عمران سلمان:
ما تقوم به الحكومة الفرنسية هذه الأيام من جهود لتنظيم الوجود الإسلامي في البلاد، والذي كان دافعه المباشر هو الضرورات الأمنية، قد ينتج عنه سياق يساعد المسلمين، في أوروبا تحديدا، وربما خارجها أيضا على ولوج عملية الإصلاح الديني الذي طال انتظاره.
المتأمل في "ميثاق/شرعة المبادئ،" الذي يأتي ضمن مشروع قانون "مبادئ تعزيز احترام قيم الجمهورية"، والذي وقعه "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" رسمياً، يوم الأحد الماضي (17 يناير 2021) سوف يجد أساسا لمثل هذا التفاؤل.
تنص الشرعة خصوصًا على "مبدأ المساواة بين الرجال والنساء"، و"توافق الشريعة الإسلامية مع مبادئ الجمهورية الفرنسية"، وتشدّد على "رفض توظيف الإسلام لغايات سياسية"، فضلًا عن ضرورة "عدم تدخل" دول أجنبية في شؤون الجالية المسلمة. كما تنص على حرية الدين والمعتقد ورفض جميع أشكال العنصرية والتمييز وكراهية الآخرين.
ثلاث من المنظمات التسع التي يتشكل منها المجلس عادت (بعد توقيع المجلس) وأعلنت اعتراضها على بعض البنود في الميثاق. اثنتان منها تابعتان لتركيا وهي "اللجنة التنسيقية للمسلمين الأتراك في فرنسا"، و"الاتحاد الإسلامي مللي غوروش في فرنسا"، وثالثة تدعى حركة " إيمان وممارسة" وهي أحد فروع "جماعة التبليغ" العالمية، وتشرف على عدد من المساجد في منطقة باريس. ومعظم قياداتها من الجزائريين.
اعتراض المنظمات الثلاث تركز في مسألتين، هما تعريف "التدخل الأجنبي" وتعريف الإسلام السياسي أو تسييس الدين. والاعتراض هنا مفهوم بطبيعة الحال، لأن المسألة الأولى تقطع عن هذه المنظمات الدعم الأجنبي، والثانية تجرد هذه المنظمات من قدرتها على ترويج الإيديولوجيا الإسلامية. أي حرمانها من القدرة على تحقيق مكاسب سياسية باسم الدين. وربما أوعزت الحكومة التركية للمنظمتين برفض الميثاق، لأنه يضعف من سيطرتها وتأثيرها على المسلمين في فرنسا.
من المهم أن نذكر هنا أن هذه التغييرات جاءت كفرصة تقدمها الدولة الفرنسية للمؤسسات الإسلامية لتكييف نشاطها وخطابها مع القوانين المحلية والدستور الفرنسي.
وكان الرئيس إيمانويل ماكرون قد طلب في منتصف نوفمبر الماضي من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية صوغ الميثاق المذكور. كما طلب منه توضيح بعض "الالتباسات" وإنهاء نشاط 300 إمام أجنبي أرسلتهم تركيا والمغرب والجزائر خلال أربعة أعوام. ونبّه ماكرون إلى أنه في حال لم يوقع البعض الميثاق، فإنه سوف يكون هناك عواقب لذلك.
البعض يرى بأن صبر الدولة الفرنسية على الجمعيات الإسلامية كان طويلا، لكنه نفد بعد ذبح مدرس التاريخ صامويل باتي في 16 أكتوبر الماضي، قرب باريس، والهجوم الإرهابي بعد ذلك بأسبوعين على كنيسة في نيس، والذي أوقع ثلاثة قتلى.
فيما يرى آخرون بأن الأسلوب الذي لجأت إليه الدولة الفرنسية وهو الضغط والإجبار كان هو الطريق الوحيد لجعل المؤسسات الإسلامية تلتزم بعملية الإصلاح. فلو بادرت هذه المؤسسات من تلقاء نفسها إلى تطوير فهمها للإسلام بما ينسجم مع قيم العصر والقوانين الفرنسية، وامتنعت عن تسييس الدين وحدت من نفوذ وتأثير الدول الأجنبية عليها، لما اضطرت الحكومة الفرنسية للتدخل. أما وأنها قد تقاعست عن ذلك واستغل بعضها القوانين والتشريعات القائمة لأغراض التكسب والتمدد السياسي فلا يجب أن تلوم سوى نفسها.
الأمر المهم هنا هو المواد الواردة في الميثاق. وهي مبدأ المساواة بين الرجال والنساء، وتوافق الشريعة الإسلامية مع قانون الجمهورية الفرنسية، ورفض توظيف الإسلام لغايات سياسية والتركيز على الحرية الدينية.
الواقع أن هذه هي المبادئ هي نفسها التي يطالب بها الإصلاحيون والمتنورون في العالم العربي والإسلامي. وهي مبادئ معترف بها في معظم دول العالم، وإن كان تطبيقها يتم بشكل أو بآخر. لكن لا أتصور أن شخصا طبيعيا يعيش في هذا العصر يؤيد التمييز بين الرجال والنساء أو يقبل بتحويل الدين إلى منصة سياسية أو يرهن الشأن العام إلى نصوص دينية، عوضا عن الاحتكام إلى الدستور والقوانين المدنية.
هذه المبادئ وهي جزء من تلك التي يحتويها الإعلام العالمي لحقوق الإنسان، هي الأساس الذي تقوم عليه الحضارة البشرية اليوم. أما أولئك الذين يناهضونها فهم يسعون إلى إعادة البشرية إلى أوضاع ووقائع تجاوزها الزمن وتجاوزتها التجربة والخبرة البشرية نفسها.
لذلك فإن ما يجري في فرنسا حاليا يمكن فهمه على أنه يستهدف هؤلاء تحديدا وليس الإسلام. أي أنه يستهدف أولئك الذين يوظفون الإسلام وينقلونه من حيز الإيمان الديني والعبادات والشعائر، إلى حيز العمل السياسي والحزبي والهادف إلى إقامة شمولية دينية، ممن باتوا يعرفون اليوم بجماعات الإسلام السياسي مثل الإخوان المسلمين وداعميهم ومموليهم في منطقة الشرق الأوسط.
لذلك فإن فرنسا في الواقع تقدم خدمة جليلة للمسلمين الفرنسيين وحتى للمسلمين في العالمين العربي والإسلامي، إذ هي تنزع السموم من أنياب هذا الوحش الذي بات يدمر البلدان والمجتمعات أينما ارتحل.