بقلم دانيال بايبس:
لاحظ التباين: عندما زار ماتيو سالفيني، وزير الداخلية الإيطالي مؤخراً القدس، والتي رحب بها كعاصمة لإسرائيل، وصفه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنه "صديق عظيم لإسرائيل". لكن في إيطاليا، انتقد اليهود الليبراليون الإيطاليون سالفيني، لعدة أمور من بينها، سياسته الغجرية و"عنصريته على حد زعمهم ضد الأجانب والمهاجرين".
هناك معركة مماثلة بين دولة إسرائيل القوية ضد المجتمعات اليهودية الصغيرة والمتقلصة، والتي تحدث في العديد من الدول الأوروبية، حيث يدور الجدال دائماً حول نفس الموضوع: ما تسميه الصحافة بالأحزاب اليمينية المتطرفة، أو الشعبوية، أو القومية، والتي أُطلق عليها الأحزاب الحضارية (لأنهم يطمحون في المقام الأول للحفاظ على الحضارة الغربية). وتركز قيادة إسرائيل بشكل لا يثير الدهشة على السياسة الخارجية لهذه الأحزاب، وتعتبرها على نطاق واسع أفضل أصدقاءها في أوروبا، في حين أن المؤسسة اليهودية في أوروبا لا تقل تركيزاً على التشكيلات الداخلية للأحزاب، وتصورها على أنها معادية للسامية، بل وتثير العودة إلى الديكتاتوريات الفاشية في القرن العشرين.
ومهما بدت هذه المعركة اليهودية الداخلية هامشيةً وضيقة الأفق بالنسبة للعالم الأكبر، فهي في الواقع مهمة إلى حد كبير، مما قد يؤثر على المسار المستقبلي لأوروبا. وينتج ذلك عن السلطة الأخلاقية الفريدة التي أسبغتها الهولوكوست لليهود لتحديد من هو فاشي ومن ليس كذلك. أو، في صياغة أكثر هدوءاً لصحيفة وول ستريت جورنال، "بينما قد يمثِّل الناخبون اليهود جزءًا صغيرًا نسبيًا من الناخبين في العديد من الدول الأوروبية، فإن الفوز بدعمهم يمكن أن يساعد في تحسين الصورة العامة للأحزاب اليمينية المتطرفة". وإذا كانت الغلبة للقدس، يمكن للحضاريون أن ينضموا بسرعة وبسهولة أكبر إلى التيار السياسي في أوروبا، والوصول إلى السلطة، ومعالجة قضاياهم ذات الأولوية في السيطرة على الهجرة ومكافحة الأسلمة. أما إذا ما سادت المؤسسة اليهودية المحلية، فسوف يجاهد الحضاريون لفترة أطول لكسب الشرعية، وبالتالي سوف يصلون إلى السلطة ببطء أكبر ويحققون أهدافهم بألم أكبر بكثير.
يهود أوروبا
يبلغ عدد اليهود الذين يعيشون في أوروبا (باستثناء روسيا) حوالي 1,5 مليون نسمة في عدد سكان يبلغ حوالي 600 مليون نسمة، أو ربع واحد بالمائة؛ وهذا هو نفس عدد الهندوس وواحد على عشرين من عدد المسلمين. وعلى عكس تلك الطوائف الدينية الجديدة، يحمل اليهود تاريخًا مليئًا بألفيتين مضطربتين في أوروبا يميّزه الدم ونظريات المؤامرة الأخرى، والحروب الصليبية، والغيتو، والمذابح، التي بلغت ذروتها في محرقة الهولوكوست. وعلى عكس مجتمعات المهاجرين المتنامية، فإن التحديات المتزامنة للهجرة الجماعية للمسلمين، ومعاداة السامية المنتشرة، واليسارية المعادية للصهيونية تجعل حالة اليهود الأوروبيين محفوفةً بالمخاطر لدرجة أنه في فرنسا، حيث يشكل اليهود أقل من 1٪ من السكان، فإنهم يواجهون نحو 40٪ من أعمال العنف بدافع عنصري أو ديني في عام 2017. وأظهر استطلاع حديث للرأي أن 38 في المائة من يهود أوروبا يفكرون في الهجرة من أوروبا.
معرض المتحف اليهودي في برلين، ("Jerusalem ist jetzt in Berlin" القدس الآن في برلين)، يظهر الهلال و النجمة من الرموز الإسلامية.
