ميرفت عوف:
يمرح مجموع من الأطفال في ساحة مدرسة، يرتدون قمصان بيضاء وسراويل سوداء ويضعون قبعة صغيرة على منتصف رأسهم، وبعضهم تدلت من رأسه خصلات من الشعر المقصوع، كان جزء منهم يستمع لأناشيد يهودية، وآخرون يدرسون مواد تعليمية باللغة العبرية. هذه مدرسة «نيفي شالوم» المدرسة اليهودية في الدار البيضاء المغربية، فهنا أطفال اليهود المغاربة الذين يقطن 2000 منهم بالدار البيضاء وحدها، بينما يعيش في المغرب ككل 5 آلاف يهودي، إذ ما يزال يهود المغرب يمثلون أكبر طائفة يهودية في شمال أفريقيا.
وقد عاد الاهتمام بالحديث عن اليهود المغاربة مع الخطوات الملكية الأخيرة التي اتخذها المغرب لتعزيز وضعهم كأقلية دينية، بدءًا بقرار إنشاء متحف للثقافة اليهودية المغربية في مدينة فاس، وليس انتهاءً بقرار إجراء انتخابات الهيئات التمثيلية للجماعات اليهودية المغربية المتخذ قبل يومين.
بأمر ملكي.. اليهود المغاربة يعودون لانتخاب ممثليهم
«إن أمير المؤمنين الملك محمد السادس أعطى تعليماته السامية لوزير الداخلية قصد تنظيم انتخابات الهيئات التمثيلية للجماعات اليهودية المغربية، التي لم تجر منذ سنة 1969»، كان هذا جزءًا مما جاء في البلاغ الرسمي لوزارة الداخلية المغربية والصادر في 19 من أبريل (نيسان) 2019. فبعد نحو 50 عامًا مضت على آخر انتخابات جرت في صفوف الهيئات التمثيلية للجماعات اليهودية المغربية، صدر أمر ملكي بالعودة لتنظيم هذه الانتخابات التي تعنى بأوضاع فقراء وأوقاف اليهود بشكل دوري، وتعمل على الدفاع عن مصالحهم في المؤسسات الحكومية في المغرب.
ويعود تاريخ انتخابات الهيئات اليهودية في المغرب إلى السابع من مايو (أيار) عام 1945، حين أصدر الملك المغربي، محمد الخامس قانونًا لتنظيم لجان الجماعات اليهودية، وهو القانون الذي جاء إثر اجتياز اليهود المغاربة فترة صعبة في الحرب العالمية الثانية، إذ فرض الاحتلال الفرنسي للمغرب في سنة 1940 قانونًا يمنع اليهود المغاربة من العمل في الوظائف العمومية ثم أصدر قانونًا آخر يمنعهم من ممارسة المهن الحرة.
وردًا على ذلك، عارض الملك المغربي محمد الخامس هذه القوانين، حتى سنحت له فرصة إلغائها مع الإنزال الأمريكي في سواحل المغرب سنة 1942 ثم قام في السابع من مايو (أيار) 1945، بإصدار قانون إعادة هيكلة وإصلاح لجان الطوائف اليهودية بالمغرب.
يؤكد الباحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية، والكاتب المتخصص في العلاقات الدولية خالد يايموت أن هذه المبادرة الرسمية تأتي تعزيزًا لاستقلالية اليهود المغاربة، وتابع القول: «ضمانًا لتوعية تحركاتهم، ذلك أن الطابع المؤسساتي يجعل من حركة اليهود المغاربة أكثر مغربية من الوضع الحالي والذي يتسم بالضبابية واشتغال بعض الأشخاص المغاربة بطريقة تتعارض والسياسة الرسمية المغربية»، ويؤكد خلال حديثه لـ«ساسة بوست» أن «ترسيم المؤسسات هي عودة إلى تقليد مغربي قديم لكنه الآن مطلوب من جهة الدولة المغربية مراعاة للشفافية والعمل القانوني للمؤسسات الذي لا يناقض المصالح والتوجهات الرسمية المغربية».
