محمد يسري:
يُعتبر الحديث النبوي الأصل الثاني للتشريع الديني عند معظم المسلمين، ما منحه مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة عند جمهورهم، وخصوصاً عند أهل السنّة والجماعة.
الكثير من المدوَّنات الحديثية السنّية تم جمعها في ظل رعاية السلطة الحاكمة واهتمامها، وارتبط واضعوها بسلاطين وخلفاء أزمنتهم، وبالتالي وُجّهت سهام النقد والتشكيك إلى هذه المدونات، وبالأخص إلى الأحاديث السياسية الواردة فيها، فقد قيل إنها مصطنعة، لم ينطق بها الرسول، وإنما تم تدوينها لما تعطيه من قوة وشرعية للحكام والأمراء.
احتضان السياسة لتدوين الحديث
لما كانت ثقافة العرب شفهية بالأساس، كان من الطبيعي ألا يلجأ المسلمون الأوائل إلى تدوين الأحاديث التي سمعوها من الرسول، فقد اعتمدوا على نقلها من خلال الرواية السماعية فقط، ووقعت بعض الاستثناءات البسيطة من قبيل ما فعله الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص عندما دوّن ما سمعه من الرسول في صحيفة عُرفت باسم "الصحيفة الصادقة"، بحسب ما يذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة".
وفي عهد الخلفاء الراشدين، استمر الامتناع عن تدوين الحديث، وكان السبب الخوف من وقوع الخلط بين الحديث والقرآن الكريم. وذكرت بعض الروايات أن عمر بن الخطاب عزم على كتابة الحديث، فاستشار الصحابة، واستخار الله شهراً كاملاً، ولكنه امتنع عن ذلك في النهاية، وقال: "إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً".
مع تأسيس الدولة الأموية، بدأ الارتباط الفعلي بين تدوين الحديث النبوي من جهة والسلطة السياسية من جهة أخرى، فقد كتب والي مصر عبد العزيز بن مروان إلى التابعي كثيرِ بنِ مُرَّة الحضرمي وطلب منه "أنْ يكتبَ إليه بما سمع من أصحاب رسول الله من أحاديثهم، إلا حديث أبي هريرة، فإنه عندنا"، حسبما يذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء".
أما الخليفة عمر بن عبد العزيز، فقد وجه الدعوة إلى العلماء في شتى أنحاء الدولة لجمع الأحاديث، وأرسل لهم: "انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه"، حسبما يذكر أبو نعيم الأصبهاني في "تاريخ أصبهان"، وكان من أهم العلماء الذين استجابوا لدعوته، ابن شهاب الزهري، ويذكر ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" عن لسانه قوله: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً".
ويذكر الدكتور محمد عجاج الخطيب، في كتابه "السنّة قبل التدوين"، أن الكثير من الشبهات أثيرت حول الزهري تحديداً، من جانب الأحزاب السياسية المعارضة للحكم الأموي، ومن أهمها الحزب العلوي الشيعي، إذ اتُّهم بـ"السير في ركاب الأمويين وإرضائهم بوضع ما يروق لهم من الأحاديث التي تثبت دعائم ملكهم، وترد على خصومهم".
ظاهرة العلائقية بين تدوين الحديث والسياسة ظلت قائمة بعد سقوط الدولة الأموية وتأسيس دولة بني العباس. يذكر ابن عبد البر، في كتابه "التمهيد"، أن الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور لما قابل الإمام مالك في موسم الحج، أخبره بنيّته إرسال كتاب الموطأ إلى جميع الأمصار، ليعمل جميع المسلمين بما فيه من أحكام وشرائع ويتركوا الأحكام الفقهية التي بين أيديهم، ولكن مالك اعتذر عن ذلك قائلاً: "دع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم".
في زمن اتساع نفوذ المعتزلة في عهود كل من المأمون والمعتصم والواثق بالله، انقطعت العلاقة الودية بين المحدثين والخلفاء وكان ذلك منطقياً لاعتماد المنهج المعتزلي على العقل في المقام الأول، وتهميشه للروايات النقلية.
ولكن مع وصول الخليفة المتوكل على الله إلى كرسي الخلافة عام 233هـ، انتهت محنة المحدثين، وبدأت مرحلة جديدة تقارَب فيها الإمام المُحدث أحمد بن حنبل من الخليفة، وقضى السنين الأخيرة من حياته بجانبه في سامراء، وهناك حظي بمكانة لائقة، وأُغدقت عليه الأموال والمنح والهدايا، رغم إصراره على رفضها وامتناعه عن قبولها، بحسب ما يذكر ابن كثير في "البداية والنهاية". وسُمح لابن حنبل برواية الحديث النبوي، فكان ذلك فرصة عظيمة لنشر كتابه "المُسند"، والذي يُعدّ واحداً من أضخم المدونات الحديثية عند أهل السنّة والجماعة.
