حسن منيمنة:
في حين تغلب على اللبنانيين المبالغة حول أهمية وطنهم ودوره الثقافي والاقتصادي في المحيط العربي، فإن للبنان بالفعل خصوصيات لا يمكن إهمالها، ومنها أنه، دون غيره في جواره، يشهد حالة سياسية سيادية مسيحية، أي مواقف سياسية من جهات وشخصيات ترغب بالتعبير عن مصلحة المسيحيين اللبنانيين من موقع الحق والقوة، لا الاستجداء أو التبعية.
ولو أن الثقافة السياسية في لبنان وجواره كانت مختلفة وقائمة بالفعل على مبدأ سيادة المواطن، لكانت هذه السمة اللبنانية موضع إدانة لا إشادة، بما هي مبنية عليه من تحفيز للوعي الفئوي.
غير أن الواقع هو أنه، لا في لبنان ولا في جواره العربي، ليس ثمة استقرار لإطار التكتل السياسي القائم على القناعات الفكرية والمصالح الموضوعية، بل إن الاصطفاف عمليا يكاد أن يكون وحسب انعكاسا للانتماءات الهوياتية، الطائفية أولا، والقومية والمناطقية والثقافية وغيرها من الفئويات.
فالركون هنا هو إلى الفائدة العرضية وحسب في تجاور السياسة السيادية المسيحية (والتي كان التعبير السلبي عنها بالمارونية السياسية) مع غيرها من السياسات السيادية الطائفية، بما ينفي إمكانية زعم أعلوية دينية جامعة، كما هو الحال في سائر السياق العربي، حيث "الإسلام دين الدولة" حتى في الأنظمة السلطوية المتمسحة بالعلمانية أو المدنية، لتتسرب إلى النظام السياسي وتفتح المجال أمام المغامرات العقائدية السياسية المتسلحة بالدين. شتان بين الدولة المحايدة (إلى حد ما) إزاء الطوائف وبين العلمانية الصادقة القائمة على علاقة بين المواطن السيد ودولته المستقلة عن التأطير الديني. ولكن موقع لبنان هذا، على قصوره، متقدم على سواه في المحيط العربي.
ليس من الإجحاف القول إن لبنان، بعد مضي قرابة قرن كامل على قيامه وعجزه في تحقيق الدولة الوطنية الفاعلة، قد فشل كتجربة حداثية. وفشله هذا ينضوي على مخاطر آنية ومستقبلية، ومنها أنه يعرّض الوجود المسيحي فيه لخطر الزوال، وصولا إلى انتفاء خصوصيته وسبب بقائه المستقل، وانهيار مكسب الحيادية الممهدة للعلمانية، إن صحّ التفاؤل. غير أن هذا الفشل ليس نهائيا، بل مقومات النجاح موجودة ضمن طيّاته، وإن كانت تنتظر من يستدعيها.
فرنسا، الدولة المنتدبة التي رعت قيام لبنان، بما هي عليه من علمانية سياسية وتعاطف تاريخي مع المسيحيين في لبنان، أرست نظاما سياسيا كان يتوقع أن يشهد الانتقال التدريجي على مدى قرابة القرن الكامل الماضي من المنطق الطائفي إلى المنطق الوطني. بل إن الرهان التأسيسي، مع توسيع الامتداد المكاني للوطن الجديد من إطار المتصرفية في جبل لبنان إلى "لبنان الكبير" بحدوده الحالية، بما أرساه تلقائيا من إضعاف متوقع للأكثرية المسيحية، كان حماية المسيحيين من الضياع السياسي في منظومة الدول الناشئة في جوار هم فيه أقلية ضئيلة عدديا من جهة، مع تمكينهم من الازدهار في فضاء وطني قابل للاستدامة ومتجاوز للتقوقع الطائفي من جهة أخرى.
ورغم الاعتراض الأولي من الزعماء والأعيان والوجهاء في الأوساط غير المسيحية، فإن إدراك الفائدة الجلية للإطار اللبناني الجديد، والمتمثلة في ترقية هذه النخب من هامشية ماضيها المباشر إلى موقع المحاوِر الأول عند رأس الهرم الوطني، دفع باتجاه "لبننة" متصاعدة، انتقل معها طرح الوحدة مع الجوار من الرغبة الصادقة إلى الشعار المرتبك، ثم إلى أداة المساومة مع النخب المسيحية للحد من جنوحها إلى الاستئثار بالسلطة وجني فوائدها، قبل أن يتلاشى مع اندثار مشاريع التوحيد الخارجية.