وقد كان قرابة 300 ألف يهودي يعيشون في المغرب قبل قيام إسرائيل، مما جعلهم أكبر جالية يهودية في العالم الإسلامي، إذ يعود وجودهم لأكثر من ألفي عام عززته موجات من اللاجئين وخصوصًا من الأندلس بعد سيطرة الكاثوليك على إسبانيا أواخر القرن الخامس عشر، أما الآن ففي المغرب التي يسجل فيها المسلمون أكثر من 99%، يظهر من أرقام الطائفة اليهودية، أن عدد اليهود في المغرب يتراوح ما بين 4-5 آلاف يهودي، بينما يبلغ عدد اليهود من أصل مغربي المنتشرين في العالم حوالي مليون شخص.
«أمير المؤمنين لجميع الديانات»
لم تكن الخطوة المغربية تجاه اليهود المغاربة مقتصرة فقط على قرار إجراء انتخابات الهيئات التمثيلية للجماعات اليهودية المغربية آنف الذكر، فقبل أسبوع واحد عين المغرب الحاخام المثير للجدل والذي سجن في إسرائيل بتهمة الفساد المالي يوشياهو بينتو كحاخام أكبر ليهود البلاد.
كما أمر الملك المغربي أيضًا مؤخرًا بإنشاء متحف للثقافة اليهودية المغربية في مدينة فاس، إذ سيقام مبنى المتحف الجديد للثقافة العبرية المغربية على مساحة 1667 مترًا مربعًا بحي فاس الجديد، وكذلك أمر المغرب بصيانة مقابر اليهود، وخصص ميزانية تبلغ عشرات آلاف الدولارات من أجل ذلك.
ويرى بعض المراقبين أن تلك الخطوات تأتي في إطار تعزيز المغرب لوضع الأقليات فيها، فوفق معهد «بيو» الأمريكي، ارتفع معدل التضييق على حرية التدين بالمغرب من 4.9 من أصل 10 خلال عام 2007 ليصل إلى 7.5 خلال عام 2015، وقد أكد الملك المغربي على تبنيه سياسة الحريات الدينية، إذ قال أمام البابا فرنشيسكو الذي زار المغرب مؤخرًا: «لا يمكنني الحديث عن أرض الإسلام، وكأنه لا وجود هنا غير المسلمين. فأنا الضامن لحرية ممارسة الديانات السماوية. وأنا المؤتمن على حماية اليهود المغاربة، والمسيحيين القادمين من الدول الأخرى، الذين يعيشون في المغرب».
يقول الباحث المغربي في شؤون الحركات الإسلامية وعلم مقارنة الأديان إدريس الكنبوري أن قرار إجراء انتخابات الهيئات التمثيلية للجماعات اليهودية المغربية يدخل في إطار تفعيل أمور الأقلية اليهودية بالمغرب، فالدولة المغربية تريد توجيه رسالة بأنها تضمن حقوق الأقليات الدينية، إذ اتجه المغرب منذ مؤتمر مراكش الخاص بالأقليات الدينية قبل عامين لوجهة جديدة في موضوع الأقليات.
مضيفًا: «الملك باعتبار صفته الدستورية كأمير للمؤمنين يؤكد بذلك أنه مسؤول عن الشؤون المرتبطة بجميع أتباع الأديان الموجودة في المغرب، وسبق له أن صرح العام الماضي في زيارته لمدغشقر أنه أمير المؤمنين لجميع الديانات داخل المغرب». ويشير الكنبوري إلى أن الدستور الجديد لعام 2011 يعترف بالثقافة العبرية كمكون للهوية المغربية المتعددة وبالتالي ما يتم مطابق للوثيقة الدستورية.
