ماجد عاطف:
صدرت الطبعة الأولى من كتاب "هوامش الفتح العربي لمصر/ حكايات الدخول" للكاتبة سناء المصري سنة 1996، وهو كتاب يتناول دخول العرب والإسلام إلى مصر من زاوية أخرى غير تلك الشائعة والتي صوّرت العرب كملائكة لم يأتوا إلى مصر إلا لغرض نشر الدين الجديد.
يرصد الكتاب العلاقة المركبة بين المصريين والعرب ويسعى إلى إبراز الجزء المخفي من الحكاية، ولذلك أثار لغطاً كبيراً عند نشره، لما يحتويه من روايات غير مألوفة. ففي حين اعتبره جمال الغيطاني "واحداً من أهم الكتب العربية التي صدرت في السنوات الأخيرة"، وصفه الكاتب فهمي هويدي بأنه "نموذج للكتابة العبثية وغير المسؤولة للتاريخ".
وبعيداً عن الانحيازات الشخصية، يظل كتاب "هوامش الفتح العربي لمصر" مهماً واستثنائياً، ويظل مجهود سناء المصري كباحثة وشجاعتها في الطرح مقدراً.
وكان من المقرر أن يكون هذا الكتاب الجزء الأول من مشروع سناء المصري ولكن القدر لم يمهلها الوقت الكافي لتكمل الجزء الثاني منه، وكانت تنوي أن ترصد فيه كيف انصهرت الثقافتين المصرية والعربية، وكيف تحوّل دين المصريين إلى الإسلام ولغتهم إلى العربية.
ماريا القبطية... غربه حتى الموت
في هذا الفصل تتناول سناء المصري اللقاء الأول بين بيت النبوة والثقافة المصرية من خلال ماريا القبطية، الفتاة الصعيدية التي انتزعتها يد السلطة الرومانية هي وشقيقتها "سيرين" وغلام خصي يدعى "مابور" (يقال إنه شقيقهما) من قريتهم "حفن" في قلب الصعيد وحولتهم إلى جوارٍ في قصر "المقوقس" في الإسكندرية.
في تلك الأثناء، وعلى بعد آلاف الكيلومترات، كان النبي محمد يبث الدعوة الإسلامية في محيطه العربي، وبعد أن اطمأن إلى أنه أصبح الحاكم الفعلي لشمال الحجاز وتهامة قرر أن يبلغ دعوته إلى ملوك وحكام العالم المحيط بالجزيرة.
حمل رجل يدعى "حاطب بن أبي بلتعة" خطاباً من النبي إلى المقوقس، عظيم مصر، جاء فيه: "أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم القبط".
لم يستجب المقوقس بالطبع لدعوة محمد، لكن وفقاً لما رواه ابن عبد الحكم في كتاب "فتوح مصر وأخبارها"، أكرم المقوقس حامل الرسالة وحمّله هدايا للرسول عبارة عن كسوة، وبغلة وجاريتين وغلاماً (ماريا وسيرين ومابور)، وقبِلها الرسول معلقاً: "ضن الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه".
احتفظ الرسول لنفسه بماريا ووهب أختها سيرين لحسان بن ثابت. ومن اللحظه الأولى فتن محمد بها، ليس بجمالها الأخاذ فحسب، بل بما تحمله من "ثقافة أخرى وحضارة أخرى": لباسها وزينتها وحليها وعطرها... تفاصيل عدة يرويها الطبري جعلت من ماريا الأثيرة لديه، وهو ما أثار غيرة زوجاته حتى أن عائشة قالت: "ما غرت على امرأة دون ما غرت على ماريا".
ومن شدة ولع النبي بماريا، كان يدخلها بيوت زوجاته الأخريات. وورد في كتاب "أعلام النساء في الإسلام" لعمر كحالة أن الرسول اختلى بها في بيت زوجته حفصة بنت عمر بن الخطاب، فانتظرته الأخيرة حتى فرغ وداهمته قائلة: "يا رسول الله، أفي بيتي؟! وفي يومي؟!" فاسترضاها النبي قائلاً: "هي عليّ حرام، والله لا أمسها أبداً". وهنا نزلت آية: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم}.
