أحمد المهداوي:
لم يكن النقاش الدائر اليوم بين مختلف الأطياف الدينية والسياسية، والفعاليات الحقوقية والجمعوية حول موضوع المساواة في الإرث وليد اللحظة، وليست الدعوة إلى المساواة في الإرث دعوةً مستحدثة، وإنما يعود أصل المسألة إلى عشرينيات القرن الماضي، حيث شهدت هذه الفترة تشكُّل خارطة الفكر العربي، وتموضع تياراته الأيديولوجية.
إذ تعود بواكير الدعوة إلى المساواة في الإرث إلى سنة 1928، وذلك حين ألقى المفكر المصري القبطي سلامة موسى، محاضرةً له في جمعية الشبان المسيحيين بالقاهرة، دعا فيها إلى المساواة في الإرث، مشيراً إلى أن قاسم أمين كان ينوي المطالبة بالمساواة إلا أنه توقف لعدم نضوج الرأي العام. وعقب محاضرته أرسل خطاباً إلى هدى شعراوي، رئيسة الإتحاد النسائي، يدعوها أن تطلب من وزارة الحقانية سنَّ قانونٍ يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث، وقد أحدثت دعوته هذه آنذاك لغطاً وجدلاً واسعين، وتضاربت حولها الآراء.
ولربما حاولت حركة تحرير المرأة، وهي حركة علمانية وليبيرالية، نشأت في مصر، ومنها انتشرت في أرجاء البلاد الإسلامية والعربية، أن تكون سبَّاقة للدعوة إلى المساواة في الميراث باعتباره أحد أهداف الحركة التي طالبت، إلى جانب ذلك، بجعل الحجاب والنقاب للاختيار، وتقييد الطلاق وجعله في المحكمة ومنع تعدد الزوجات، وتمتد أهداف هذه الحركة إلى جعل المرأة متساوية في الحقوق والواجبات مع الرجل وأن يصبح لها دور فعال في المجتمع.
لم تكد الزوبعة التي أثارها موسى سلامة بالدعوة إلى المساواة في الإرث تخمد حتى أعقبتها أخرى أكثر اتساعاً بعد أقل من عامين، ففي يناير 1930 كتب محمود عزمي مقالاً في الأهرام جدّد فيه الدعوة إلى المساواة في الإرث، وفي ذات الوقت تقريباً ألقى فخري ميخائيل فرج محاضرةً بالجامعة الأمريكية عن "الواجب المالي للأمومة" تضمنت ضرورة المساواة، وإثر ذلك عقدت الجامعة المصرية مناظرةً بين المؤيدين للمساواة الذين مثلهم محمود عزمي وفتاة جامعية، والمعارضين، ومن بينهم الشيخ محمد رشيد رضا، وقد كتب الأخير في المنار سلسلة من المقالات حول هذا الموضوع.
وفي نفس السنة تقريباً طالب المفكّر التونسي الطاهر حداد بدوره بالمساواة التامة في الميراث بين المرأة والرجل بشروط، وله في ذلك تحليل متطوِّر وحجج تنبع من جوهر الدين ومقاصده، وقد جاء في كتابه "امرأتنا بين الشريعة والمجتمع" في فصل ميراث المرأة ما يلي: "قد علَّل الفقهاء نقص ميراثها عن الرجل بكفالته لها. ولا شيء يجعلنا نعتقد خلود هذه الحالة دون تغيير. على أننا نجد الإسلام نفسه قد تجاوز هذه الحالة التي وجدها أمامه في كثير من أحكامه، اعتباراً بضرورة تبدلها مع الزمن فقرر للمرأة حريتها المدنية في وجوه الاكتساب وتنمية المال بالتجارة وغيرها من التصرفات".
ثمَّ يضيف إلى ذلك: "وفيما أرى أن الإسلام في جوهره لا يمانع في تقرير هذه المساواة من كامل وجوهها متى انتهت أسباب التفوق وتوفرت الوسائل الموجبة".
يبدو أن الطاهر حداد في كتابه تبنَّى التصوّر القائل بضرورة المساواة التامة بين الجنسين في الميراث متى توفّرت الظروف لذلك، حيث أنه يوضّح في البداية: "يجب أن نعتبر الفرق الكبير البيِّن بين ما أتى به الإسلام وجاء من أجله، وهو جوهره ومعناه فيبقى خالداً بخلوده" أي أنه بهذا يفرّق بين ما جاء به الإسلام من تشريعات، وبين ما جاء من أجله، أي هدف الإسلام، فهدفه الأخير إقرار العدل بين الناس والمساواة بينهم، وبالتالي ينبغي أن تكون قراءة التشريعات الإسلامية وفق هذه الأهداف التي جاء من أجلها، ولا تقتصر فقط على تطبيق الشرائع دون فهمها أو فهم مقاصدها، وعلى هذا فإن الطاهر حداد يلمِّح إلى مقاصد الشريعة، ويلفت الأنظار إلى جوهر الإسلام، حيث يدرك أن الإسلام يحضُّ على العدل والمساواة، وأن مقاصد الشريعة متغيِّرة بتغيُّر الهيكلة المجتمعية.
في الجانب الآخر ظلَّ الفقهاء المحافظون على نفس الشاكلة في التعامل الحرفي مع النصوص القرآنية المتصلة بالإرث، وذلك اعتماداً على الخطاب الكلاسيكي حول الفروق الفيزيولوجية، والاختلاف في الوظائف البيولوجية ليبرروا التمييز الاجتماعي والاقتصادي ضد المرأة، وليؤطروا فقهياً ورمزياً، آليات إعادة إنتاج اللامساواة بين الجنسين.
