قبيل فترة الألفية الجديدة، نادرا ما كان موضوع الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا يحظى باهتمام لدى دارسي العلوم الاجتماعية. فالطبقة الوسطى، أو الجندر كانتا المداخل المفضلة، التي يعتمدها عدد كبير من الباحثين لفهم ما يحدث من تغيرات في هذا العالم.
مع عام 2001، لن يبقى الحال على ما هو عليه، إذ عرف هذا العام مشاركة عدد من الشباب الصغار في العمر، القادمين من بلدان شرق أوسطية، درسوا في جامعات غربية، في ما عُرِف بـ«غزوات نيويورك»، وهذا ما شكل صدمة ومفاجأة كبيرة للكثيرين. فهؤلاء الذين ظنّ الغرب أنهم ما قدموا إليه إلا للغرف من خزانة معارفه وقيمه، ها هم يقودهم رجل في أحد الكهوف، وفق وصف الغربيين، إلى مغامرة جهادية في مواجهة العالم الجديد.
وفي ظل هذه التساؤلات، سيصل بعض الباحثين ومراكز الأبحاث الغربية إلى أن هؤلاء الشباب، ما هم إلا نتاج فكر تقليدي ديني بقي يحكم عقلية المؤسسات التعليمية والاجتماعية؛ إذن فهؤلاء ضحايا أو رهائن، وقعوا في شباك مؤسسات وفكر ديني متطرف. وسيدفع هذا الاستنتاج عددا من المسؤولين الأمريكيين إلى تكرار زيارتهم لدول عربية مثل الكويت والسعودية والقاهرة، وفي جعبتهم خطط ومشاريع لإصلاح المؤسسات التعليمية والدينية.
بيد أنه في موازاة هذه الرؤية السياسية لدور الشباب ومدى إمكانية ترويض سلوكهم أو نواياهم الجهادية، فضّل عدد من السوسيولوجيين في الجامعات الغربية عدم الركون لهذه الرؤية، مقترحين تكوين صورة أخرى حول الشباب في الشرق الأوسط، بعيدة عن مقولات الراديكالية الدينية والعنف.
فسيكتب في عام 2007 السوسيولوجي الإيراني/الأمريكي آصف بيات أولى دراساته في هذا الحقل، إذ سيرى أن الشباب كمقولة تحليلية واجتماعية كان غائبا على نحو واضح من المناقشات الدائرة حول الحركة الاجتماعية. من هنا سيقترح علينا تأسيس مشروع لفهم معنى الحركة الشبابية، عبر تتبّع صور النشاطية السياسية للشباب في الشرق الأوسط.
صور بعيدة عن مقولات الراديكالية الدينية والعنف
لن تبدو هذه النشاطية، وفقا لبيات، من خلال مطالب سياسية مباشرة، بل عبر أسلوب هادئ يظهر تارة من خلال الموسيقى، وتارة أخرى عبر القمصان والسراويل وأساليب قص الشعر. هذه التمظهرات، وإن بدا آصف حذرا أحيانا في تأويلها أينما وجدت بأسلوب سياسي، كانت بشكل أو آخر تؤسس لانعطافه جديدة في تفسير عالم الشباب شرق الأوسطي وموسيقاه مثلا/ فهي أحيانا لا ترمز إلى تأثر بالثقافات الجديدة، أو حالة من الفوضوية، وإنما تعكس أيضا جزءا من مقاومة ما هو سائد.
سيطلق الباحث بيات على هذه السياسات الشبابية في دراسة أخرى له داخل شوارع القاهرة وطهران «سياسات المرح»، وهو تعبير يتقاطع مع التعبير الذي سيعتمده لاحقا الباحثان الفرنسيان لوران بونفوا ومريام كاتوس بسياسات «مأسسة الفراغ»؛ ففي ظل القمع السياسي والأيديولوجي، ستضطر الفتاة الإيرانية إلى التعبير عن آرائها من خلال أشكال الحجاب وطريقة لباسه، وهو ما سنعثر عليه أيضا في أماكن عديدة، بدءا بمولات الرياض (إميلي لورنار) مرورا بحي الشعلان في دمشق، الذي سيعرف في فترة الألفية الجديدة رموزا أخرى لمواجهة السلطة وعوالم الرقابة، تتمثل في اللباس، والانكباب على كل ما هو جديد، أو من خلال جماعات الإلتراس، وحضور مباريات كرة القدم، أو التجول في شوارع المدينة الرئيسية (لوران بونفوا).