ومع أن التداول والتفاعل في السياسة اللبنانية كاد أن ينحصر بنخب الطوائف، ورغم أن مصلحة هذه النخب تتحقق في تعزيز الولاء "العمودي" ضمن طوائفها المختلفة، من القاعدة الشعبية إلى الزعامة، ولم تكن يوما في تشجيع التواصل "الأفقي" بين الشرائح المتماهية في كافة الطوائف، بما يخدم مشروع الدولة الوطنية، فإن الأواصر الأفقية قد تحققت وارتفعت في مراحل عدة من التاريخ اللبناني القريب، ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، لتأتي الحروب والأزمات لتستهدفها صراحة أو لتستنزفها ضمنا.
لبنان عاش بالتالي حالة انفصام سياسي. هو كان فعلا، ولا يزال اسميا، مشروع جمهورية وطنية حداثية تقوم على أساس تداول السلطة وسيادة المواطن، ولكنه في واقع الأمر يحتفظ بالبنية الإقطاعية الموروثة عن القرون الماضية، وإن بمقادير من التورية، ليبقى الأثر السياسي الداخلي حكرا على عدد من الزعماء، حيث الزعامة على الغالب تتابع وراثي ضمن الأسر النافذة، وحيث العلاقة مع القاعدة الشعبية قائمة على الزبائنية والاستزلام.
وإذا كانت هشاشة البنية السياسية الداخلية اللبنانية قد ضاعفت من التأثير الخارجي على مدى العقود، وصولا إلى نقض فعلي للسيادة والاستقلال، فإن المستجد في المرحلة الماضية المباشرة هو قيام منظومة سلطة في لبنان منفصلة عن الدولة، ولكن مخترقة لها، أي "الإيالة" التابعة للنفوذ السلطاني للولي الفقيه في طهران. بل إن هذا الجسم الثالث الطارئ يشكل تطفلا على الجدلية القائمة بين الدولة والإقطاع، ويبطل إمكانية الخروج من الضعف المصاحب للأولى والفساد الملازم للثانية، بل يزيدهما مع استتباب المحاصصة غير المتوازنة والقائمة على الإكراه.
لبنان اليوم هو دولة وطنية غير متحققة، غير قابلة للتحقق بزعم البعض، وإقطاع جديد بلغ أقصى قدرات المحاصصة في سعيه للمحافظة على قاعدته عند أدناه، وأقصى حدود التسويق الذاتي لاعتراض تراجع العلاقات الخارجية عند أعلاه، ومنظومة قاهرة عسكرية اقتصادية عقائدية تابعة علنا لقوة خارجية، حاضرة للانتفاء، ومعها كامل الوطن، بفعل حرب قادمة لا قرار لها فيها.
وإذا كان من الصعب استشفاف مخرج من هذه التركيبة المتفاقمة بذاتها والسائرة على ما يبدو إلى الكارثة، فإن المسألة الحادة في الوسط المسيحي اللبناني هو في كيفية مواجهة خطر الزوال والانتفاء مع التحقق المرتقب لتداعياتها. وتختلط في هذا المسعى الاعتبارات الآنية بتلك البعيدة المدى، بل يبدو بأن القراءة يجري تطويعها لتنسجم الرؤية مع المصلحة الآنية في أكثر من موقع. وعلى أي حال، فإن الاحتمالات المستقبلية تنطلق من صيغة طرح إشكالية الحاضر.
الصيغة الأولى هي القائلة "أن المسيحيين في خطر داهم وبحاجة إلى حماية فورية". هي المقولة التي تتهاوى إلى طرح "حلف الأقليات" انطلاقا من أن "الحماية الدولية" غير متوفرة، أو لا يمكن التعويل عليها، والدليل البين هو ما حدث لمسيحيي العراق. ولكن فيما يتعدى المفردات الخطابية لـ "حلف الأقليات"، والذي يبقى غير مصرّح به كمقولة متكاملة، فإن ما يطرح ليس صيغة تحالفية على الإطلاق، بل ترتيب على المسيحيين فيه أن يخشوا سائر الأقليات، من شيعة ودروز وعلويين، فيما هم يرتاعون من "الأكثرية" السنية في عموم المنطقة، على أن تكون قوة خارجية ما، إيران فعليا أو روسيا من باب التمني، هي الملاذ الآمن القادر على ضبط الأقليات المثيرة للخشية وعلى مواجهة الأكثرية المثيرة للارتياع. طبعا لا يجري إعداد التفاصيل الدعائية لطرح "حلف الأقليات" مع التنظيمات الجهادية القطعية، من "الدولة الإسلامية" إلى تشكيلات "القاعدة" وغيرها، غير أنه ينسجم تماما مع تصويرها وترويجها لواقع المنطقة وسعيها إلى إقناع جمهورها المستهدف بأن سمة "الآخر" هي الغدر والخيانة والتبعية للخارج. فالمستقبل القائم على "تحالف الأقليات" لن يحقق البقاء للمسيحيين، بل هو، مع تفاقم العزلة والتقوقع وارتفاع فرص الرحيل ومخاطر الترحيل، مستقبل طوارئ لإدارة النهاية.
