛ فتخسر المجتمعات طاقاتهم المهدرة، دون أن يقوموا ـ كسابقيهم ـ بإنتاج خطاب سلبي يسحب من رصيد التنوير لحساب الجهل والتخلف والتدمير الذي يطال مباني الروح، كما يطال مباني الجسد التنموي.

أخيرا، لا ينبغي أن ننسى أن أولئك المحبطين اليائسين المنزوين نتيجة تفشي التفاهة الثقافية، واكتساح الغوغائية الجماهيرية، لهم أثر سلبي كاسح على المدى البعيد. الأثر السلبي غير المباشر لهؤلاء المحبطين قد لا يقل عن أثر أولئك البسطاء من أشباه المتعلمين/ أشباه المثقفين الذين ينسون كل ما تَعلَّموه وعَلَّمُوه عند أول حدث عابر، عند أول مطمع تافه، عند أو تقاطع مع مكسب خاص، عند أصغر استفزاز، عند مواقف وقضايا ليست شيئا في حدها الزماني والمكاني، بل والشخصي. وفي النهاية، هؤلاء وهؤلاء يُسهمون في تغذية الوعي العربي العام بكل ما هو سلبي، سواء كان انسحابا واستسلاما، أو كان تطبيعا غبيا لبيع المواقف والمبادئ والاسترزاق بالرقص في مآتم العقول.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث