محمد يسري:
تحظى شخصية أبي هريرة بمكانة مُعتبرة عند أهل السنّة، إذ ينظرون إليه على أنه واحد من الصحابة الذين ساهموا في نقل الكثير من السنن النبوية إلى الأجيال اللاحقة من المسلمين.
في الوقت ذاته، حظيت شخصية أبي هريرة بحضور مهم على الصعيد السياسي، إذ عُرف صاحبها بموالاته السياسية للأمويين، إلى درجة حدت بالعديد من الباحثين إلى توجيه سهام الشك والارتياب إلى مروياته.
عند السنّة... مجهول الاسم وراوي أكثر الأحاديث
وردت سيرة أبي هريرة في العديد من المصادر التاريخية والحديثية المعتبرة عند أهل السنّة والجماعة، ومنها على سبيل المثال صحيحا البخاري ومسلم، مسند أحمد بن حنبل، "الطبقات الكبرى" لابن سعد، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر العسقلاني.
تتفق هذه المصادر على أن أصول أبي هريرة ترجع إلى قبيلة دوس اليمنية، وعلى أنه قدم إلى الرسول ليعلن إسلامه بعد غزوة خيبر، في العام السابع للهجرة.
ولكنها تختلف في تحديد اسم أبي هريرة، ويورد ابن حجر في "الإصابة" ما يزيد عن العشرين قولاً في ذلك. وبحسب الرأي الأكثر ترجيحاً، فإن الرسول غيّر اسمه بعد إسلامه، فسماه بعبد الرحمن أو بعبد الله، أما كنيته "أبو هريرة"، فقد كانت بسبب عطفه على القطط واقتنائها.
وهنالك اختلاف على تحديد الفترة التي قضاها أبو هريرة بصحبة الرسول. يذكر هو نفسه، بحسب ما ورد في صحيح البخاري، أنه مكث بصحبة النبي لمدة ثلاث سنوات، في حين تذكر بعض الروايات التاريخية أنه مكث معه أربع سنوات.
في كتابه "شيخ المضيرة"، يشكك الباحث محمود أبو رية في صحة تلك الأقوال، ويذهب إلى أن مدة مرافقة أبي هريرة للنبي كانت أقل من سنتين، واعتمد في ذلك على أن الرسول أرسله إلى البحرين بصحبة العلاء بن الحضرمي، في شهر ذي القعدة من العام الثامن للهجرة، وظل مقيماً فيها حتى وفاة الرسول عام 11هـ.
يُعتبر أبو هريرة واحداً من أكثر الصحابة روايةً للحديث النبوي. يذكر الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" أن عدد الأحاديث المروية عنه تجاوزت الخمسة آلاف حديث، منها 517 حديثاً وردت في صحيحي البخاري ومسلم.
التساؤل حول سبب زيادة عدد الأحاديث المروية عن أبي هريرة كان حاضراً في معظم حقبات التاريخ الإسلامي، وهنالك إجابة عليه منقولة عنه شخصياً، ذكرها البخاري في صحيحه، قال فيها إنه كان ملازماً للرسول معظم الوقت، بينما كان أغلب المسلمين منشغلين بتجارتهم وبأشغالهم.
أحد التبريرات الإعجازية التي لجأ إليها العقل السنّي لتفسير كثرة مرويات أبي هريرة، ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، من أنه اشتكى للرسول من خوفه من نسيانه للحديث، فقال له الرسول "ابسط ثوبك"، فبسطه، ثم حدثه الرسول طوال النهار، وبعدها ضم ثوبه إلى بطنه "فما نسي شيئاً قط مما حدثه به الرسول".
ويذكر ابن قتيبة، في "تأويل مختلف الحديث"، أن العديد من الصحابة وجّهوا سهام شكوكهم إلى بعض مرويات أبي هريرة، منهم عمر وعلي وعائشة والزبير وعبد الله بن مسعود.