«نعم لحقوق اليهود.. لا للتدخل الإسرائيلي»
«الدولة المغربية ما زالت تضع حواجز عندما يتعلق الأمر بالإصلاحات القانونية المتعلقة بالأقليات، نعاني من القمع والمضايقة، بعض وسائل الإعلام أشارت إلى الحاضرين باسم الملحدين والمثليين»، تصريحات نقلتها صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» عن منسق لجنة الأقليات الدينية المغربية جواد الحميدي. ولا تترك إسرائيل يهود المغرب في حالهم، لذلك ضمتهم في يناير (كانون الثاني) الماضي، إلى قائمة دول عربية ادعت أنها طردت اليهود من أراضيهم واستولت على ممتلكاتهم وطالبت بتعويضات لهم.
وردًا على ذلك صفع يهود المغرب إسرائيل حين طالبوها بـ«الكف عن الترويج للأكاذيب»، وطالبوها بحذف المغرب من قائمة البلدان التي تقول تل أبيب إنها «طردت اليهود واستولت على ممتلكاتهم»، وفي ذات الوقت أكد يهود المغرب في خطاب موجه إلى الإسرائيليين أن «اليهود المغاربة لطالما كان مرحبًا بهم في المملكة، وأن مئات الآلاف من الإسرائيليين زاروا المغرب بالفعل كسياح، واستقبلوا بالدفء والضيافة».
ويؤكد رئيس الاتحاد العالمي لليهود المغاربة، راسل سام بنشريتي أن «المغرب لم يطرد اليهود من بلادهم ولم يستولِ أبدا على ممتلكاتهم، بل إن حوالي 300 ألف يهودي غادروا البلاد عام 1960 وتركوا وراءهم آلاف الأماكن، مثل المعابد والمقابر وأرشيفا مهمّا، وتعمل السلطات المغربية إلى حد اليوم على حماية ذلك على حسابها».
أما المستشار اليهودي للملك محمد السادس كوهين، فيؤكد على «أن الموساد لا يزال نشطًا جدًا في المغرب، فهناك شيء ما يحدث في الوقت الحالي، وهو أمر غير معروف تمامًا ، لكنه بدأ، حيث يعمل الموساد بنشاط في المناطق الأمازيغية»، كما سبق وأن قال كوهين في محاضرة تحت عنوان «الهولوكوست والأجندة الصهيونية» أن «الأجندة العبقرية الشريرة للصهيونية تسعى إلى هزيمة اليهود وإظهار أن أحدًا لم يعان أكثر منهم، فالمحرقة ديانة جديدة تربى عليها الصهاينة لتبرير احتلال فلسطين».
وفيما يتعلق بعلاقة إسرائيل بيهود المغرب يقول الباحث المغربي في شؤون الحركات الإسلامية وعلم مقارنة الأديان إدريس الكنبوري أنه برغم ازدواجية الولاء إلا أن يهود المغرب لديهم علاقة خاصة بالمغرب لسببين رئيسين، الأول أن المغرب هو من استقبل أجدادهم المطرودين من إسبانيا في القرن الخامس عشر والسادس عشر وقام بإدماجهم، والسبب الثاني رفض الملك محمد الخامس في الحرب العالمية الثانية تسليمهم إلى حكومة فيشي النازية في فرنسا لتسلمهم بدورها إلى ألمانيا، فقد اعتبر الملك المغربي آنذاك أن اليهود هم رعايا مغاربة، وعقب الكنبوري بالقول لـ«ساسة بوست»: «اليوم نحن نلاحظ أن يهود المغرب يرفعون البيعة إلى الملك في المناسبات الدينية والوطنية كعربون على هذه الخبرة التاريخية».
وفيما يتعلق بعلاقة التحركات الملكية الأخيرة بالاستهداف الاسرائيلي يوضح الكنبوري: «المغرب ظل دائمًا يرفض تدخل إسرائيل في شؤون اليهود المغاربة، تنظيم هذه الانتخابات للطائفة اليهودية له دلالة في هذا السياق. وهو أن التنظيم الداخلي لها شأن مغربي خاص».