ولا يزال هذا المجتمع المخيف تاريخياً في الوقت الحاضر يدفن رأسه في الرمال. مع الاستثناء الجزئي لفرنسا، يميل يهود أوروبا إلى تبني وجهات نظر شبه معادية للصهيونية لإرضاء منتقدي إسرائيل. وهذا يفسر مثل هذه الانتهاكات مثل مقارنة آنا فرانك هاوس في أمستردام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون بهتلر، في حين يؤكد معرض المتحف اليهودي في برلين بشكل شبه حصري على تاريخ المدينة الإسلامي وشخصيتها.
كذلك يظل القادة اليهود في حالة من الهدوء بشأن الهجرة الجماعية ويوجهون عداءهم الجماعي للأحزاب الحضارية، وهو عمل من الفضيلة المدنية اليهودية التي تتطلبها المؤسسة الأوروبية إذا كان على القادة اليهود أن يبقوا محترمين، وأن يحافظوا على وصولهم إلى الحكومة، وحتى تتم معاملتهم برفق من قبل وسائل الإعلام الرئيسية. في فرنسا، على سبيل المثال، قد يكون جيلبرت كولارد من الجبهة الوطنية "مدافعًا غير مشروط" عن إسرائيل، إلا أنك إذا امتدحت ما يقوله ستجد نفسك على الفور تُسمى عنصريًا منبوذاً من المجتمع المهذب.
من المؤكد أن بعض الحضاريين يحتفظون بالآراء العرقية والتآمرية والمتعصبة لليهود، وهناك حاجة إلى اليقظة لضمان أن صداقتهم المعلنة ليست مجرد تكتيك للفوز بالموافقة والشرعية. إلا أن الحضاريين ليسوا هم المشكلة الرئيسية لليهود. فعلى المستوى السياسي، هم لا يشجعون الهجرة غير المقيدة والتعددية الثقافية التي تتسامح أو تشجع حتى على الأسلمة، وهو التهديد الوجودي المزدوج للحياة اليهودية في أوروبا.
وعلى المستوى الشخصي، لا يشكل الحضاريون الخطر الرئيسي على اليهود، ففي مسح شامل للتمييز وجرائم الكراهية ضد اليهود، وجدت وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية أن "أخطر حوادث المضايقات المعادية للسامية" تُرتكب بنسبة 30٪ من "المسلمين المتطرفين"، و21٪ من قبل الجناح اليساري، و13٪ من الجناح اليميني. وبعبارة أخرى، فإن الإسلاميين واليساريين يضايقون اليهود أكثر بأربع مرات من الحضاريين.
وعلى الرغم من ذلك، فإن العديد من اليهود الأوروبيين - وقادتهم على وجه الخصوص - ينخرطون في تودد مُهين للمؤسسة - الأحزاب السياسية والإعلام والمؤسسات التعليمية - دافعين ثمن التفوق الأخلاقي لهذه القوى التي تدمر حيواتهم. وباستخدام مصطلحات بات يور، فقد تبنوا سلوك أهل الذمة (الوضع التاريخي للطبقة الثانية من الموحدين غير المسلمين الذين يعيشون تحت الحكم الإسلامي).
بنحاس جولشميت.
للحصول على مثال رئيسي لهذا، لاحظ الحاخام بنحاس جولشميت، رئيس مؤتمر الحاخامات الأوروبيين. فهو يحذر من أن رئيس الوزراء جيريمي كوربين ربما يجعل اليهود يغادرون المملكة المتحدة بينما يشوه صورة الحضاريين عاطفياً لأنهم يشكلون تهديداً بالعودة إلى "الديكتاتوريات الشمولية" وإدانة سياساتهم الموالية لإسرائيل باعتبارها تسعى بشكل غير شرعي إلى الحصول على تصديق "ختم كوشير".
إسرائيل
تقدِّر حكومة نتنياهو أن الأحزاب المناهضة للمؤسسة تصطدم بنموذج الأحزاب الأوروبية المليئة بالدفء والهدوء إلى حد كبير: في حين أن الثلاثة (رئيسة وزراء المملكة المتحدة تيريزا ماي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل) يتحدثون بشكل إيجابي عن إسرائيل، إلا أنهم يشاركون بشكل أكبر في نزع الشرعية عن إسرائيل في الأمم المتحدة ويدعمون الصفقة الإيرانية التي يعتبرها معظم الإسرائيليين تهديدًا مميتًا. وبشكل عام، يشير الصحافي الإسرائيلي الداد بيك إلى "ازدواجية الموقف الألماني الذي يرى أن برلين تعلن التزامها بوجود إسرائيل وأمنها، وفي نفس الوقت تدعم الجهات التي تقوض وجود وأمن الدولة اليهودية ".