الاختلاف الثقافي بين بيئة ماريا وبيئة محمد كان جلياً. الفتاة التي أتت من أرض الخضرة والزرع، وجدت نفسها فجأة محاطه بالرمال من كل صوب. وعلى عكس ثقافة بلادها التي تحرم ارتباط الرجل بأكثر من امرأة، وجدت نفسها واحدة من نساء رجل واحد.
ويروي الواقدي في كتاب المغازي أن الرسول قرر نقل ماريا إلى منطقة في جنوب المدينة تُعرف بالعالية وهي منطقة تشتهر بنخيلها وآبارها العذبة، و"بصعود ماريا إلى العالية ابتعدت خطوة عن جو المكائد والمؤامرات الدائرة بين زوجات النبي... واقتربت خطوة من بيئتها الطبيعية بعد أن توفرت عناصر الخضرة والزراعة في المكان الجديد الذي يسميه محمد بن سعد بـ’خرافة النخل’ من كثرة زرعه بالنسبة إلى الصحراء المحيطة".
المؤكد أن ماريا عانت من صدمة حضارية، فالفتاه التي تعوّدت على العمل ومخالطة الرجال، وجدت نفسها فجأة في عزلة، مقيَّدة الحركة وتنتظر مثل الأخريات هبوط الليل لتذهب إلى مكان قصي تقضي فيه حاجتها.
ويرى الكاتب والمؤرخ المصري جاك تاجر أن تأثير ماريا على محمد كان إيجابياً جداً، ليس بما نقلته له من ملامح الحضارة المصرية سواء في اللبس أو الأكل أو تزيين المنزل فحسب، بل لما سمعه منها عن وضع القبط ومدى الغبن الذي يعانون منه على يد الرومان، وهو ما دعاه لاحقاً لأن يوصي بأقباط مصر خيراً.
المشهد قبل الختامي في حياة ماريا كان حين أنجبت للرسول ولده الذكر الوحيد إبراهيم، وكان ذلك سبباً في عتقها وشقائها في ذات الوقت، فعلى عادة الأثرياء العرب قرر محمد إعطاء الطفل إلى مرضعة ترضعه بعيداً عن أمه، وهو سلوك معتاد في بيئته، ترحب به نساء البادية ويعتبرنه من علامات سمو قدرهنّ، بعكس الفلاحة المصرية الآتية من ثقافة زراعية تحتضن فيها الأم رضيعها.
حُرمت ماريا من ولدها، وعانت في "العالية" وحدة تضاعفت وامتزجت بحزن عميق عقب وفاة ابنها الوحيد، ثم وفاة النبي من بعده، وتحريمه عليها الزواج من بعده، لتلقى ربها في خلافة عمر وهي لم تتجاوز العقد الثالث من عمرها وتدفن في البقيع.
وقائع الفتح
كانت القبائل العربية تتباين طبقياً من حيث الثراء والمكانة تبايناً كبيراً، حتى أن عرب الشمال كانوا يتعالون على عرب الجنوب بحسبهم ونسبهم وحيازتهم للكعبه، فضلاً عن ثرائهم الناتج عن احتكارهم للتجارة في شبه الجزيرة العربية.
كانت الطبقية حاضرة منذ بداية مشهد فتح مصر. فعند تجهيز الجيش، لم ترسل القبائل الشمالية الأكثر ثراء سوى أعداداً قليلة من المقاتلين، في حين كان قوام الجيش الأساسي من الجنوبيين. ورفضت وفود القبائل الشمالية الانضمام تحت لواء قبائل أخرى (اعتبروها أدنى منهم). ووفقاً لما رواه عبد الرحمن بن عبد الحكم في كتاب "فتوح مصر" لم يجد عمرو بن العاص مفراً من الخروج من تلك الأزمة سوى بتشكيل لواء مخصص للشماليين يكون تحت قيادته مباشرة، تجنباً للمشاكل.
وانضم إلى الجيش العربي في طريقه عدد من البدو والفرس وبعض الروم المنهزمين، وفي أقصى الطرف المنسي من الصورة، في مؤخرة الجيش، كانت الجمال تحمل هوادج النساء من زوجات القادة، وكانت الثقافة العربية تستوجب أخذهم إلى المعارك، لتكون الرسالة: سنقاتل حتى الموت قبل أن تصلوا إلى نسائنا.
