رشيد الخيون:
إنه التَّاريخ المدون، جاء مروياً بأقلام كبار المؤرخين الفقهاء، وفيه ما لا يعجب المتشددون الذين لا ينظرون وجوداً للانفراج الدِّيني، بالاستناد إلى ما في التَّاريخ مِن أخبار، فهم لا يقبلون رواية مساهمة ملك الروم في توسعة المسجد النَّبوي مثلاً، ولا الهدايا المتبادلة بين الخلافة الإسلامية ودار القياصرة.
يُكرسون الروايات التي تغذي ما بين الأديان والشعوب مِن معارك. لكن كيف، ومعلوماتهم ومعلوماتنا مستسقاة مِن التَّاريخ المدون نفسه، فلماذا يُصدق بعض ويُكذب آخر، والاثنان لها إسناد وقبول لدى المؤرخين الكبار؟! اللافت للنظر أن الأوائل ليس لديهم حرج في طرح المعلومة، عندما تكون ليست للتَّوظيف العقائدي إنما لتسجيل الحوادث، بينما يتحرج معاصرون منها، لأنهم لا يثقون بما في التَّاريخ إلا ما اتفق مع توجههم.
يصعب عدم الاعتبار لرواية يؤكدها مؤرخون مثل: ابن عمر الواقدي (ت207ه)، وابن جرير الطَّبري (ت310ه)، وابن واضح اليعقوبي (ت292ه)، ولم يتحرج ابن الأثير (ت630ه)، وابن خلدون(ت808ه)، وعبد الملك الشَّافعي (ت1111ه) مِن ذِكرها، وهؤلاء كانوا فقهاءً ومفسرين. بمعنى أن إيمانهم لم يكن مجروحاً، حسب ما كُتب عن سيرهم في معاجم الرجال.
تقول الرواية بما يؤكد أن بين الإسلام والمسيحية، الممثلة بالروم البيزنطيين، صلات وتعاون مُبكرة، ومنها في إعمار المسجد النبوي نفسه، عندما قرر الوليد بن عبد الملك (ت96ه) توسعته، بعد أن ضاق على المصلين والزَّائرين في موسم الحج، جاء في الرَّواية التي لم ينفر منها الأولون، ولم يبرزها المتأخرون: «أن الوليد بعث إلى ملك الرُّوم يعلمه أنَّه قد هدم مسجد رسول الله (للتوسعة)، فليعنه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهباً، ومائة فاعل (بنائين)، وأربعين حملاً فسيفساء (قطع ملونة من الرُّخام). فبعث الوليد بذلك كُلَّه إلى عمر (ابن عبد العزيز)، يوم كان أميراً على المدينة، فأصلح به المسجد، وفرغ مِن بنائه في سنة 90» (تاريخ الأُمم والملوك، تاريخ اليعقوبي، الكامل في التَّاريخ، ديوان المبتدأ والخبر، سبط النُّجوم العوالي...). يؤرخ لاتصال الوليد بملك الروم، لهذا الغرض، العام 87ه، وعمر بن عبد العزيز (ت101ه) كان والياً على المدينة. إنه حدث آخر، يؤكد عدم وجود الموانع مِن دخول غير المسلمين إلى المساجد، وهل هناك أشرف من المسجد النَّبوي بعد البيت الحرام عند المسلمين؟!
فما زال الفقهاء يعتبرون دخول غير المسلمين إلى مساجد المسلمين محرماً، حتى تغاضوا عن رواية زيارة وفد قساوسة نجران إلى المدينة المنورة، وصلاتهم إلى جهة المشرق بصلبانهم وحبراتهم (ابن هشام، السِّيرة النَّبوية)، والمصدر كتاب معتمد إسلامياً، لكن منهم مَن فسرها بزمنها فقط، وأن أحداثاً جاءت فنسختها، إلا أبا حنيفة (ت150ه) اعتمدها في فقهه (ابن قدامة، المغني).
على صعيد آخر مِن الصِّلات، أن السّيدة أمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وزوجة عمر بن الخطاب، والتي ولدت له زيد ورُقية، بعثت إلى مَلِكة الرّوم زوجة هرقل، عبر البريد، «بطيب ومشارب وأحفاش مِن أحفاش (وعاء الطيب) النِّساء ودسته إلى البريد فأبلغه لها وأخذ منه، وجاءت امرأة هرقل، وجمعت نساءها، وقالت: هذه هدية امرأة ملك العرب، وبنت نبيّهم (تقصد حفيدته)، وكاتبتها وكافأتها، وأهدت لها، وفي ما أهدت لها عِقد فاخر». فلمّا انتهى البريد إلى عمر خطب بالنّاس ليستشيرهم في أمر الهدية، فأشار النّاس عليه إلى أن ما حمله البريد هو لأم كلثوم، لكنه أخذ ما أُهدي لها لبيت المال، وأعطاها بقدر نفقتها (الطبريّ، تاريخ الأُمم والملوك).
ما اشتهر بين المسيحية ببلاد الغرب والإسلام ببلاد الشَّرق، أنها حروب متواصلة وكراهيات، مِن أول ظهور الإسلام وحتى وقتنا الحاضر. بطبيعة الحال، لا أحد ينفي تلك الحروب وأخبار الثغور، والكرِّ والفرِّ مِن عليها، إلى ظهور العثمانيين بقسطنطينة (1453م)، ثم استمرت هجمات الأخيرين حتى وصلوا فيينا، وقبل ذلك كانت الحروب التي اشتهرت بالصليبية.
لكن بين هذه الحروب أُقيمت هدن لفترات طويلة، وسارت وفود دبلوماسية، وبعثات ودية بين الدَّولتين كالتي استقبلتها بغداد، في عهد المقتدر العباسي (قُتل320ه)، يوم زُينت العاصمة وأظهرت فخامتها لرسل ملك الرُّوم (الصَّابي، رسوم دار الخلافة). كذلك كانت رحلة ابن فضلان (309ه) رسولاً إلى ملوك الغرب (رحلة ابن فضلان)، واشتهرت بين البعثات بعثة المتكلم الأشعري أبي بكر الباقلاني (ت402ه)، مِن قِبل البويهيين، وجاء خبرها في «تبيين كذب المفتري في ما نُسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري»، لابن عساكر (ت571ه).
غير أن ما أُرخ إسلامياً لتلك البعثات، لم يؤخذ فيها غير ختمها بالانتصار في الجدل بين رجال الديانتين، لتنتهي بإشهار الإسلام! كذلك أظهر المؤرخون المناظرين المسلمين كأنهم خارج الزَّمن، بل وليس لهم غير التحدي وهزم الآخرين في المناظرة. وهكذا أظهرت الروايات المبعوثين المسلمين، وهم في مجلس القيصر، كأنهم في حضرة جندي لا قيصر، وهو في بلاطه وبين جيوشه. مع اعتراف الرّوايات بما يقدمونه مِن تقدير لزوارهم المسلمين. هذه المفارقة تقرأها عند مناظرة الباقلاني في بلاط قيصر وغيرها.
أقول: مهما كانت الهوة كبيرة، يوجد في التاريخ ما يُعتشى به في عصرنا الحاضر، وتُبنى عليه صلات سليمة بين المسيحية والإسلام، والحال مع بقية الأديان، وإن كره الرَّافضون!
*كاتب عراقي