"بعد سنوات على الثورات العربيّة، تدهور الوضع الاجتماعيّ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. اتّسعت حالات فقدان الأمان السياسيّ والاقتصاديّ والشخصيّ، بينما انخفضت مداخيل النفط وتهاوت عائدات السياحة. وعلى خلفيّة تصاعد الصّراعات المسلّحة وتفكيك هيكليّات الدولة، أُجبر كثيرون على ترك ديارهم، الأمر الذي ولّد الملايين من المشرّدين داخليّاً واللاجئين. وغالباً ما يكون الشباب هم الأكثر تضرّراً نتيجة الاضطرابات. فكيف يتعاملون مع تلك الشكوك المستمرّة، وما الذي يدفعهم إلى السعي لتحقيق أحلامهم الخاصّة رغم تلك الصعوبات؟"
ومع قدوم الربيع العربي، بدت كتابات بيات ولوران بونفوا وغيرهم وكأنها تمثل قدرات تنبؤية حول ما حدث في العالم العربي، خاصة على مستوى قراءة دور الشباب وشيفراتهم الثقافية. وهذا ما أدى في مرات عديدة إلى الوقوع في شراك تفسير الانتفاضات العربية بناء على هذه الدراسات (رغم أهميتها البالغة)، فالثورة كانت أمرا لا محيد عنه وفق هذه السردية، تعود جذورها للمظاهر الجديدة الشبابية، التي شهدتها بلدان المنطقة؛ وقد ساهمت هذه المقاربة في تعزيز سردية الشباب العربي بوصفهم قادة وأيقونة هذه الثورات (اعتبره حميد دباشي تفسيرا يهمّش من دور باقي شرائح المجتمع في هذه الانتفاضات، وهو أمر ستؤكده لاحقا بعض الدراسات حول سوريا مثلا، فعامل القرابة في درعا لعب دورا أكثر فعالية من اللجان الشبابية على صعيد الحشد).
الشباب.. خطرون!
لن تستمر صورة شباب الفيسبوك الوردية طويلا، إذ ستدفع الأحداث في مصر بعيد الانقلاب، وفي سوريا مع اندماج أعداد كبيرة من الشباب في قتال قوات نظام الأسد، ببعض المراكز البحثية، إلى الدعوة بعدم الرهان على هؤلاء الشباب وسراويلهم العلمانية.
ففي تقرير صادر عن مركز بروكنغز تحت عنوان «الإسلاموية بعد الربيع العربي: بين الدولة الإسلامية والدولة الوطنية، إعداد شادي حميد ووليام مكانتس وراشد دار 2017، يؤكد الباحثون على «أنه بعد إخفاقات الربيع العربي بات من الضروري، إعادة تقييم النشاط الشبابي بشكل أعمق، لاسيما في ضوء النظر إليهم في السابق، بوصفهم الترياق المحتمل لكل داء، بينما الواقع كان أكثر تعقيدا».
وبناء على ذلك يوصي التقرير بإعادة تقييم النظر من جديد برؤية الشباب الذين لطالما قُيِّموا في السابق بوصفهم يمثلون «التيار الإصلاحي» بينما أثبت الواقع وتجربة الربيع العربي أن هؤلاء الشباب هم أكثر هجومية و«ثورية» الآن. لن يقف الأمر عند هذا الحد، بل سيشمل أيضا عودة بعض التحليلات العتيقة إلى السطح، في سياق تفسير ما وصل إليه حال الشباب. فمع انخراط قسم كبير منهم في أتون الحرب، كان البعض يركن في تفسيره إلى فكرة أن هؤلاء يعودون في أرومتهم لأرياف مهمشة، وهي أرياف عُرِفت وفق السردية الماركسية بالتخلف والتدين المغلق، الذي ستتوفر له في ظل الحرب كل الشروط للتحول إلى تدين حربي.