دور كتب الحديث في بناء النظرية السياسية السنّية
مع زيادة الاهتمام بكتابة وتدوين الحديث، ومع إرساء قواعد وأصول ومحددات لمذهب أهل السنّة والجماعة، ظهرت الأهمية الكبيرة للمدونات الحديثية في التنظير للثوابت السياسية السنّية.
هناك تسعة كتب حديثية على وجه التحديد استأثرت بمكانة خاصة عند السنّة، وهي على التوالي: صحيحا البخاري ومسلم، سنن أبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، موطأ مالك ومسند ابن حنبل وسنن الدارمي.
في هذه الكتب التسعة نستطيع أن نميّز الكثير من الأحاديث التي أقيمت عليها قواعد النظرية السياسية في المذهب السنّي، والتي تختلف بشكل كامل عن مثيلتها الشيعية أو تلك التي تبنتها فرق الخوارج المختلفة.
من أهم تلك القواعد التأكيد على المكانة الخاصة التي يشغلها الصحابة، وعلى ضرورة إظهار الموالاة لهم، وعدم الطعن فيهم، وهو ما يظهر في ما اتفق عليه كل من البخاري ومسلم، عندما نقلا عن الرسول: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ"، وهي القاعدة التي تُخالف الأصول المعروفة عند كل من الشيعة والخوارج الذين يُخرجون الكثير من الصحابة من حيّز التبجيل والتقدير.
أيضاً، تأتي شروط وتفاصيل اختيار الخليفة، وهو رأس النظام السياسي السنّي، في العديد من الأحاديث الواردة في المدونات السنّية، من ذلك قول الرسول "الأئمة من قريش"، وهو الحديث الذي أخرجه ابن حنبل والنسائي، وما يتصل به من أحاديث أخرى مساندة تُعلي من قدر القرشيين ومنزلتهم، مثل ما ذكره مسلم من أن "الناس تبع لقريش في الخير والشر"، و"الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم فأنا خيار من خيار من خيار"، وهي أحاديث تتعارض مع الرأي الخارجي الذاهب إلى انتفاء أيّة أفضلية دينية أو سياسية مبنية على أساس الانتماء القبلي والعرقي.
هناك تسعة كتب حديثية استأثرت بمكانة خاصة عند السنّة، وفيها نستطيع أن نميّز الكثير من الأحاديث التي أقيمت عليها قواعد النظرية السياسية في المذهب السنّي، والتي تختلف عن مثيلتها الشيعية أو الخارجية
مدوَّنات حديثية سنّية كثيرة تم جمعها في ظل رعاية السلطة الحاكمة واهتمامها، وارتبط واضعوها بسلاطين وخلفاء أزمنتهم... ولذلك وُجّهت سهام النقد إلى هذه المدونات، وبالأخص إلى الأحاديث السياسية الواردة فيها
ولما كانت طاعة الحاكم، حتى لو كان ظالما جائراً، من أهم ملامح النظرية السياسية السنّية التقليدية، فقد وردت العديد من الأحاديث المؤيدة لهذا الرأي، ومنها ما أخرجه ابن حنبل: "تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ"، وما ذكره البخاري في صحيحه: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة".
وفي مقابلة المذهب الشيعي الذي يُعلي من حجية الأئمة من آل البيت النبوي، اهتمت الكتابات السنّية بتخريج أحاديث تركّز على ضرورة الاحتكام للسنّة النبوية، ولرأي الجماعة والجمهور. وفي هذا السياق نجد أحاديث مشهورة، مثل: "إنِّي قد خَلَّفتُ فيكم اثنين، لن تضلُّوا بعدهما أبداً: كتاب الله، وسُنّتي، ولن يتفرَّقَا حتى يرِدَا عليَّ الحوض"، و"لا تجتمع أمتي على ضلالة"، و"أنتم شهداء اللَّه في الأرض".
ولأن المرحلة المبكرة من المذهب السنّي ارتبطت سياسياً بظهور الدولتين الأموية والعباسية، لم يكن من الغريب أن تزخر المتون الحديثية السنّية بمناقب بعض الآباء المؤسسين لتلك الدول.
فعلى سبيل المثال، ينقل الترمذي قول الرسول في مدح معاوية بن أبي سفيان، أول خلفاء الدولة الأموية: "اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهد به". أما البخاري ومسلم فقد اتفقا على تخريج دعاء الرسول لابن عمه عبد الله بن العباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، وهو الحديث الذي لطالما روّج له خلفاء بني العباس، واستخدموه في مقابلة منافسيهم من أئمة البيت العلوي.
في السياق نفسه، نلاحظ أن المتون السنّية أولت اهتماماً متزايداً بأحاديث الرسول التي بشّرت بفتوحات فارس والعراق والشام ومصر، وساهمت تلك الأحاديث في صبغ التوسعات العسكرية العربية المبكرة بالصبغة الدينية الشرعية، وهو ما وفّر لها غطاءً إيديولوجياً وعقائدياً حافظ على زخم الإمدادات البشرية المتلاحقة. ونلاحظ أن تلك النوعية من البشارات النبوية بالفتح، لم تنتشر بالكيفية نفسها في المدونات الحديثية الشيعية، والسبب في ذلك أن سواد الشيعة لم يشاركوا بشكل فعال في تلك الحركة التوسعية، ولم تكن لهم مصلحة تُذكر في تمجيدها.