على عكس مثل هذه السياسات الساذجة، تنظر الأحزاب الحضارية (مرةً أخرى، باستثناء فرنسي) إلى إسرائيل كشريك أخلاقي في الأسلحة وحليف ضد الحركة الإسلاموية. فهم يظهرون ذلك من خلال محاربة معاداة السامية، وبناء متاحف الهولوكوست، وإدانة الصفقة الإيرانية، والحث على نقل سفاراتهم إلى القدس، والتعلم من أجهزة الأمن الإسرائيلية، وحماية مصالح إسرائيل داخل الاتحاد الأوروبي. عاش جيرت فيلدرز من هولندا في إسرائيل لمدة عام، وزارها في وقت لاحق عشرات المرات. يعيش اليهود الأوروبيين بسلامة أكبر حيث يفرض الحضاريون ضوابط صارمة على الهجرة مما يؤدي إلى تعزيز التقدير الإسرائيلي، كما تشير إيفلين جوردن، في عام 2017، "لم يُبلغ يهود المجر البالغ عددهم 100ألف يهودي عن اعتداء جسدي واحد، في حين أبلغ يهود بريطانيا البالغ عددهم 250 ألف عن 145 حالة."
يناير 2015: جنديين بلجيكيين يقفان خارج المتحف اليهودي في بروكسل حيث قتل اسلامي أربعة أشخاص في مايو 2014. (الصورة لدانيال بايبس)
واستجابةً لهذا الدفء والأمن، تتعاون الحكومة الإسرائيلية بشكل متزايد مع الحضاريين - ولكنها تواجه بعد ذلك غضب يهود أوروبا الذين تعهدت بحمايتهم، مما أدى إلى حدوث مأزق. على سبيل المثال، ترغب القدس بوضوح في العمل مع وزيرة خارجية النمسا الموالية لإسرائيل، كارين كنايسل، المعيّنة من الحزب الحضاري في ذلك البلد، لكن اليهود النمساويين استنكروا بشدة هذا الاحتمال، وذهبوا إلى حد التحذير من أنهم "سيحاربون" القدس.
الخلاصة
نقطتان أوليتان: بالطبع، ليس هناك تجانس بين يهود أوروبا وحكومة إسرائيل. بولا بيلير في السويد، جيدي ماركوسازور في هولندا، وديفيز لازار في النمسا يمثلون أحزابهم الحضارية في البرلمان، ويدعم جودين من حزب البديل من أجل ألمانيا الأحزاب الحضارية الألمانية. وفي المقابل، يمثل رئيس إسرائيل، رؤوفين ريفلين، ذمياً: فهو بكتابته عن معاداة السامية في صحيفة لندنية، قد تجنَّب بأدب ذكر اسم كوربين في حين كان يصف الحضاريين في أي مكان آخربـ "الحركات الفاشية الجديدة ... التي لها نفوذ كبير وخطير جداً ")هذا على الرغم من اعترافه" بدعمها القوي لدولة إسرائيل "). وبالتوافق مع هذا الموقف، فقد رفض ريفلين مقابلة سالفيني.
ثانياً، لهذا التوتر الأوروبي ما يوازيه من الجانب الأمريكي: لحكومة إسرائيل علاقات أفضل بكثير مع إدارة ترامب أكثر من علاقتها بالمؤسسة اليهودية الأمريكية. ومن الأمور الرمزية لهذا، عندما ذهب دونالد ترامب إلى بيتسبرغ للتعبير عن حزنه بشأن مذابح 11 يهوديًا في كنيس يهودي، احتج المجتمع اليهودي المحلي على حضوره، تاركًا سفير إسرائيل في الولايات المتحدة وحده لاستقبال الرئيس.
إذا احتدمت المعركة، فإن النتيجة محسوبة بالفعل: دواعي المصلحة العليا في النهاية ستدفع الحكومات الإسرائيلية إلى تجاوز الاهتمامات اليهودية المحلية والعمل مع الحضاريين بينما يواصل يهود أوروبا الهجرة، مما سيجعل صوتهم أضعف من أي وقت مضى. سيكون هذا التطور شيئًا جيدًا، لأن الحضاريين ليسوا تهديدًا على نمط ثلاثينيات القرن العشرين كما يصوره السياسيون المعارضون ووسائل الإعلام الرئيسية، بل هم استجابة صحية لمشكلة غير عادية. في الواقع، كلما سيطر الصوت الإسرائيلي، كان ذلك أفضل للجميع - بما في ذلك أوروبا، وسكانها من اليهود، ودولة إسرائيل. والسؤال الوحيد هو، متى سيحدث هذا.
السيد بايبس ( (DanielPipes.org،Daniel Pipes هو رئيس منتدى الشرق الأوسط. © 2019 بقلم دانيال بايبس. جميع الحقوق محفوظة.
موقع دانيال بايبس