في العقل الشيعي... كذّاب أدخل الإسرائيليات إلى الإسلام
يتهم الشيعة الإمامية أبا هريرة بالكذب، وبمعاداة آل البيت خاصةً أنه كان مؤيداً لبني أمية. يذكر كل من محمد بن جرير الطبري الشيعي في "المسترشد"، والمجلسي في "بحار الأنوار"، أن علي بن أبي طالب وصف أبا هريرة بأنه "أكذب الناس على رسول الله". وأورد الشيخ الصدوق في "الخصال" أن الإمام جعفر الصادق عدّ أبا هريرة واحداً من بين أكبر ثلاثة كذابين على الرسول.
ومن بين التهم التي وجهها الشيعة إلى أبي هريرة ما ذكره شرف الدين الموسوي في كتابه "أبو هريرة". قال: "إن أحاديث أبي هريرة هي التي فتحت باب القول بعدم عصمة الأنبياء"، وهو الأمر الذي ينال بالتبعية من صفة العصمة التي وصف بها الشيعة أئمتهم، وذلك لأن الإمام بحسب المذهب الشيعي الإمامي معصوم من الزلل والخطايا والذنوب، مثله في ذلك مثل النبي، فكان التشكيك في عصمة النبي، من شأنه أن ينفي صفة العصمة عن الأئمة.
نُقل عن أبي هريرة قوله: "الصلاة خلف علي أتم، وسماط معاوية أدسم، وترك القتال أسلم".
في المخيال الصوفي... صاحب الدليل الأهم عن العلم اللدني
يحظى أبو هريرة بمكانة مهمة في المخيال الصوفي الجمعي، وذلك لمجموعة من الأسباب المتضافرة، أولها أنه كان واحداً من أهل الصُفة، وهم مجموعة من فقراء الصحابة الذين اعتاد الصوفية على الاقتداء بهم.
السبب الثاني هو الحديث الذي أورده البخاري في صحيحه، والذي يذكر فيه عن لسان أبي هريرة: "حفظت من رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته، قُطع مني هذا البلعوم".
في كتابه "فتح الباري"، يحاول ابن حجر أن يفسر هذا الحديث، فيقول معلقاً عليه: "يُحتمل أن يكون أراد من الصنف المذكور ما يتعلق بأشراط الساعة، وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان".
هذا التفسير يرفضه الصوفية. يذكر نجم الدين كبري في كتابه "التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي" أن المقصود بذلك الصنف من العلم، العلم اللدني، وهو من "العلوم المتشابهة المعنون عنها بالتوحيد الخاص". أما الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، فيصف ذلك النوع من العلم في كتابه "الفتوحات المكية" بأنه "العلم النبوي الموروث".
من هنا، دأب علماء الصوفية على الربط بين العلم اللدني من جهة، وبين حديث أبي هريرة من جهة أخرى، واستعانوا بهذا الحديث للتأكيد على أن هنالك علوماً باطنية لا يستطيع أهل الظاهر استيعابها، وهي عصية على أفهام عموم الناس، ولو أذيعت أمامهم لاتُّهم قائلوها بالكفر. ولذلك، جرى الاستشهاد بحديث أبي هريرة في مواضع عدّة من كتابات كبار أعلام الصوفية من أمثال ابن عربي، ابن سبعين، والسهروردي.
أبو هريرة والبراغماتية السياسية
يذهب كثيرون من الباحثين الذين تناولوا شخصية أبي هريرة في مؤلفاتهم إلى أنه كان نموذجاً معبّراً عن البراغماتية السياسية في أوضح صورها، وأنه كان دائماً ما يوالي الجهة التي تغدق عليه الأموال والهدايا.
الولاء السياسي الأكثر اتضاحاً في سيرة أبي هريرة، يظهر في المرحلة التي أعقبت مقتل عمر بن الخطاب، واعتلاء عثمان بن عفان كرسي الخلافة. وجد في الخليفة الجديد مصدراً للثراء والسلطة، ومن ثم فقد دافع عنه بمروياته التي صبغها بالصبغة النبوية.