انتقاد الأحاديث السنّية السياسية
تعرّضت الأحاديث ذات الصبغة السياسية، والتي وردت في متون المصنفات السنّية، إلى العديد من الانتقادات من جانب العلماء القُدامى والباحثين المعاصرين من داخل الدائرة السنّية نفسها.
فالإمام الأندلسي القرطبي ابن حزم المتوفى عام 456هـ، والمؤيد لجواز الخروج على الحاكم المتغلب إنْ ظهر ظلمه، وقف موقفاً متشدداً من الأحاديث السياسية التي تحض على طاعة ولي الأمر.
فعلى سبيل المثال، يقول ابن حزم في كتابه الشهير "الفصل في الأهواء والملل والنحل"، معلقاً على حديث "اسمع وأطع وإنْ ضرب ظهرك وأخذ مالك"، إن هذا الحديث مقيّد بالحكم الشرعي "فمعاذ الله أن يأمر رسول الله بالصبر على ذلك، برهان هذا قول الله عز وجل وتعاونوا على الصبر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وقد علمنا أن كلام رسول الله لا يخالف كلام ربه تعالى".
وكان الفقيه والمؤرخ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، المتوفى عم 597هـ، أيضاً واحداً من علماء السنّة الذين انتقدوا بعض الأحاديث السياسية، فقد التفت إلى الصبغة السياسية لبعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، والتي حملت إطراءً أو مدحاً لبعض الزعماء السياسيين، ومن أبرزهم معاوية بن أبي سفيان، ولذلك اهتم في كتابه "الموضوعات" بانتقاد بعض تلك الأحاديث، وقال: "قد تعصَّبَ قومٌ ممَّن يَدَّعي السُّنَّةَ، فوضَعوا في فضلِه أحاديثَ ليُغضِبوا الرافضةَ".
وفي معرض مجادلاته المذهبية الحادة مع العلماء الشيعة، قام شيخ الإسلام، تقي الدين ابن تيمية المتوفى عام 728هـ، في كتابه "منهاج السنّة النبوية في الرد على الشيعة القدرية" بانتقاد الكثير من الأحاديث التي أوردتها الكتب السنّية، والتي تظهر فيها بعض المناقب والفضائل الواردة بشأن علي بن أبي طالب، خوفاً من قيام الشيعة باستغلالها في سبيل إثبات مقالتهم في حق علي بالإمامة وخلافة الرسول.
وتوسع ابن تيمية في ذلك المنهج، إلى الدرجة التي حدت بالشيخ المعاصر ناصر الدين الألباني في كتابه "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، إلى التعجب من إقدام ابن تيمية على تكذيب الكثير من الأحاديث المعروفة والمتواترة عند أهل السنّة.
أما الأحاديث النبوية التي تؤكد على مركزية الإجماع كأحد الأصول الحاكمة للتنظير الأصولي والسياسي في المذهب السنّي، فقد استأثرت بالكثير من المناقشات الرافضة والمنتقدة لها عند مجموعة من الباحثين المعاصرين.
على سبيل المثال، شكك الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه "الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية"، من صحة تلك الأحاديث، مبرراً رأيه، بأنها ظهرت في مرحلة لاحقة من تأسيس المذهب السنّي، وبأن مختلقيها لفقوها لإضفاء الشرعية على نظام الحكم السنّي الذي يردّ مسألة الإمامة إلى الأمة، في مقابل النظرية الشيعية الإمامية التي ترى أن مسألة الإمامة إلهية ولا دخل للأمة بها.
أما الدكتور أحمد صبحي منصور، فقد انتقد في كتابه "المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين" مجموعة الأحاديث السياسية التي شرعنت حركة التوسع العسكري بعد وفاة الرسول، وقال: "في التشريع السنّي تم صنع أحاديث من نوعية أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله... وانتشرت تلك التشريعات الظالمة في كتب الفتوحات وكتب الفقه والخراج والنظم والأحكام السلطانية، وكانت شيئاً عادياً يعبّر عن دين أرضي قائم على الفتوحات والهيمنة والطغيان والظلم والاستبداد".
في السياق نفسه، اهتمت مجموعة من الباحثين السنّة بانتقاد النظرية السياسية السنّية الذاهبة إلى تعديل جميع الصحابة والقول بعدالتهم المُطلقة، ومن أشهرهم الباحث الفلسطيني الدكتور عدنان إبراهيم في سلسلة محاضرات بعنوان "عدالة الصحابة"، والمحقق السعودي حسن فرحان المالكي في بعض كتاباته.
رصيف 22