الفرقة الناجية أو أوهام الاصطفاء - مقالات
أحدث المقالات

الفرقة الناجية أو أوهام الاصطفاء

الفرقة الناجية أو أوهام الاصطفاء

محمد المحمود:

 

يتكرر منذ فجر تاريخ الإسلام وإلى اليوم مصطلح "الفرقة الناجية" في أدبيات كثير من الفرق المذهبية/ الدينية؛ مقرونا بادعاءات صريحة تؤكد امتلاك الحقيقة المطلقة على نحو احتكاري؛ يقضي ـ بالضرورة ـ على الآخرين بالزيغ والضلال؛ بل وبالهلاك في عالمي: الغيب والشهادة. وبالنظر إلى المعنى العام المُتضَمّن في هذا المصطلح الاصطفائي/ "الفرقة الناجية" نجد أنه معنى تَحيّزي احتكاري يتكرر في أدبيات الأديان السابقة على الإسلام، على نحو ما تقرره مقولاتها الأساسية، ضمنا، أو على نحو صريح؛ كما في مصطلح "الشعب المختار" الشائع عند العبرانيين.

ينص الحديث المنسوب للرسول الأعظم/ محمد ـ ص ـ على أن أمته/ المسلمين ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، كما افترقت اليهود من قبل على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة. والحديث مروي بعبارات متنوعة، لكنها ـ بمجملها ـ تجمع على هذا التقسيم العددي (71 يهود، 72 نصارى، 73 مسلمون)، وعلى هذا المعنى الاصطفائي الاحتكاري الذي يتكرر حضوره في الخطاب الديني التقليدي.

لقد أصبح هذا الحديث مَحَلَّ نزاعٍ وخصام عقائدي طويل، إذ كل فِرْقة تزعم أنها هي هذه الـ"واحدة" المستثناة من الهلاك/ من دخول النار. وطبعا، الأمر لا يتعلق بنجاة في عالم الغيب خاصة، أي باستحقاق ما ورائي؛ بل بصوابية سابقة في عالم الشهادة/ عالم الناس على هذه الأرض، وهي صوابية مطلقة، لا يمكن أن تنهض مشروعية الهيمنة المطلقة واقعيا إلا على استحقاقاتها النظرية. بمعنى أن من يستحق النجاة في الآخرة، هو المصيب شرعا/ دينا في هذا الدنيا، ومن حيث هو كذلك؛ فهو صاحب الحق المطلق في السيادة، ويجب على كل السائرين إلى الله أن يتبعوه وحده؛ لأنه ـ وحده ـ على الحق المبين الذي لا حق سواه. وفي المقابل؛ مَنْ أعرض عنه في قليل أو كثير، فهو من "الكافرين" في هذه الدينا، وفي الآخرة هو من "الهالكين".

من هنا، لا عجب أن يكون الخطاب المهووس بالتكفير والتضليل والتبديع والتفسيق هو ذاته الخطاب المهووس بأوهام احتكار الحقيقة المطلقة، وهو ذاته الخطاب الذي يُشَرْعن قتل المخالفين لمجرد الاختلاف على الآراء/ العقائد؛ لأن الأمر ـ في تصورهم ـ يبدو على هذا النحو المُبسّط: الهالك في الآخرة/ في الزمن السرمدي/ في الوجود الحق، حقيق أن يُهْلَكَ/ يُقتل في هذه الحياة/ في الزمن العابر/ في الوجود المزيف، أو على الأقل إقصاءه معنويا من الوجود، من الحضور الفاعل المشروع.

طبعا، هذا الحديث الذي يتكرر على ألسنة سدنة الأصوليات التقليدية بمناسبة وبدون مناسبة، يُعاني من إشكاليات في متنه/ نصه، فضلا عن كونه يعاني من إشكاليات في سنده/ مساره التوثيقي.

فأولا، هناك كثير من علماء الحديث لم يصححوه، بل رأوا أن طُرُقَه الإسنادية كلها ضعيفة، وأنه يَتَقَوّى بمجموع هذه الطرق على ضعفها في ذاتها. وعلماء العقائد أصلا لا يقبلون به لكونه حديثا في العقائد، والعقائد لا يُقْبَل فيها إلا الحديث المتواتر، بينما هذا الحديث لم يبلغ حَدّ التواتر. ثم إنه ـ من حيث موقف "علماء" النقل الحديثي منه ـ مثير للريب، فهو وإن رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، إلا أن البخاري ومسلم المعتمدين في أعلى درجات التوثيق عند أهل السنة المتأخرين لم يروياه في صحيحيهما، فضلا عن أن لهؤلاء "العلماء" كلاما طويلا في نقد رواته لأسباب مختلفة... إلخ الإشكاليات التوثيقية التي تطعن في ثبوته على أي حال.

هذا من ناحية التوثيق وفق تقاليد الإسناد الحديثي. أما من ناحية المتن، ونقده بمنطق العقل/ العلم، فنجد المتن يتعارض مع حقائق الواقع الصلبة؛ ما يؤكد أنه حديث لم يصدر قطعا عن النبي الأعظم ـ ص ـ. الحديث يذكر افتراق اليهود إلى 71 فرقة، ولم يُعرَف هذا العدد عن اليهود، وكذلك افتراق النصارى إلى 72، وهذا بعيد عن الصواب، ويذكر افتراق المسلمين إلى 73، وهنا يأتي السؤال: كيف يمكن ضبط العدد، ما المعيار اللاهوتي فيه، هل المقصود بهذا التقسيم عدد الفِرَق الكبرى تحديدا (وهذه عددها بعدد أصابع اليد الواحدة أو أكثر قليلا، ولا تبلغ عشرا بحال)، أم هي الفِرَق الصغرى/ الفرعية (وهي الآن، في حال المسلمين، أكثر من هذا العدد/73 بكثير، ثم هي تتناسل/ تتكاثر بمرور الأيام)؟!

