تركي الدخيل
في عصور التنوير، حدث تحولٌ تاريخي، غَيّر مسار البشرية. فبعد تهميش ٍطويلٍ، لعقل الفرد، واستقلاله الفكري، أخذ الفلاسفة مطارقهم مدافعين عن العقل، بوصفه أساس إدراك الإنسان، لذاته، ووجوده، وغيره.
صفّدت العصور الوسطى الإنسان بالأغلال، ليكون ضمن حشد مُسَيّر، فقد حُرم من مجرد التفكير واستخدام العقل، فالهدف كان أن يُسلم عقله، لمن يفكر بالنيابة عنه، ويقرر بالنيابة عنه، ويحدد له الصواب والخطأ، وما يجب فعله، وما ينبغي تركه!
تاريخنا الإسلامي، شهد مبادرات شجاعة، لدى فلاسفة كبار، دافعت عن العقل، وأكدت أن العقل البشري، يملك القدرة، والحق، في التفكير المستقل، وأن ذلك، لا يتعارض، مع الشريعة.
على سبيل المثال، فعل ذلك، الفارابي (ت:950(، وابن سينا (ت:1037)، والكندي (ت:873)، وعلى القمة، ابن رشد (ت:1198)، الذي ألف كتابه الشهير: (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال)، كما أنه دافع عن الفلسفة ضد منتقديها في كتابه: (تهافت التهافت)، الذي ردّ فيه على قيود وضعها على العقل، الغزالي (ت: 1111)، في كتابه: (تهافت الفلاسفة).
ابن رشد، دفع في كتابه، التناقض المزعوم بين الحكمة والشريعة، وهو أساس رفض التقليديين للعقل، والحكمة، والفلسفة.
منذ القرن السادس عشر، بدأت رحلة التفكير الطويلة، وهي رحلة لم تخل من متاعب وأضرار لحقت بأولئك العباقرة، منذ ديكارت (ت:1650) والعمود الفقري لنظريته كان: أنا (الذات) أفكر (الفكر)، إذاً أنا موجود (الوجود)، ثلاثة أضلاع لنظرية خارقة، لم تزل مؤثرة على البشرية.
دافع العباقرة عن العقل ببسالة، وكتب الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط (ت: 1804)، آخر فلاسفة عصر التنوير، مقالة استثنائية عام 1784، أجاب فيها عن سؤال: «ما الأنوار؟!» ترجمها، حميد لشهب، وفيها تحدث عن مفهوم التنوير قائلاً: «إن الأنوار هي خروج الإنسان، من القصور/عدم الرشد، الذي سببه لنفسه بنفسه. القصور هو إعاقة عدم استعمال المرء لعقله، دون قيادة شخص آخر. وتسبيب شيء للذات بالذات هو هذا القصور، عندما لا يكمن سبب هذا الأخير في ضعف في العقل، بل في غياب قرار وشجاعة استعمال العقل الذاتي دون قيادة شخص آخر. إن شعار الأنوار هو: لتكن لك الشجاعة لاستعمال عقلك الذاتي/الخاص... من الصعب لكل فرد الخروج من قصوره، الذي أصبح تقريباً جزءاً من طبيعته. إنه مغرم به )القصور)، وأصبح بالفعل، غير قادر على استعمال عقله، لأن المرء لم يُسمح له أبداً بالقيام بهذه المحاولة. فقوانين وصيغ الاستعمال، أو سوء الاستعمال الميكانيكي العقلي لمواهب الطبيعة، هي قيود عدم الرشد التي تكبر أكثر فأكثر».
تعريف كانط، للأنوار، أو التنوير، باختصار شديد: «كن شجاعاً، واستخدم عقلك».
باستخدامك لعقلك لن تنجو، ستختار أجوبتك، وطريقة حياتك، ستختار طريقة نجاتك، سترتكب أخطاءك، تلك هي طبيعة الحياة، لكنها بكل تفاصيلها نتيجة قرارك الفردي الخاص، وهذا مكمن القوة، أن يكون الإنسان حراً في إدارته لمسؤولياته، وحياته، ودنياه، من هنا بدأ التنوير، أن يكون الفرد حراً، وله حرية وضع إجاباته، وتطويرها مع الوقت.
بدأ التنوير، من شجاعة العقول، التي صاغت النظريات، وطورت المفاهيم، ورسمت الطريق منذ القرن السادس عشر، وحتى اليوم، ومقالة كانط تلك، بمثابة صيحة للناس أن يستيقظوا من السبات، فبالعقل تُكتشف الأعطال القديمة، وتُنزع الأغلال العتيقة.
يمكن اختصار عصور التنوير، باعتبارها مرحلة اكتمال وعينا الإنساني بضرورة استعمال «فكرنا الخاص». وتقودنا مسؤولية هذا الوعي إلى إعادة ابتكار الفكر ومناهج التفكير، وترتيبها من جديد، بما يتناسب مع واقعنا المتغيّر. نعم، هذه أمور شاقة، لكنها ضرورية، وتمنحنا فرصاً جديدة، وتوقف الأمراض التي يجرها علينا الجمود والكسل العقلي.
ما أحوج المجتمعات العربية والإسلامية لإعمال العقل، وتشجيع الابتكار المعرفي في المناهج والوسائل، لعل أمراض التعصب، والطائفية، والكراهية، تطردها حكمة العقل والتأمل، وفي واقعنا وتراثنا وتاريخنا ما يؤهل لمثل هذا وأكثر.. ولكن أين الشجعان!