اشتهاء صورة الشاب «اللامتدين»
بموازاة موجة «الشباب الخطيرين»، كانت هناك موجة أخرى تحاول رصد علاقة الشباب بالتدين، بيد أنها خلافا للرؤية السابقة التي حاولت ربطهم بـ«داعش»، بدت تحاول رصد ظاهرة الإلحاد، وفق تعبيرها، بين الشباب المحبط.
ففي ظل الانتكاسة التي عرفتها الجماعات الإسلامية، كان عدد من الشباب يغادر فضاء الإسلاميين والتدين، وغالبا ما عُبِّر عن هذا الفراق من خلال أنماط وسلوكيات لا تراعي القواعد الدينية/الاجتماعية السائدة. سنلاحظ في هذه الفترة أيضا ازدياد الدراسات واستطلاعات الرأي، التي تتناول ظاهرة التدين المرن في هذا العالم، كان آخرها التقرير الذي نشرته قناة «بي بي سي» حول نتائج استطلاع البارومتر العربي تحت عنوان «هل بدأ الشباب العربي يدير ظهره للدين؟».
تدين أقل؟ أم تدين فرداني؟
بيد أنه خلافا لمقولات تراجع الميول الدينية لدى الشباب، رفض بعض الباحثين هذه الاستنتاجات المتسرعة. فوفقا لهم، تكمن إشكالية هذه الاستطلاعات في بقائها أكثر انحيازا لمقولات إعلامية منها لتفسيرات سوسيولوجية.
من بين هؤلاء الباحثين، يمكن الإشارة مؤخرا إلى الجهد الجماعي الذي قدمه عدد من السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين أمثال آصف بيات وحسن رشيق ويورغ غرتل (جامعة لايبزيغ) ونادين سيكا وغيرهم، عبر إشرافهم على استطلاع رأي حول رؤية الشباب لعدد من القضايا بعيد ست سنوات على أحداث الربيع العربي (صدر بالألمانية عام 2017، وتُرجِم مؤخرا للعربية عن دار الساقي).
وقد اختار واضعو الدراسة، بدلا من مصطلح «سياسات المرح» التي عرفها الشباب في فترة ما قبل الربيع العربي، تعبيري «فقدان الأمن» و«غياب اليقين» كمصطلحين رئيسيين لوصف وضعهم والإحاطة به.
ينطبق فقدان الأمن على ظروف المعيشة وتوفر الموارد، في حين يرتبط غياب اليقين بكيفية تعاملهم مع المستقبل في ما يتعلق بآمالهم وأحلامهم؟ وشملت الدراسة تسعة آلاف شاب تتراوح أعمارهم بين الـ16 و30 سنة في ثماني دول عربية: البحرين، الأردن، لبنان، المغرب، فلسطين، تونس، اليمن إلى جانب اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان. ورغم أن الدراسة شملت عدة قضايا تتعلق بالجندر والقيم والنظرة للمستقبل والجوع والهجرة، فإن فصل «الدين والشباب» كان من بين أكثر الفصول لفتا للاهتمام، في ظل النتائج التي كشفت عنها استطلاعات الرأي. وقد ضمّ الاستطلاع 94 ٪ مسلمين و6٪ مسيحيين.
وردا على السؤال: ما هي درجة تدينك اليوم؟ وفق معدل يتراوح بين نقطة واحدة (لست متدينا على الإطلاق) و10 نقاط (متدين جدا)، اتضح أن الشباب في البحرين هم الأكثر تدينا، في حين كان الشباب في تونس هم الأقل.
وعموما سُجِّل ارتفاع طفيف في نسبة التدين لدى المستطلعين، مقارنة بمعدله قبل خمس سنوات، الأمر الذي فسّره معد هذا الفصل (رشيد أوعيسى/جامعة ماربورغ الألمانية) كون الجيل الأكبر سنا كان يؤمن بالأحلام التي كانت تحركها الدولة، كما أنه استفاد من الازدهار الاقتصادي الذي عرفه عدد من البلدان في الثمانينيات، في حين مُنع الجيل الأصغر سنا في يومنا من الارتقاء. وبالتالي تبدو الشعبية الحالية للدين والقيم الدينية في أوساط الشباب العربي، نوعا من البديل عن غياب فرص اجتماعية ومهنية.