زيادة على ذلك، فعبارة "كلها في النار" حكم كثير من العلماء (حتى أولئك تسامحوا مع السند المُعْتَلّ وحكموا بصحة الحديث بالمجمل)، بأنها موضوعة/ مكذوبة يقينا. ولا شك أن تجرّد النص/ الحديث من هذه العبارة ينزع طابع الاصطفاء المزعوم عن أولئك الذين يحاولون احتكار الحقيقة/ الصواب الديني؛ لأن الحديث من غيرها يصبح مجرد خبر عن افتراق/ اختلاف طبيعي يتكرر في المجتمع الإنساني كجزء من الضرورات المصاحبة لصيرورة تطوّره. بل إن الحديث من غير هذه الجملة الإقصائية يحمل تصويبا متضمنا لكل الفِرَق في نسبتها إلى الأمة التي يضيفها النبي إليه إضافة انتماء ديني، فهي "أمّتُه" الناجية بالاستجابة له، وكل الفِرَق تعود إليه/ تنجو؛ من حيث هي تعود إليها/ إلى أمته الناجية. أي الأمة بالمجمل ناجية، ومن ثم، فأجزاؤها/ فِرَقهُا كلها داخلة في هذا الحكم العام/ حكم النجاة.

ثم لو افترضنا جدلا أن هذا الحديث الإشكالي صحيح بكل عباراته (وهو لا يصح حتما)، وأن ثمة ثلاثا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فمن يستطيع تحديد هذه الفرقة الناجية؛ حتى لو استحضر المتخاصمون النص الآخر الذي يحدد معيار الفرقة الناجية بـ"ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، إذ مَن يستطيع الجزم يقينا أنه يملك درجة التطابق التام مع التجربة النبوية في إبان تشكلها الأول؟ وإذا وُجد من يزعم ذلك لنفسه ـ ادعاء ـ ويؤكد هذا الادعاء بما يراه أدلة براهين؛ فمن يحكم له بصحة زعمه؛ إذ لا يجوز أن يحكم لنفسه بنفسه، لا يجوز أن يكون مُدّعيا وقاضيا في آن واحد.

إن النكهة السياسية المذهبية ظاهرة في صياغة هذا النص. فهو نص ظهر وشاع في الوقت الذي كانت الغنائم الدنيوية/ الأنصبة المادية تُؤخذ بصكوك المشروعية الدينية التي تمنح الحراك السياسي/ الاجتماعي إمكانية الحشد والاصطفاف كآلية لتحقيق الغلبة على أرض الواقع. إنه نص يُدين الآخرين، كل الآخرين، يحكم عليهم بالهلاك الأخروي الأبدي (الذي يمنح المشروعية لنفيهم في هذه الحياة، أو على الأقل يُمَهّد له)، بينما يمنح الـ"أنا" الصواب الكامل الضامن للنجاة في الآخرة على مستوى التصور العقدي، وهو التصور الدوغمائي الذي يشعرهم بأن لهم وحدهم شرعية الحضور كأصحاب حق وحقيقة، كخلفاء لله على هذه الأرض، كمُهَيمنين شرعيين، وكشهداء على الناس!

وإذا كانت كل الفِرَق الدينية/ المذهبية عبر التاريخ الإسلامي كافحت لترسيخ هذه الأوهام الاصطفائية عند أتباعها، وأنها ألحّت ـ بدرجات متفاوتة ـ على مركزية ذاتها كمعيار للصواب الديني، وبالتالي؛ كمعيار لتأسيس شرعية الحضور في الواقع المتعين، فإن هذا الإلحاح المتواصل والمتكرر من جميع الفرقاء على هذا المعنى الاصطفائي، حوّل هذا التصور العقدي الدوغمائي إلى "نمط تفكير" ينتظم كل مناحي الحياة، أي يتجاوز المجال الديني صراحة؛ ليصل إلى مستويات التحكم اللاواعي بمجمل تصورات الأنا عن الآخر، كل آخر، في كل المستويات، وفي كل سياق.

إذن، مفهوم الفرقة الناجية أخطر مما نظن؛ لكونه يتجاوز ـ بالضرورة ـ سياقاته الأصلية في عملية التمركز الديني/ المذهبي، فهو بفعله وتفاعله مع الواقع على نحو متواصل عبر حقب التاريخ الإسلامي المتطاولة، وبالإلحاح حدّ الهوس على تأكيده نظريا، كان يتحوّل تدريجيا من مجاله الديني الخاص الذي يفترض أنه يتحدد فيه؛ ليُشَكّل ذِهنية اصطفاء عامة/ شاملة، ذهنية اصطفاء ذات طابع احتكاري نرى تمظهراتها في كل مستويات/ دوائر التحيّز: في الذات، وفي القبيلة، وفي القرية أو المدينة، وفي المنطقة، وفي الوطن القُطْري، وفي القومية، وفي الإقليم الجغرافي، وفي المذهب، وفي الدين، وفي الحقل العلمي التخصصي، وفي التيار/ المذهب الفكري، بل وحتى في النادي الرياضي، فأنا كذات متفردة بالصواب أُمَثّل الفرقة الناجية من بين الأفراد الآخرين، وفي القبيلة تبدو قبيلتي هي الفرقة الناجية من بين القبائل، وفي المذهب أطرح مذهبي بوصفه الفرقة الناجية من بين المذاهب...إلخ، حتى ليصبح ذوقي الخاص بالطعام أو في اللباس أو المسكن هو معيار الصواب/ الذائقة الأرقى في هذا المجال.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*