سار الجيش في طريق غزة - رفح - العريش - الفرما – بلبيس، ثم انطلق إلى رأس الدلتا، وأخيراً حاصر حصن بابليون وعجز عن اقتحامه، فأرسل إلى عمر بن الخطاب يطلب مدداً، فأتاه المدد بقيادة الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت. واستمرت أعمال فتح مصر ثلاثة أعوام حتى سقطت الإسكندرية عام 642 م.
وتشير الكاتبة إلى أن الفوارق الكبيرة بين القادة والجنود في الأصل القبلي وفي نوع الملابس تنبئ بأن صورة المساواة الكاملة التي وردت عدة مرات في كتب التاريخ العربي على لسان بعض الرومان، هي صورة تحتاج إلى إعادة نظر، لأنها تتناقض مع كثير من حوادث النزاع داخل الجيش العربي الناتجة عن "صراع العنجهيات القبلية"، ورغبة كل قبيلة في الاستئثار لنفسها بدرجة أعلى من الأخرى، خصوصاً قادة "قريش" الأقل عدداً والأكثر استحواذاً على المغانم. وأدى هذا الوضع إلى ثورة الجنود عدة مرات عليهم.
وتروي أن القادة من عرب الشمال وخصوصاً من قريش مارسوا نفوذهم على جنود الجنوب الفقراء النحيلين ناتئي العظام.
وتنقل عن كتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموي أنه أثناء تقسيم مدينة الفسطاط وتخصيص خطة لكل قبيلة "تنافس الناس على المواضع فولى عمرو بن العاص على الخطط معاوية بن حديج وشريك بن سمي وعمرو بن قحزم وجبريل (حيويل في مراجع أخرى) بن ناشرة المعافري، فكانوا هم الذين نزلوا القبائل وفصلوا بينهم".
وتضيف أنه ربما كان استخدام ابن العاص لرجال جنوبيين مثل معاوية بن حديج وجبريل المعافري هو نوع من الذكاء السياسي لضمان سرعة امتصاص الغضب العام وتهدئة الموقف، ومع ذلك فقد راعت تلك القيادات الجنوبية منزلة القائد العام ورجاله، فاختطت لبني سهم وقريش قريباً من نقطة الارتكاز بجوار الجامع.
وحدثت أزمة بين ابن العاص وبين الزبير بن العوام على توزيع الغنائم، حين أراد الزبير ومَن معه أن يتم تقسيم الغنائم فيئاً كما قسم رسول الله غنائم غزوة خيبر، ما يعني أن قريشاً سيكون لها خُمس أراضي مصر وخُمس مالها وخُمس سباياها، وهو ما رفضه ابن العاص حين وجد أن ذلك سيفتح باب الشقاق بين رجاله، وقرر، لأول مرة، أن يتمسك بقانون الرومان الذي يعتبر الأرض كلها وحدة واحدة، يدفع عنها المزارعون الخراج، ويتأسس ديوان عام ينظم أمر الأرض وضرائبها، وهو ما وافقه عليه عمر بن الخطاب. وأورد هذه القصه المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار".
انتهى الزهد العربي مع أولى خطوات الفتح، هذا إذا سلّمنا بوجوده أصلاً، ولم تعد الأقوال الموضوعة على لسان "المقوقس" عن زهد العربي في الدنيا ذات معنى، في ظل الأحاديث التي تُروى عن غرق القادة في مظاهر الأبهة والعظمة.
تناحر العرب على الثروة
يروي المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار" أن ابن العاص أدرك منذ بداية فتح مصر فداحة الفرق بين ملابس رجاله وملابس جيش الرومان، فحاول تغيير الصورة النمطية بأن فرض على المصريين، إلى جانب ما يدفعونه من جزية وخراج، أن يقدّموا لكل رجل من رجاله ديناراً وبرنساً وعمامة وخفين.
لم يكتف ابن العاص بذلك، بل، والحديث ما زال للمقريزي، أتاه نفر من قيادات القبط يستأذنونه العودة إلى قراهم، فسألهم "كيف رأيتم أمرنا؟" فأجابوه بحكمة المغلوب على أمره "لم نرَ إلا حسناً" فقال ابن العاص: "إذن لا حاجة لنا الآن بصنيعكم، أعطونا عشرين ألف دينار".