وهكذا ظل النقاش مفتوحاً بين التيار الحداثي من جهة، والتيار المحافظ من جهة أخرى حول مسألة المساواة في الميراث، وكلا الفريقين انطلق من أيديولوجيته الخاصة، واعتمد في ذلك أسلوب الرد على غريمه الأيديولوجي، وإثبات صحة وجهة نظر كل واحد منهما على حدة.
بيد أن النقاش ظلَّ رهين الاجتهادات الفقهية والتفسيرات القرآنية، وتم إغفال الحديث عن أن قضية الإرث لم تكن سوى ظرف محدد يزول بزوال الظرف الذي أتى به، وقد جاءت آية المواريث {للذكر مثل حظ الأنثيين} في ظرفٍ محدّد حيث كانت، قبل أن تتشكل في قالب نص ديني، قاعدةً معمولاً بها لدى بعض القبائل العربية قبل مجيئ الإسلام، وقد كانت بعض هذه القبائل تحرم المرأة من كل الميراث، وتجعل ذلك حكراً على الذكور، وفي بعض القبائل كانت المرأة نفسها جزءاً من الميراث، وهذا ما دأب على ترديده وترويجه الخطاب الديني السلفي، إذ نسب فضل سن قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" للدين الإسلامي، وغضَّ الطرف بالمقابل، سواء عن قصد أو غير قصد، عن ذكر أن القاعدة في الأصل بنت بيئتها، أي وليدة لحظة ما قبل الإسلام، وفي هذا السياق يشير إلى ذلك الشاطبي في كتاب الموافقات (ج: 2، ص: 78) "ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرّها الإسلام كما قالوا في القراض، وتقدير الدية، وضربها على العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة، والوقوف بالمشعر الحرام، والحكم في الخنثى، وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين والقسامة، وغير ذلك مما ذكره العلماء".
وفي ذات السياق، ذكر أبو جعفر محمد بن حبيب البغدادي في كتاب المحبَّر (ص): 324 "وكانوا لا يورثون البنات، ولا النساء، ولا الصبيان شيئاً من الميراث. ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة، وقاتل على ظهور الخيل. فأول من ورث البنات في الجاهلية فأعطى البنت سهماً، والابن سهمين ذو المجاسد اليشكري".
من هذا المنطلق فالسابقة والفضل إذا معهود لذو المجاسد اليشكري الذي سنَّ قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" كما جاء ذلك في الكتاب نفسه (ص:236) "وكانت العرب مُصفقة (أي متفقة) على توريث البنين دون البنات، فورث ذو المجاسد؛ وهو عامر بن جشم بن غنم بن حُبيّب بن كعب بن يشكر ماله لولده في الجاهلية للذكر مثل حظّ الأنثيين، فوافق حكم الإسلام".
إن قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" كما تبيَّن لم يأت بها الإسلام، ولم تكن أمراً محدثاً، فقد وجدت من قبل ولم يقم الإسلام سوى بإقرارها وتعميمها مع التَّقنين، وأبقى عليها في وقت كانت فيه تلك القاعدة متوافقة مع ممارسات المجتمع الذي نشأت فيه، تماماً مثل إبقائه على ممارسات أخرى كانت متوافقة مع تركيبة المجتمع آنذاك.
من هنا يبرز الطابع النسبي لهذا الحكم، فهو لم يكن مسقطاً عن الواقع أو معزولاً عنه، بل كان ابن ظرفيته بما تعنيه من بنى اجتماعية، اقتصادية، ثقافية قبلية. وقد كان هذا الحكم في وقته خطوةً تقدميةً، سواء بالمقارنة مع ما كان سائداً عند القرشيين خاصة والعرب عامة، من عدم توريث للبنات على اعتبار أنهن لا يقمن بأي دورٍ محوري في توفير الغذاء للقبيلة، أو مقارنة بالديانتين السابقتين للإسلام، أي اليهودية والمسيحية اللتين كانتا لا تورثان البنات بالمرّة.
على هذا يبدو جلياً على أنه من الضروري تقديم قراءة أخرى قادرة على تحرير ضمير الفرد من وصاية الفقه المتحجّر، ومن سلطة النص الديني، والمطالبة بإقرار قانون المساواة في الإرث، من باب أن النص القرآني نفسه لم يكن في تلك الحالة سوى مدعّم لقاعدة كانت تعتبر في الظرف الذي أتت فيه خطوة تقدمية، أو لنقل الحل الأمثل في بيئة على تلك الشاكلة من حرمان المرأة من الميراث.
ومن هنا يمكن القول بأن النص في هذه الحالة متجاوز، حيث أنه نص تشكّل وفق واقع تاريخي لا يمكن بأي حال من الأحوال انتشاله منه، وهذا مظهر من مظاهر جدلية الوحي والتاريخ، حيث يتفاعل الوحي مع الواقع المعاش في لحظة زمنية ما، والأولى أن تتم مسايرة روح الحضارة، وفي ظل مناشدة دولة مدنية تحتكم إلى الدستور والقانون، فلا مناص من إقرار قانون المساواة في الإرث على اعتبار أنه اجتهاد يصبُّ في مصلحة الفرد والمجتمع، ومن باب أن ما جاء في ظرفٍ محددٍ يزول بزوال الظرف الذي أتى به، والآية المذكورة في القرآن جاءت في خضمِّ ظرف معين قد زال، وبزواله يزول حكم الآية.