من تلك المرويات ما أورده أحمد بن حنبل في مسنده، من أن أبا هريرة سمع من الرسول أن المسلمين سيلقون من بعده فتنة واختلاف، فلما سأله عمَّن ينحازون إليه وقتها، قال له "عليكم بالأمير وأصحابه" وأشار وقتها إلى عثمان.
في موقف آخر يذكره السيوطي في كتابه "الخصائص الكبرى"، امتدح أبو هريرة عثمان، بعدما كتب المصاحف، وذكر له أنه سمع من الرسول "إن أشد أمتي حباً لي، قوم يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، يعملون بما في الورق المعلق"، فلما سمع منه عثمان ذلك، فرح وأمر له بعشرة آلاف درهم، وكان هذا الحديث سبباً في تقليل الضغط على الخليفة حينذاك، خصوصاً وأن كثيرين من الصحابة عارضوه في أمر تدوين المصحف.
بعد مقتل عثمان، انتقل أبو هريرة إلى تأييد معاوية بن أبي سفيان، فناصره في دعوته للثأر من قتلة عثمان، وروى بعض الأحاديث التي تُعلي من مكانته الدينية، ومن ذلك ما ورد في كتاب "الشريعة" للآجري، من أن الرسول أعطى سهماً لمعاوية في بعض الغزوات، وقال له: "يا معاوية خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة".
وكان أبو هريرة ينتهز كل فرصة مؤاتية لمدح معاوية، ومن ذلك أنه لما شاهد عائشة بنت طلحة، وكانت معروفة بحسنها وجمالها، قال لها: "سبحان الله! ما أحسن ما غذاك أهلك! والله ما رأيت وجهاً أحسن منك، إلا وجه معاوية على منبر رسول الله"، بحسب ما يذكر ابن عبد ربه في كتابه "العقد الفريد".
ومن العبارات المهمة التي تذكرها كتب التاريخ عن أبي هريرة، وتعبّر عن مذهبه السياسي بوضوح، ما ذكره ابن العماد الحنبلي في كتابه "شذرات الذهب في أخبار من ذهب"، من أنه قال أثناء موقعة صفين التي اندلعت بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان عام 37هـ: "الصلاة خلف علي أتم، وسماط معاوية أدسم، وترك القتال أسلم"، وهي العبارة التي تتوافق مع ما يذكره محمود أبو رية في كتابه، من أن أبا هريرة كان معروفاً بإقباله على الطعام الطيّب الذي كان يُقدَّم على موائد معاوية، حتى سمّته بعض المصادر التاريخية بـ"شيخ المضيرة"، والمضيرة كانت نوعاً من الطعام الشهي المعروف عند العرب وقتها.
ومن بين المواقف المهمة التي يظهر فيها ولاء أبي هريرة السياسي المحض للأمويين، أنه لما وصل بسر بن أرطأة، قائد جيش الشام إلى المدينة، أوكل مهمة ولايتها لأبي هريرة، فظل أميراً عليها وإماماً على صلاة الجماعة فيها، حتى قدم جيش علي بن أبي طالب، فهرب، بحسب ما يذكر البلاذري في كتابه "أنساب الأشراف".
خدمات أبي هريرة الجليلة لمعاوية رد عليها الأخير بالهدايا والأعطيات، إذ منحه قصراً وضياعاً في وادي العقيق في المدينة، وزُوّج من مخدومته السابقة بسرة بنت غزوان بحسب ما يذكر ابن حجر، بل أن معاوية اعترف له بالجميل بعد وفاته عام 59هـ، عندما أرسل إلى والي المدينة الوليد بن عتبة أن "انظر مَن ترك، وادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم وأحسِن جوارهم وافعل إليهم معروفاً"، كما يذكر ابن سعد في "الطبقات الكبرى".