وفي كتابه "سير أعلام النبلاء"، يتحدث شمس الدين الذهبي عن ثروة عمرو ابن العاص التي جمعها من فترتي ولايته لمصر وكيف أنه ترك خلفه حمولة سبعين جملاً من الذهب، فضلاً عن ضيعته المعروفة بالرهط والتي ساوت ما يجاوز عشرة مليون درهم.
وبلغت ثروة ابن العاص مدى لم يكن للخليفة ابن الخطاب تجاهله، فأرسل إليه خطاباً جاء فيه: "بلغني أنك فشت فاشية من خيل وإبل، فاكتب لي من أين لك هذا؟" ليرد عليه: "إني ببلد السعر فيه رخيص، وإني أعالج من الزراعة ما يعالجه الناس، وفي رزق أمير المؤمنين سعة".
عمرو إذن لم ينفِ الثراء الذي هبط عليه بعد توليه مصر. فقط حاول أن يبرر مصدرها للخليفة، وتبريره لم يقنع ابن الخطاب فأرسل إليه محمد بن مسلمة يقاسمه أمواله مصحوباً برساله فيها: "أنتم يا معشر الولاة قعدتم على عيون الأموال فجبيتم الحرام وأكلتم الحرام"، حسبما يروي القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشا".
وبحسب المرويات التي تستعرضها الكاتبة، يُلاحَظ أن ابن الخطاب لم يكن يطالب ابن العاص بتقليل حجم الضرائب المفروضة على قبط مصر، بل كان يطالبه بزيادة الخراج والحرص على تحصيل الجزية، هو المنسوب إليه القول: "أخرب الله مصر في عمران المدينة"، ولكن على ألا يحتكر هذه الثروات لنفسه ويرسلها إلى المدينة.
لم تعجب سياسة عمرو ابن العاص أغلب العرب النازحين إلى مصر، خصوصاً بعد أن ركز السلطة ومفاتيح الثروة في يد عصبيته من بني سهم (من بطون قريش وأقاربه من جهه أبيه). ورغم أن ثلثي الجيش كانوا من أصول يمنية (أخواله) إلا أنه تجاهلهم تماماً.
وبوفاة ابن الخطاب وتولي عثمان الخلافة، ومع تزايد الشكوى من ابن العاص، قرر الخليفة الجديد وفقاً لما يرويه ابن كثير في "البداية والنهاية" تقييد دوره بإرسال عبد الله بن أبي السرح إلى مصر، مقسماً شؤون البلاد بينهما، لابن العاص الصلاة ولابن أبي السرح الحرب والخراج.
ووفق رواية أخرى، أعطيت لابن العاص الولاية على الحرب وترك الخراج لابن أبي السرح، ما أغضب الأول فأجاب الخليفة: "أنا إذن كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها"، وهي جملة تكشف نظرة العرب الفاتحين لمصر.
استمر الصراع في مصر على مستويات عدة، ولعب التمييز الطبقي الذي مارسه عرب الشمال ضد عرب الجنوب دوراً بارزاً في اشتعال الأزمات، إلى درجة أن ابن أبي السرح أرسل للخليفة عثمان يشتكي له محمد بن أبي حذيفة القرشي وكيف أنه يؤلب الجنود ضده، فما كان من ابن عفان إلا أن أرسل بـ30 ألف درهم كهدية لابن أبي حذيفة، ففاجأ الخليفة برد فعله، إذ أخذ المال ووضعه في المسجد هاتفاً: "يا معشر المسلمين ألا ترون عثمان يخادعني في ديني ويرشوني عليه".
استمرت الأمور بين شد وجذب، ولم يتوقف الصراع العربي-العربي بانتصار الأرستقراطية الأموية وحلفائها، بل احتدم مره أخرى أثناء ثورة عبد الله بن الزبير وظهور أنصار له في مصر، فما كان من الخليفة الأموي مروان ابن الحكم إلا أن أمر بضرب أعناقهم جميعاً. ويروي ابن تغري بردي في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" أن يوم المذبحة صادف يوم وفاة عبد الله بن عمرو بن العاص، وأن أحداً لم يستطع الخروج في جنازته من شدة خوف الناس في ذلك اليوم.