الصيغة الثانية تعتبر أن "المسيحيين في خطر انحسار وجودي وبحاجة إلى تثبيت مواقعهم وتعزيزها". هي المقولة التي يبنى عليها طرح المناصفة الحصرية، والذي أصبح الواقع السائد عند الإقرار، بغضّ النظر عن التنفيذ، بأن الموقع المخصص لطائفة هو من نصيب الأقوى في طائفته، وتقوم عليها كذلك نظرية "لبنان ائتلاف الطوائف"، حيث كل طائفة من طوائفه تنتخب من يمثلها، أي أن المواطن ليس مواطنا في وطن، بل في طائفة، فيما الطوائف تتوزع الوطن، دون اعتبار لحجمها الرقمي. ورغم الفائدة الآنية الفورية التي يجنيها بعض الزعماء المسيحيين وأزلامهم من هذه المقولة، فإنها، بما تنتجه من تفاوت خطير بالتمثيل السياسي، تشكل تسريعا في إنهاء الوجود المسيحي في لبنان، بدلا من ضمانته.
إذ حتى إذا جاز التغاضي عمّا يؤدي إليه هذا الترتيب من تفاوت بالوزن السياسي بين المواطنين (وهو أمر حاصل للتوّ) من الناحية المبدئية، على ما في ذلك من رجعية فكرية، فإن إمكانية توظيفه، بما يستحقه، على أنه ترتيب ذمية لغير المسيحيين يستنزف الولاء الوطني الذي تحقق في الصف المسلم ويفتح الباب أمام الاستقطابات الرافضة للانتماء اللبناني، بشكل دائري تصاعدي يعيد توظيف هذا الرفض للمزيد من التصلب، المنتج بدوره لرفض مضاعف لا مفرّ من أن ينتقل من الكلام إلى الفعل العنفي.
أي أن "حلّ" الوجود المسيحي القوي القادر على تثبيت عدم المساواة لصالحه هو أيضا صبغة مستقبلية ذات أفق محدود يزداد محدودية، وكلما نجح دعاة "الحق بالأفضلية" مسيحيا بحصد المكاسب، كلما قصر عمر الوطن الجامع، وكلما اقتربت النهاية للوجود المسيحي فيه.
أما الصيغة الثالثة، والتي تبقى يتيمة سياسيا، فهي التي تعتبر أن المسيحيين كما غيرهم يعانون من تراجع مرجعية القيم العالمية وتصاعد العصبيات الفئوية، والخطر الوجودي المترتب عن هذا التراجع يطال الجميع، ولا عزاء للغالبية العظمى من المسلمين أن يأتي هذا الخطر برداء إسلامي.
والعصبيات والتشنجات الفئوية، والتي للمسيحيين في لبنان بالتأكيد حصة منها، إذ تتواجه في إشهارها العداء، تتماهى في الأساليب وتتغذى من بعضها البعض، على حساب مكاسب الحداثة والأنوار والتسامح والانفتاح والتعددية. والحليف الطبيعي للمسيحيين في لبنان والمنطقة هو الداعي والساعي إلى تحقيق التعددية وسائر القيم العالمية، بغضّ النظر عن انتمائه الاسمي أو الطائفي. أي أن "خلاص" المسيحيين ليس بالانطواء ولا بحلف أقليات تتخفى خلفه طموحات سلطانية وتوقعات آخروية، بل بحلف القيم.
لبنان، حيث يستفحل ضعف الدولة وفساد الإقطاع السياسي وتنمّر الإيالة، هو كذلك بيئة حاضنة للتواصلات الأفقية. وإذا كان واقع الحال أن غياب التاريخ المؤسساتي للتوجهات القائمة على القيم العالمية يحصر التعبير السياسي عن هذه القيم، أو عن جزء مقبول من مجموعها، بشخصيات سياسية كبيرة، مثل الرئيس الراحل فؤاد شهاب ورئيس الوزراء الشهيد رفيق الحريري، فإن مقتضى المرحلة الحالية قد يكون منع تصوير المواجهة السياسية في لبنان على أنها وحسب بين طروحات طائفية وفئوية، بل هي أيضا بين هذه الطروحات المتماقتة مجتمعة، وبين الطرح الوطني العلماني الحداثي .والذي لا يغيب عن الواقع الاجتماعي الثقافي اللبناني رغم صدق المخاوف الدافعة إلى الانطواء، وضوضاء العصبيات المحبذة له
الحرة