الإسلام الحضري أكثر تساهلا من الإسلام الريفي
وبالعودة مرة ثانية إلى سؤال: ما هي درجة تدينك اليوم؟ نجد أن 34٪ من الشباب المشاركين في الاستطلاع صنفوا أنفسهم بـ«المتدينين جدا» و32٪ بـ«المتدينين نسبيا» ونحو 24٪ من المستطلعين هم «متدينون بعض الشيء» في حين سجل 8٪ فقط نسبة «تدين متدن». وإذا ما قارنا هذه الأرقام مع تلك التي تقيس مجموعة المتدينين نسبيا، نجد انخفاض الأرقام بالنسبة إلى الذين سجلوا تدينا متدنيا من 12٪ إلى 8٪ (خلافا لتقرير بي بي سي الأخير)، أو الذين صنفوا انفسهم بـ«المتدينين نسبيا» من 27٪ إلى 24٪. ويدل هذا على ارتفاع شامل لنسبة التدين، وربما للتطرف الديني على مدى نصف العقد المنصرم.
ما يلاحظه معدو الكتاب، هو أنه في عام 1969، كان ارنست غلنر/عالم الاجتماع الفرنسي قد صرّح في دراسته للمدن المغربية، بأن الإسلام الحضري أكثر تساهلا من الإسلام الريفي، إلا أن التحولات الاجتماعية وأنماط التنقل المختلفة التي شهدتها السنوات الاخيرة، والنزعة الهائلة نحو التحضر، غيرت على ما يبدو أنماط وكثافة التدين في الدولة العربية. ولذلك يبدو أن نمطا محافظا من الإسلام تمركز في المدن الكبرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. فقد باتت هذه الأماكن، وفقا للتقرير، مأهولة بصورة أساسية من شباب متدينين بدرجة عالية نحو 71٪، في حين نجد أن الشباب الذين يصنفون أنفسهم في خانة «التدين المتدني» أو المتدينين بعض الشيء يعيشون في المدن الصغيرة والمتوسطة الحجم.
ولكن ما أسباب ارتفاع أرقام نسب التدين؟
في هذا السياق يرى التقرير أن التدين قد يكون نوعا من رأس المال للتعويض عن تدني الفرص الاجتماعية والمهنية، التي كانت متاحة للجيل الأقدم المجهز برأسمال تعليمي. إذ يمنح الدين شعورا بالأمن والتفاؤل، ليضفي على الآفاق الاقتصادية القاتمة بعض الأمل. فمثلا نجد أن 74٪ من الشباب المتدينين جدا متفائلون بالنسبة لمستقبل أفضل، في حين أن درجة التشاؤم أكبر في أوساط الأشخاص ذوي التدين المتدني.
ولعل ما يلفت النظر أيضا، أن غالبية المتدينين جدا أيدوا نظاما سياسيا ديمقراطيا بدلا من نظام حكم مبني على الشريعة. من خلال الربط بين نتائج الدين وغياب اليقين وتفضيل نظام ديمقراطي يصل التقرير إلى نتيجة وهي، أن الدين لم يعد مشروعا اجتماعيا، أو سياسيا شاملا، أو قاعدة ليوتوبيا اجتماعية إسلامية، بل غدا ركيزة لتحقيق اليوتوبيا الفردية، التي تشكل أيضا سندا في حالات غياب اليقين التي يعيشها العالم العربي، الأمر الذي يعني تداعيا في التدين السياسي وتقدما على مستوى التدين الاجتماعي.
ووفقا للباحثين فإن هذه النتيجة قد تكون بداية لما يسميه تايلور بـ«عصر الفردانية التعبيرية» أو «نظام ما بعد الدوركهايمية».
ففي مرحلة الدوركهايمية الحديثة أصبح الانتماء الديني مسيسا بشدة، وشكل الدين قوة للتعبئة السياسية والاجتماعية، أما في مرحلة لاحقة (ما بعد دوركهايمية) أصبح الدين مسألة تعني الفرد، وأصبح التدين طريقة حياة وتعبير عن الشخصية الذاتية للفرد.. فهل هذا ما تعنيه زيادة أرقام التدين الفرداني بعيد الحرب في عالمنا العربي؟
محمد تركي الربيعو
حقوق النشر: محمد تركي الربيعو 2019