حال قبط مصر
اللافت للنظر في كتب التراث العربية التي تناولت أحداث الفتح العربي لمصر أنها تغفل تماماً وجود الشعب القبطي، وكأن مصر كانت أرضاً منبسطة بلا شعب حين فُتحت، وإنْ أتى ذكرهم فيأتي على استحياء في مواضع عابرة كدافعي جزية ليس إلا.
مشكلة هذه المصادر أنها تقدم وجهة نظر الفاتح العربي، الحريص على إظهار صورته المعتدلة في الحكم، وتغفل أي جوانب أخرى للحكاية. وهنا تكمن أهمية مخطوطات يوحنا النقيوسي وساويرس بن المقفع اللذين يقدّمان رواية أخرى تستحق أن تُقرأ.
1ـ يوحنا النقيوسي
هو مؤرخ قبطي عاش في أواخر القرن السابع الميلادي، ولم يكن قبطياً عادياً، بل وجهاً من أبرز وجوه الكنيسة، إذ شغل منصب أسقف مدينة نقيوس، وكان أحد أهم وأقوى الأساقفة المصريين في زمنه.
وتتكون مخطوطات يوحنا النقيوسي من 122 باباً أغلبها عن مصر وأحوالها، وظلت تلك المخطوطات مجهولة للدارسين العرب لفترة طويلة بينما كان يتم الاستشهاد بها في الدراسات الغربية، حتى قام م. هـ. زوتنبرغ بترجمتها إلى الفرنسية ومنها نقلت إلى العربية.
كتب النقيوسي عن ظلم الرومان وقسوتهم من جهة وعن ضراوة العرب وشدتهم من جهة أخرى، ولم يخفِ عداءه للجانبين.
ويذكر في مخطوطته أن أحد أهم أسباب هزيمة الرومان هي تناحر قياداتهم والتحلل الذي كانوا يعانون منه، إذ لم يكن هناك جيش بيزنطي موحد أثناء الفتح العربي، بل وحدات متفرقة بمقتضى سياسة "جستنيان" القاضية بتقطيع أوصال مصر، وكان العرب ملمين بالوضع عن طريق أدلاء من الشام.
نجح العرب في التقدم ومع كثرة الهزائم التي حلت بالرومان، وكثرة القتل والنهب التي أعملها الجيش العربي، خُلقت حالة من الذعر والفوضى. ويروي النقيوسي أن المدن التي شرعت في مقاومة العرب، كان ابن العاص يشعل النار في أسوارها وبيوتها، مثلما فعل بمدينتي دمياط وذات النهرين.
كانت القاعدة الأساسية لدى ابن العاص هي أن تدين له البلاد بالطاعة او تدمر. وأحياناً كان الجيش العربي يقتل مَن يقف في طريقه من المدنيين مثلما حدث في مدينة نقيوس التي لم يجدوا فيها محاربين، ومع ذلك قتلوا رجالها وسبوا نساءها.
لكن ابن العاص لم يكن قائداً عسكرياً فحسب، بل كان رجل سياسة بامتياز. يخبرنا النقيوسي أنه سرعان ما أدرك عمق الخلاف بين الكنيسة المصرية والكنيسة الرومانية، كما أدرك أهمية ومكانة الكنيسة في قلوب الأقباط، لذلك عمل على عودة الأنبا بنيامين ورجال الإكليروس، ومنحهم الأمان الذي نزعه عنهم الرومان. ولم يكتفِ بذلك بل قرر عدم المساس بالكنيسة أو أخذ ضرائب منها، وبذلك ضمن تعاونها معه، وقلل من خطر حشدها للقبط ضده.
الجلي هنا أن مكتسبات الكنيسة لم ترضِ النقيوسي باعتباره أحد رجالها المهمين، بالعكس ظل حريصاً على ذكر معاناة الشعب وعن اختباء أهل الإسكندرية عندما أرهقتهم الضرائب كل الناس بعد أن عدموولم يعودوا يمتلكون ما يؤدونه.
هذا وقد رسم النقيوسي في مخطوطاته بورتريهات بالكلمات لبعض القادة في زمنه مثل هرقل وقيرس وتيودور وكلهم قيادات رومانية ساعدتنا المخطوطات على فهم شخصيتهم أكثر من وجه نظر المواطن القبطي آنذاك.
2ـ ساويروس بن المقفع
بعد ما يقرب من أربعة قرون من الفتح العربي لمصر، كتب ساويرس بن المقفع، أسقف الأشمونين، كتاب "تاريخ البطاركة" وهو تجميع لسير آباء الكنيسة المصرية من مار مرقس حتى عصره.
واهتمام ساويرس لا ينصب على ذكر المواقع الحربية بقدر اهتمامه بتسجيل كل ما يخص الكنيسة القبطية ورجالها.
أبرز ابن المقفع دهاء ابن العاص السياسي بإدراكه أهمية تحييد الكنيسة القبطية ومنحها بعض الامتيازات، عكس عبد الله ابن أبي السرح الذي لم يراعِ تلك الامتيازات ولم يرفق بأحد، وقال إنه باستثناء ابن العاص ومسلمة بن مخلد فإن أغلب الحكام العرب الذين خلفوهم لم يتحلوا بأي قدر من الذكاء السياسي.
ويسترسل ساويرس في ذكر المصائب التي حلت بأقباط مصر على يد هؤلاء الولاة، وفرض ضرائب على الرهبان ورجال الكنيسة أنفسهم، حتى يصل بنا إلى ثورة القبط البشموريين على ولاة العرب وهي ثوره تفاقمت وكادت الأمور أن تخرج تماماً عن السيطره، ما استوجب حضور الخليفة العباسي المأمون بنفسه لوأدها، ونجح في تحقيق هدفه بالتعاون مع "الأنبا يوساب" الذي وافق على أن يخطب في الأقباط قائلاً: إن مَن يقاوم السلطان يقاوم حدود الله.
وقائع مشتركة بين مؤرخي القبط والعرب
لسنوات طويلة ظل صوتا النقيوسي وابن المقفع من الأصوات المهملة، نظراً لما يسجلانه من وقائع صارخة، وتفاصيل حادة عن الفتح العربي لمصر، وذلك بدعوى أنهما قبطيان متحاملان على العرب لا يصح الأخذ بشهادتهم، حتى جاء بعض الباحثين المحدثين واستدعوهم، لكن بالقدر الذي لا يخل بصورة العربي المتسامح.
المفارقة أنه بالتدقيق، نكتشف أن أصوات مثل الطبري، البلاذري، السيوطي، والمقريزي يذكرون في مواضع كثيرة ما يتفق مع سردية الصوتين القبطيين. صحيح هي إشارات عارضه، لكن اختلاف المواقع هو الذي يحدد الرئيسي والثانوي في صياغة أي قصة.
فالطبري مثلاً في كتابه "تاريخ الأمم والملوك" يذكر أن الجيش العربي الفاتح أسر أعداداً كبيرة من المصريين، حتى أن صفوف العبيد من القبط امتدت من مصر إلى المدينة، وهو الشيء نفسه الذي أكده البلاذري في كتابه "فتوح البلدان".
أما القلقشندي فيؤكد رواية النقيوسي عن احتقار العرب للمصريين في كتابه "صبح الأعشى" ويروي الخلاف الذي حدث بين الفاروق وابن العاص، بعدما سمح الأخير للقبط بالبقاء في وظائف جباية الخراج وحساب الضرائب، ما تعارض مع رغبة عمر بن الخطاب الذي أراد حصر عملهم بالزراعة فحسب، فأرسل إليه معاتباً: كيف تعزهم وقد أذلهم الله.
ويروى الطبري في كتابه "تاريخ الأمم والملوك" تقريباً نفس قصة ابن المقفع عن معاناة المصريين في حفر قناة أمير المؤمنين (من الفسطاط إلى السويس)، في عمل من أكبر أعمال السخرة الجماعية، إذ تم انتزاع 120 ألف قبطي من الأرض لتسخيرهم لشق القناة، تحت وقع سنابك خيول فرسان العرب ورماحهم.
رصيف 22